عندما عين يانيس فاروفاكيس وزيرا للمالية في حكومة سيريزا اليسارية في اليونان سنة 2015، تعهد الخبير الاقتصادي بالتصدي لإجراءات التقشف المفروضة من المفوضية الأوروبية في إطار سياسة الإنقاذ المالية التي فرضتها دول الاتحاد على بلاده. ووصف فاروفاكيس برنامج التقشف بالكارثة الإنسانية، رافضا ما اعتبره سياسة “إذلال اليونانيين”.
لا تترجم مواقف الخبير الاقتصادي اليوناني بحسب العارفين عداوة يسارية مفرطة تجاه المنظومة الليبرالية، أو محض دعاية سياسية لمغازلة الناخبين، بقدر ما تكرس مقاربة علمية لأبعاد الأزمة الاقتصادية في اليونان والتي لا تعتبر حالة منفردة بقدر ما تمثل استمرارا لتبعات الأزمة المالية العالمية.
انبنت رؤية فاروفاكيس على إثبات عبثية حزمة الإنقاذ الأوروبية لليونان، والهادفة إلى إعادة جدولة ديونها وتمكينها من قروض جديدة لتسديد فوائد الديون المستحقة لصندوق النقد والبنك الأوروبي، ما يعني إدخال البلاد في حلقة مفرغة من العجز المزمن.
ومثلت التجربة اليونانية فرصة لتأكيد نظريات فاروفاكيس الأكاديمية في تفكيك المنظومة المالية العالمية وتبيان أوجه قصورها، والتي تبقي برامج الإنقاذ عند الأزمات محدودة التأثير، بالنظر إلى أنها فصلت على مقاس أصحاب رؤوس الأموال لحماية أصولهم المالية وتقليل خسائرهم إلى الحد الأدنى، دون معالجة معمقة لأسباب المشكلة.
واكتست أفكار فاروفاكيس المزيد من الاهتمام في الأوساط الاقتصادية العالمية عندما تناول بالتحليل الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم سنة 2008 في كتاب ‘المينوتور العالمي-أميركا وأوروبا ومستقبل الاقتصاد العالمي’. كانت تحاليل الرجل تذهب إلى أن الفقاعة العقارية التي انفجرت في الولايات المتحدة تعد الشرار القادح لأزمة بلغت مستوى الكتلة الحرجة بين تفاعلات النظام العالمي.
وكان فاروفاكيس أول من لمح نذر الغيوم التي كانت تتجمع في سماء اليونان انطلاقا من تبعات الأزمة العالمية من خلال عمله على مشروع الكتاب أواخر العام 2008، لكنه وفي خضم قراءات متباينة عن الوضع الاقتصادي الداخلي حاول التقليل من سقف توقعاته عند إعداد مسودة المخطوط.
ويصف الباحث البريطاني تيري إيجلتون كتاب المينوتور العالمي، والذي صدرت مؤخرا ترجمته للعربية بأنه “من الكتب النادرة للغاية التي يمكن أن نقول عنها إنها جاءت في الوقت المناسب وفي مرحلة الضرورة القصوى”. اعتمد فاروفاكيس في الكتاب منهجية نسفت المقولات المتداولة التي تلخص الأسباب الجذرية للأزمة المالية عند مستوى السياسات التمويلية، والتنظيم غير الفعال للبنوك، والجشع والعولمة.
واعتبر أن تلك المشاكل المرتبطة بالنظام المالي عبارة عن أعراض لمرض أعمق بكثير يمكن تتبع مساره منذ الكساد العظيم عام 1929، حتى سبعينات القرن الماضي العقد الذي ولد فيه المينوتور العالمي. اعتمد الخبير الاقتصادي اليوناني مقارنة جدلية بين فكرة المينوتور الذي يقود الاقتصاد العالمي وأسطورة المينوتور المينوسي وهي أسطورة إغريقية قديمة.
وهكذا ومثلما غرق الأثينيون بالتدفق المستمر للقرابين المقدمة إلى الوحش الكريتي، أخذ العالم بإرسال كميات مهولة من رأس المال إلى الولايات المتحدة الأميركية وإلى وول ستريت. وهكذا أصبح المينوتور العالمي عبارة عن “القاطرة” التي سحبت الاقتصاد العالمي من بدايات عقد الثمانينات حتى عام 2008.
يتحدث فاروفاكيس عن دلالات مصطلح المينوتور الذي وظفه في الكتاب لوصف آليات توجيه النظام الاقتصادي والتحكم به قائلا “استلهمت استعارة المينوتور العالمي سنة 2002، بعد محادثات طويلة للغاية مع المؤلّف المشارك جوزيف هاليفي. كانت نتيجة مناقشاتنا بشأن السبب الذي جعل العالم مديونا بعد الأزمات الاقتصادية في السبعينات، الوصول إلى وجهة نظر متماسكة، وعلى الرغم من تعقيدها إلا أنها كانت تبين دور النظام الاقتصادي العالمي في كلّ من العجز الأميركي، ووول ستريت، وتراجع القيمة الحقيقية باستمرار للأجور الأميركية”.
ويضيف “كان جوهر حجّتنا يقوم على أن السمة المميّزة لحقبة ما بعد عام 1971، كانت في عكس اتجاه تدفّق التجارة وفوائض رؤوس الأموال بين الولايات المتحدة وبقية العالم، وهو ما عزز ولأول مرّة في التاريخ من هيمنة الولايات المتحدة من خلال توسيع عجزها وزيادته عمدا. كانت الخدعة تقوم على فَهْم كيفية إنجاز أميركا لهذا، والطريقة المأساوية التي أدّى نجاحها للسياسات التمويلية التي عزّزت السيطرة الأميركية، وزرعت في الوقت نفسه بذور سقوطها المحتمل. وكان جزء من الخدعة نشر سردية المينوتور العالمي، والتي وُلدت كمحاولة لتبسيط تعقيد هذه الحجّة”.
وتمثل كل من الأزمة الحالية في أوروبا، والمناقشات الساخنة حول إجراءات التقشف مقابل المزيد من الحوافز المالية في الولايات المتحدة، والصدام بين السلطات الصينية والإدارة الأميركية حول أسعار الصرف أعراضا حتمية لضعف المينوتور، وللنظام العالمي الذي أصبح اليوم غير قابل للاستدامة ومفتقرا للتوازن. ويذهب فاروفاكيس أبعد من ذلك ليحدد الخيارات المتاحة أمامنا لتطبيق قدر من المنطق في نظام اقتصادي عالمي يفتقر تماما إلى العقلانية.
ويحمل الكتاب تفسيرا جوهريا للأحداث الاجتماعية والاقتصادية والتواريخ الخفية التي شكلت عالمنا كما نعرفه اليوم، مؤكدا عجز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأي طرف آخر، عن استعادة النمو العالمي بنسقه السابق كما يعكس المضمون محاولة للتواصل مع القارئ غير المتخصّص الذي يمكنه من خلال الاستعارة الرمزية لفكرة المونيتور فهم أزمة عالمية معقدة من خلال جمع كل التفسيرات المختلفة للوصول إلى تحليل شامل “للترتيبات” العالمية التي تحطّمت وتلاشت في عام 2008، تاركة عالمنا في حالة من خيبة الأمل والذهول.
وأكدت المقترحات التي صاغها فاروفاكيس سنة 2010 لمعالجة أزمة اليورو صحة توقعاته بشأن مسار الأزمة الاقتصادية العالمية، والتي وصفها في مقدمة الكتاب بأنها جاءت بمثابة فرصة لامتحان نظرية المينوتور واختبار مختلف الفرضيات الثانوية بالكتاب من خلال إسقاطها على وضع العملة الأوروبية.
وينتهي فاروفاكيس من مناقشة الجدل حول صحة نظرية المينوتور العالم بالخلاصة إلى تساؤل لا يزال حاضرا في ذهنه والذي بات المنطلق الأول للفكرة “أعطي بين الحين والآخر مقابلات سريعة لبعض الشبكات الإخبارية التي تسألني السؤال نفسه؛ ما الذي ينبغي القيام به لكي تخلص اليونان نفسها من الكساد الكبير الذي تعانيه؟ كيف ينبغي أن تستجيب إسبانيا أو إيطاليا للمطالب التي يخبرنا المنطق أنها ستجعل الأمور أكثر سوءا؟ الجواب الذي أردّده دائما برتابة متزايدة أنه لا يمكن لبلداننا القيام بشيء آخر سوى أن تقول “لا!” للسياسات التافهة التي تهدف إلى تعميق الكساد لأسباب ملفّقة، لا يمكن سوى لدراسة معمّقة لإرث المينوتور العالمي أن تكشفها”.
محمد الحمامصي
صحيفة العرب