وفقاً لما جاء في تعبير وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، تستعرض إدارة الرئيس دونالد ترامب حالياً سبل مواجهة التحديات التي تفرضها إيران. ويعني ذلك، على الأرجح، البحث عن وسائل للحد من توسع إيران في الشرق الأوسط. ولكن لكي تكون أي خطة احتواء فعالة، يتعين على واشنطن دراسة استراتيجية إيران الناشئة حديثاً في بلاد الشام، ويجب أن تدرك أنّه على الرغم من أنّ طهران لا تزال تأمل في تحقيق الهيمنة الإقليمية على المدى الطويل، إلا أنّ خطتها الحالية هي التركيز على تحقيق الهيمنة والحفاظ عليها في العراق ولبنان وسوريا. ويوفر المستنقع الدموي الذي يضم تلك الدول الثلاث المزيد من الفرص لإيران لتعزيز سلطتها، حيث أن المواجهة هناك ستكون بالتأكيد قل خطورة من نظيرتها في دول الخليج، لأنه سيتعين على إيران التعامل مع الولايات المتحدة وحلفائها في هذه المنطقة الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للنجاح في النهج المرحلي الضيق أن يقوي في نهاية المطاف يد طهران أمام السعودية وغيرها من دول الكتلة السنية.
ويعتبر الجنرال «قاسم سليماني»، قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، أحد المسؤولين عن تنفيذ رؤية السياسة الجديدة. فعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كان مشغولاً بإعداد أسس البناء لممرٍ واحد على الأقل، لكن على الأرجح ممرّين برّيين عبر بلاد الشام (أحدهما في الشمال والثاني في الجنوب)، يربطان إيران بالبحر الأبيض المتوسط. وتصل المسافة التي يقطعها هذان الممران إلى 800 ميل على الأقل من حدود إيران الغربية مروراً بوادِيَيْ دجلة والفرات والمساحات الشاسعة من الصحراء في العراق وسوريا، مما يوفران رابطاً مع «حزب الله» في لبنان، لينتهيا عند حدود هضبة الجولان [مرتفعات الجولان]. وسيخدم هذان الممران كسلسلتين لنقل المعدات العسكرية أو مقاتلي الميليشيات عند الحاجة.
ووفقاً لما ذكره عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين، تتمثل الفكرة بتكليف القوات التي تعمل بالوكالةعن إيران بالإشراف على هذين الممرين، مثل «حزب الله» ومختلف الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران في العراق وسوريا لكي تتجنب طهران استخدام قواتها العسكرية لضبط الممرين. (ولطالما امتنعت إيران عن استثمار القوة البشرية الخاصة بها في الخارج). وستتمكن الميليشيات التي تعمل بالوكالةعن إيران من تأمين قوةٍ ميدانية يتراوح عددها بين150,000 إلى 200,000 مقاتل، من بينهم 18,000 شيعي أفغاني و3,000 إلى 4,000 شيعي باكستاني، بالإضافة إلى ميليشيات صغيرة مسيحية ودرزية. وقد تم بالفعل نشر بعض هذه القوات في قطاعاتٍ مختلفة على طول الممرين المتوخّين. وستتمكن إيران أيضاً من تجنيد المزيد من الشيعة، وخاصة اللاجئين من أفغانستان وباكستان الذين يبحثون عن فرص عمل وقضية يخدمونها.
وسيعبر الممر الشمالي من إيران مروراً بمحافظة ديالى [في العراق] التي أصبحت اليوم ذات أغلبية شيعية، ونحو محافظة كركوك وبلدة الشرقاط إلى الشرق، وصولاً إلى سوريا عبر المنطقتي الجبليتين تلعفر وسنجار. ويعني ذلك أنّ القوافل الإيرانية ستصل إلى الحدود الكردية السورية التي أعيد ربطها بالفعل بالمناطق الخاضعة لسيطرة الرئيس السوري بشار الأسد. ومن أجل التقدّم عبر هذا الممر، سوف يتعيّن على الإيرانيين ضمان عدم تدخل الحكومة العراقية أو القوات الكردية في الغرب. وفي ضوء تزايد النفوذ الإيراني على الحكومة العراقية وقواتها المسلحة، يبدو من المستبعد جداً أن تعارض بغداد مرور القوافل الإيرانية بشكلٍ جدّي. وينطبق ذلك على الأكراد أيضاً. وفيما يتعلق بقوات “البشمركة” – القوات العسكرية الخاصة بالحزبين السياسيين الكرديين الرئيسيين فى العراق، «الاتحاد الوطني الكردستاني» و «الحزب الديمقراطي الكردستاني» – فقد لا ترغب في عرقلة حركة الجنود الإيرانيين التي لا تهدد مصالحها. أمّا قوات «حزب العمال الكردستاني» في سنجار، فتربطها علاقات وثيقة مع إيران. وفي تلعفر، بدأت بالفعل الميليشيات الموالية لإيران بعملياتها بموافقةٍ من الولايات المتحدة. وفي المنطقة الكردية من سوريا المعروفة لدى الأكراد بـ”منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا” أو “روج آفا”، يتعرض الأكراد الذين يحكمهم «حزب الاتحاد الديمقراطي» لتهديداتٍ مستمرة من تركيا التي تعتبر أنّ «حزب العمال الكردستاني» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» مجموعتان إرهابيتان، وبالتالي تنظران إلى إيران كقوةٍ صديقة.
ولم يؤدِّ التصاعد في حدة التنافس بين تركيا وإيران في بلاد الشام حتى الآن إلى أي احتكاكٍ على الأرض. ومن المرجح أن يبقى الوضع على ما هو عليه في المستقبل المنظور. ويبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يفضّل الحرب البلاغية بدلاً من الحرب الفعلية ضد إيران. كما يدين أنشطة طهران في بلاد الشام، أو ما يسميها بـ “التوسع الفارسي”. ولكن وفقاُ لتصرفات أردوغان حتى الآن، سوف يتردد في استخدام نفوذه الملحوظ على الأكراد العراقيين والأقلية التركمانية في العراق وسوريا والميليشيات العربية السنية في محاولة لإحباط المخطط الإيراني.
ومن شأن الممر الجنوبي، أن يسمح بالتحرك من إيران وعبر المحافظات الشيعية في العراق، ثم بالطريق الصحراوي الرئيسي في محافظة الأنبار، وينتقل عبر شرق سوريا قبل الوصول إلى دمشق. وتكمن المشكلة الرئيسية لهذا الطريق في أنّ سكان محافظة الأنبار من الأغلبية السنية ينظرون إلى إيران كقوة معادية ومحل شك. إلّا أنّ معظم السكان السنة البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة يقيمون في أربع مدنٍ كبيرة هي الفلوجة وحديثة والرمادي والقائم، ويمكن تجنبها بسهولة من خلال سلك طرقٍ عبر المناطق الريفية القاحلة وذات الكثافة السكانية المنخفضة. وفي هذه المناطق نفسها، كانت الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران قد حاربت إلى جانب الجيش العراقي لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، وما زالت تحافظ على بعض المعاقل على طول الطريق السريع. وفي هذا الصدد، من غير المرجح أن تعترض قوات الأمن العراقية، المتمركزة على طول الطريق الصحراوي في الأنبار، مرور القوافل القادمة من إيران أو الميليشيات الحليفة لها. وستكون القبائل السنية المحلية مترددة في إشعال أي صراع، لا سيما ذلك الذي لا تستطيع الانتصار فيه. وقد تحثّ إيران هذه القوى أو ترشوها أو تجبرها على صرف النظر عن القوافل الإيرانية التي تعبر أراضيها.
وعلى مدى العقد القادم، تعتزم إيران تحديث ترسانتها العسكرية التي عفا عليها الزمن. وسيؤمّن ذلك لكل من «الحرس الثوري الإسلامي» و”جيش جمهورية إيران الإسلامية” (“ارتش”) المدفعية المتحركة والدبابات والمعدات الأخرى اللازمة للنظر في تشكيل قوة بعيدة المدى في يومٍ من الأيام “مخصصة للحملات العسكرية خارج إيران” من أجل تعزيز ميليشياتها المتحالفة. ومن خلال استخدام إيران لقوة جوية متطورة، يمكنها أن توفر تغطية للقوات البرية التي تتحرك على طول الممرين، سواء لتأكيد نفوذها على الفصائل السياسية والقبائل والطوائف المحلية، أو لنشر القوات بالقرب من الحدود الإسرائيلية.
وبمجرد أن تهدأ المعارك الدائرة في سوريا والعراق، ستواصل إيران على الأرجح تطوير ميليشياتها التي تعمل بالوكالة في كلا البلدين، وبالطريقة نفسها التي تدعم فيها «حزب الله» في لبنان. وفي العراق، سبق وأن حصلت الميليشيات التي ترعاها إيران – والتي تشكّل جزءاً من «وحدات الحشد الشعبي»، وهي مظلةٌ تضم عشرات الميليشيات الشيعية بأغلبيتها – على اعتراف بغداد الرسمي بها ونالت التمويل منها. وفي سوريا أيضاً، إذا ما بقي الأسد في السلطة، تخطط إيران لشمل مجموعتها الواسعة من الميليشيات تحت بنيةٍ شبه عسكرية طوعية على غرار قوات “الباسيج”، تخضع فعلياً للسيطرة الإيرانية. وتهدف هذه الميليشيات إلى المساعدة في الحفاظ على الحكومات الحليفة لإيران في جميع أنحاء بلاد الشام والحفاظ على الممرين من خلال إقامة سلسلة من النطاقات المحلية والتحالفات التي تخدم هذا الهدف، مع العناصر الفاعلة المحلية على طول الطرق.
غير أنّ الهدف النهائي من هذين الممرين هو توسيع نطاق وصول إيران إلى هضبة الجولان بهدف تشديد الخناق على إسرائيل. ويعبّر الإيرانيون بشكلٍ علني عن اهتمامهم الكبير في فتح جبهة الجولان لوكلائهم، ويعمل ضباط رفيعو المستوى من «الحرس الثوري الإسلامي» حالياً في تلك المنطقة على إنشاء ميليشيا جديدة هي “فوج الجولان” المؤلفة جزئياً من فلسطينيين مقيمين في سوريا. ويقوم أحمد جبريل، القائد المخضرم لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة»، التي ترعاها إيران، بالدعوة إلى هذه الخطوة في مرتفعات الجولان، وترددت هذه الدعوة في وسائل الإعلام السورية الرسمية في أوقات مختلفة. ومن شأن هذا التكتيك أن يوسع خط المواجهة الحالي في لبنان بين «حزب الله» وإسرائيل وصولاً إلى نهر اليرموك حيث تلتقي الحدود السورية- الأردنية- الإسرائيلية. وقد بدأ بعض قادة الميليشيات العراقية التي ترعاها إيران، مثل “حركة النجباء”، بالتحدث علناً عن نيتهم في نقل قواتهم إلى جبهة الجولان. وقد ردّت إسرائيل عدة مرات على الهجمات القادمة من تلك المنطقة وقُتل جنرال إيراني خلال تلك الاشتباكات.
ورداً على خطة إيران الرامية إلى ضمان نفوذها في بلاد الشام، يتعين على إدارة ترامب العمل مع نظرائها الإقليميين لإحباط محاولة إيران بناء هذين الممرين. يجب تشجيع تركيا، وهي الدولة الحليفة في “الناتو”، على مقاومة الجهود الإيرانية للسيطرة، من خلال هذين الممرين، على الطرق التجارية الرئيسية التي توفر عبور جزء كبير من الصادرات التركية إلى العالم العربي. أمّا الأكراد في كل من العراق وسوريا، فيجب تزويدهم بالمعدات العسكرية التي تمكّنهم من مواجهة الميليشيات الشيعية. يتعين على الأردن أن يقدّم المساعدة للسكان السنّة في غرب العراق، وكذلك لقبائل شمر البدوية في الصحراء السورية، التي تجمعها روابط تقليدية مع السعوديين، في تنظيم قواتهم. ويتعين على الولايات المتحدة أن تدعم جهود إسرائيل لمنع الإيرانيين من تأمين موطئ قدمٍ على الجانب السوري من هضبة الجولان. والأهم من كل ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تواصل الحديث مع روسيا، وأن تصر على رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عاجلاً وليس آجلاً.
إهود يعاري
معهد واشنطن