يدرك العارفون بطبيعة النظام الحاكم في إيران ومراكز القوى المحددة لآلياته وضوابطه الرئيسية أن استمرار روحاني لولاية ثانية لا يمثله لوحده ضمانة للاستمرار سياسات الإصلاح الداخلي والانفتاح خارجيا على الرغم من التأييد الذي أعلنه الناخبون الإيرانيون لهذا الخيار عبر تصويتهم الواسع لروحاني.
ويضع هذا التحليل فوز روحاني بولاية رئاسية ثانية عند إطارها الطبيعي والذي تمليه جملة من الظروف الداخلية والخارجية ونتيجة لبراغماتية قيادة النظام وطبيعة المرحلة ومتطلباتها الاستراتيجية.
وبعد نشوة الانتصار، يواجه روحاني عددا من التحديات وعلى رأسها عداء الولايات المتحدة ومعارضة المحافظين المتشددين لسياسة الإصلاح والانفتاح التي ينتهجها حيث أن مؤسسات التيار الأصولي الراسخ في البلاد، لا سيما في القضاء والحرس الثوري تشكك بعمق في كلام روحاني عن الحريات المدنية وبناء علاقات مع الغرب.
مخاوف وتحديات
يكشف التقرير الصادر عن مركز المستقبل للدراسات السياسية بأبوظبي جانبا مهما من دلالات الانتخابات الإيرانية واتجاهات سياسات روحاني وفرضيات تصادمها مع المتشددين والغرب.
وتخلص الدراسة إلى أن الدعم الكبير الذي حظي به المرشح المتشدد إبراهيم رئيسي من جانب مؤسسات التيار المحافظ وعلى رأسها الحرس الثوري، ووسائل الإعلام التابعة لها أنتجت في النهاية تداعيات عكسية، ودفعت القاعدة الشعبية المؤيدة للإصلاحيين وجناح المحافظين التقليديين إلى التصويت بكثافة لصالح روحاني، ليس فقط من أجل تمكينه من تجديد ولايته الرئاسية لفترة جديدة حتى عام 2021، وإنما أيضًا بهدف منع المحافظين الأصوليين من الانفراد بالسلطة من جديد وإقصاء خصومهم السياسيين منها على غرار ما حدث عقب انتهاء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأسبق محمد خاتمي عام 2005.
ويبدو أن النظام الإيراني حرص على تمرير فوز روحاني دون أي عقبات، تجنبًا لتكرار سيناريو انتخابات 2009، عندما اندلعت أزمة سياسية حادة فرضت تداعيات سلبية عديدة على شرعية النظام لم ينجح حتى الآن في التعامل معها، بدليل تمسكه بفرض الإقامة الجبرية على قيادات المعارضة خاصة مير حسن موسوى ومهدي كروبي وتقييد حركة خاتمي، وبدليل إصرار نخبة من الإيرانيين على التنديد بالسياسات التي يتبناها قادة النظام في التعامل مع قادة وأنصار الحركة الإصلاحية.
وعلى ضوء ذلك، فإن أي تدخل سافر في الانتخابات كان من الممكن أن يؤدي إلى تصاعد حدة الاحتجاجات من جانب القوى التي تنتمي إلى تيار الإصلاحيين والجناح التقليدي من تيار المحافظين، التي سبقت أن قادت التظاهرات التي نظمت في عام 2009 اعتراضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
ومن دون شك يكتسب تجنب تكرار هذا السيناريو أهمية خاصة لدى النظام الإيراني، لعدة اعتبارات أبرزها أن الضغوط الخارجية التي يتعرض لها النظام لا توفر له حرية حركة وهامش مناورة واسعًا قد يساعده في تمرير مرشحه المفضل في الانتخابات الرئاسية، خاصة في ظل التصعيد الحالي مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لكن اكراهات البراغماتية السياسية المفروضة على المحافظين قد تزيد من حدة التجاذبات حول صياغة القرار السياسي والذي تعمل الدائرة المضيقة للخامنئي على احتكاره وسحب صلاحياته من روحاني نتيجة شعور القيادة المتشددة ومعسكر المحافظين بالقلق إزاء توجهاته الإصلاحية.
ويقول الخبير في الشؤون الإيرانية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية كليمان ثيرم إن “المؤسسات غير المنتخبة ستحاول منع روحاني من تطبيق برنامجه الإصلاحي”.
وأضاف “بالتالي، فانه سيركز على الجانب الاقتصادي. وإذا تحسنت معيشة السكان فسيكون في وضع أقوى للدفع قدما بإصلاحات هيكلية للحقوق المدنية”.
ولن تكون عملية تحسين الاقتصاد أمرا سهلا. فرغم الاتفاق النووي مع القوى العالمية، لا تزال واشنطن تفرض مجموعة من العقوبات التي تمنع البنوك العالمية والمستثمرين الأجانب من الاستثمار في إيران.
ويطرح فوز روحاني أيضًا دلالة بأن النظام الإيراني يسعى إلى تأكيد التزامه العمل بالاتفاق وعدم إجراء تغيير بارز في سياسته تجاهه، وذلك على الرغم من التصعيد المستمر مع الولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن العقبات العديدة التي مازالت تحول دون حصول إيران على العوائد الاقتصادية والتكنولوجية التي كانت تنتظرها منه إلا أن الاتفاق لا يزال يحظى بدعم وتأييد شعبي كبير في الشارع الداخلي.
ومن هنا، فإن النظام حريص على عدم تحمّل المسئولية الدولية التي سوف تترتب على أيّ إخفاق للاتفاق خلال المرحلة القادمة، وهو ما كان يمكن أن يحدث في حالة ما إذا فاز إبراهيم رئيسي منافس روحاني، الذي إن كان أعلن التزامه بالاتفاق، إلا أن قربه من الحرس الثوري، الذي يبدي تحفظات عديدة على الاتفاق، فضلا عن مواقفه المتشددة تجاه القضايا الخارجية والداخلية، يؤشر إلى أنه كان من الممكن أن يقدم على اتخاذ إجراءات قد تزيد من العقبات التي تواجه استمرار العمل بالاتفاق.
وتسهدف رسالة التهدئة التي تبعث بها إيران إلى الخارج عبر انتخاب روحاني بشكل الخاص الولايات المتحدة بهدف التقليل من حدة التصعيد في مواجهة مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب والذي هدد خلال الحملة الانتخابية بتمزيق الاتفاق النووي، كما انه لا يوفر فرصة لتوجيه اتهامات وانتقادات شديدة اللهجة إلى طهران لكنها تزامنت أيضا مع الزيارة التي يؤديها ترامب إلى السعودية، الخصم الإقليمي لإيران، وتوقيعه صفقة أسلحة بقيمة 110 مليارات دولار وصفت بأنها تستهدف مواجهة “المد والنفوذ الإيراني” في المنطقة.
وعلى عكس التهديدات الأميركية فان الحكومات الأوروبية والآسيوية أبدت تمسكها بالاتفاق النووي والاستفادة الكاملة من فرص الاستثمار المربحة في إيران.
وتشيد هذه الحكومات بفوز روحاني على المتشدد إبراهيم رئيسي الذي كان هدد بنهج أكثر صرامة في العلاقات مع الخارج.
وقال المستشار الدولي لهيئة الخصخصة الإيرانية فريد دهديلاني بعد إعلان نتائج الانتخابات السبت إن “الكثير من المستثمرين الذين لم أسمع منهم منذ ثلاثة أشهر اتصلوا بي فجأة صباح السبت وبعضهم حجز تذاكره”.
وأضاف أن “روحاني سيواصل بشكل أكثر فاعلية جدول أعماله الاقتصادي، الاستثمار في المصانع والإنتاج وامتصاص رأس المال الأجنبي. أعتقد أن حكومته ستكون أكثر شبابا ومرونة”.
البراغماتية السياسية المفروضة على المحافظين قد تزيد من التجاذبات حول صياغة القرار السياسي داخل السلطة
يخشى الكثيرون من أن تكون فترة ولاية روحاني الجديدة مشابهة للولاية الثانية للرئيس الأسبق محمد خاتمي في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، عندما أحبطت المؤسسة المتشددة كل محاولة للإصلاح وواجه روحاني خلال الأربع سنوات الأولى من رئاسته عقبات كبيرة شملت خاصة إخفاقه في الإفراج عن زعماء المعارضة المسجونين و كذلك التصدي لعمليات اعتقال العديد من المواطنين الذين يحملون جنسية مزدوجة من طرف أجهزة الاستخبارات التي تبقى خارج سيطرته فضلا عن الحد من سيطرة قوات الأمن على قطاعات واسعة من الاقتصاد.
لكن روحاني، وهو من داخل النظام، قد يكون في وضع أفضل من سابقيه، كما يقول أستاذ السياسة فواد إيزادي من جامعة طهران.
ويضيف إيزادي “لقد برز روحاني كسياسي أكثر ذكاء من خاتمي فلقد كان روحاني جزءا من النظام لفترة كافية لمعرفة كيفية التحرك داخله. لكن خاتمي كان أكثر أيديولوجية، الأمر الذي قلّص قدرته على إنجاز الأمور”.
الأهم من ذلك أن نهج روحاني التكنوقراطي سمح له باختيار شخصيات محافظة مهمة مثل رئيس البرلمان علي لاريجاني.
ويقول ايزادي إن “التحالف مع لاريجاني كان مفيدا جدا لروحاني في الحصول على الوزراء والسياسات المعتمدة. وسيظل ذلك حاسما في ولايته الثانية”.
موقع القيادة
ويبقى السؤال الكبير على المدى الطويل، ما إذا سيكون لروحاني تأثير في صعود المرشد الأعلى المقبل بعد وفاة المرشد الحالي آية الله علي خامنئي؟
ويقول إيزادي إن رئيسي الذي وصف بأنه خليفة محتمل، بات الآن خارج الدائرة.
ويضيف أستاذ السياسة بجامعة طهران “ربما سيعود بعد أربعة أعوام. ولكن مع هذا النوع من الأداء يمكننا أن نطمئن إلى أن رئيسي لن يكون المرشد الأعلى المقبل. يجب أن يكون هناك تأييد شعبي للمرشد”.
ولكن مع سيطرة المتشددين بقوة على مجلس الخبراء الذي سيختار المرشد المقبل، لن يكون لروحاني وحلفائه تأثير يذكر في مسالة الخلافة”.
ومع ذلك، فقد أظهرت نتائج الانتخابات دليلا واضحا على أن سكان إيران الشباب يدعمون رؤية روحاني بالنسبة إلى مستقبل البلاد.
ويقول علي فائز من مجموعة الأزمات الدولية إن “الشعب الإيراني لم يعد يؤمن بالاقتصاد الشعبوي والتغيير الجذري”.
ويضيف “لديه ما يكفي من النضج لكي يفهم أن حل مآزق بلاده يكمن في الإدارة الكفؤة للاقتصاد والاعتدال في العلاقات الدولية”.
ولعل أبرز دليل على ذلك انتزاع الإصلاحيين خلال انتخابات الجمعة بلدية طهران من المحافظين الذين كانوا يسيطرون عليها منذ 14 عاما.
صحيفة العرب اللندنية