بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ بدأ تطبيق المخططات الدولية المرسومة لمنطقة الشرق الأوسط، فكانت معاهدة سايكس بيكو عام 1916 هي الأولى، وأطلِق وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، ثم وُقعت معاهدة لوزان الدولية عام 1923.
ومعاهدة لوزان هي التي حسمت سياسياً وقانونياً المسألة الشرقية (تصفية وتوزيع تركة الإمبراطورية العثمانية)، وأثبتت المعادلة الدولية الجديدة -التي انبثقت عن مؤتمر للسلام عُقد آنذاك- أن الأكراد كانوا الخاسر الأول.
إحباط الحلم الكردي
إن إحباط الحلم القومي للأكراد بإقامة دولتهم يعود لأسباب عديدة منها: أولاً طبيعة الجغرافيا السياسية للأراضي الكردية التي تتميز بفقدانها العمق الإستراتيجي، الذي يسمح للأكراد بالمناورة على مستوى دولي لتعزيز موقفهم عالمياً.
إن غياب الاتصال المباشر مع العالم الخارجي، وفقدان الممر المائي البحري نحو الخليج والمتوسط والبحر الأسود، تبقى من أهم نقاط ضعف المشروع الكردي، لكون المناطق الكردية تتسم بجغرافية صعبة، وزيادة على ذلك فهي محصورة بين ثلاث قوميات مختلفة (عرب وأتراك وإيرانيين).
“إن غياب الاتصال المباشر مع العالم الخارجي، وفقدان الممر المائي البحري نحو الخليج والمتوسط والبحر الأسود، تبقى من أهم نقاط ضعف المشروع الكردي، لكون المناطق الكردية تتسم بجغرافية صعبة، وزيادة على ذلك فهي محصورة بين ثلاث قوميات مختلفة (عرب وأتراك وإيرانيين)”
ثانيا، إن اكتشاف النفط في منطقة الشرق الأوسط أثّر على مسيرة ومستقبل المنطقة، الأمر الذي جعل القوى العالمية (بريطانياوفرنسا) تركز على مصالحها الاقتصادية، ولو كان ذلك على حساب كرامة شعوب المنطقة، فاسُتخدمت المؤتمرات والمعاهدات الدولية للقضاء على أي محاولة تضر بالمصالح الغربية، ومنها منع إنشاء دولة كردية.
ثالثاً، كانت هناك رغبة أوروبية قوية في المحافظة على دولة تركيا لكن مع بقائها مقزّمة الحجم، لكي تبقى عقبة أمام طموحات روسيا في السيطرة على مضائق الدردنيل والبوسفور.
وهذا ما حدث عام 1922 عندما أثارت سيطرة اليونانيين على إزمير في آسيا الصغرى مخاوف بريطانيا من التعاون الأرثوذوكسي اليوناني الروسي، وعواقبه على مستقبل المنطقة ومصالح الغرب. ولكي تُستخدم تركيا العلمانية كذلك لدرء أي خطرٍ قادم من الشرق تجاه القارة الأوروبية. ولهذا السبب بقي الواقع كما هو عليه بالنسبة للأكراد.
رابعاً، إن عامل انقسام الأكراد والصراع الداخلي في البيت الكردي لعب دورا سلبياً في عملية النضال الكردي ودفع القضية الكردية إلى الأمام. وقد استمرت حالة اللامبالاة الدولية تجاه الأكراد حتى تاريخ انحلال الاتحاد السوفياتي، رغم حالات الاضطهاد ومحاولات خنق الهوية الكردية من قبل دول إقليمية.
منذ نشأة إسرائيل وحتى عام 1990؛ ربما كانت الدولة العبرية هي الدولة الوحيدة التي كانت تساعد عملياً أكراد العراق للانسلاخ عن بغداد، من خلال التعاون مع مصطفى البارزاني والد الرئيس الحالي لكردستان العراق مسعود البارزاني.
لكن بعد حرب الخليج بدأت مشاريع وحسابات الغرب في التغير تجاه المسألة الكردية، فحصول التوافق الدولي في مجلس الأمن عام 1991 على إنشاء منطقة حظر جوي في شمال العراق وجنوبه فتح باب إنشاء منطقة حكم ذاتي كردي في الشمال، حيث تمّ لاحقاً الاعتراف بها فيدستور العراق الاتحادي.
وهكذا أصبحت القضية الكردية من أولويات مراكز الأبحاث العالمية والإقليمية والمنظمات الإنسانية والحقوقية، كذلك سهّل الغربُ العمل الترويجي الذي تقوم به المنظمات الكردية المقيمة في بلاده والمُناصرة للنضال الكردي.
الاستفتاء واللعبة الإقليمية
إن عملية إجراء استفتاء على انفصال إقليم كردستان العراق هي مسألة وقت، لأن هناك رغبة من اللاعبَين الأساسيَين في المنطقة (أميركاوإسرائيل) في تحقيق هذا الهدف البعيد خدمةً للمصالح القومية الإسرائيلية، لا حُباً للشعب الكردي ذي الأغلبية المسلمة السنية، مع الأخذ بعين الاعتبار النفوذ القوي الذي يمارسه اللوبي اليهودي على السياسة الأميركية المتعلقة بالقضية الكردية.
إن نتائج حرب عام 1973 أجبرت الساسة الإسرائيليين على تبني إستراتيجية جديدة لحماية إسرائيل، لا تعتمد على السلاح التقليدي أو النووي فحسب بقدر ما تعتمد على تفكيك ثلاث دولة عربية (العراق، سوريا، مصر) على أسس عرقية وإثنية ودينية متضاربة. فلو كانت تل أبيب تهتم بالشعب الكردي لأسباب إنسانية فلماذا تجعل الشعب الفلسطيني يعاني الويلات؟
إن أول خطوة ناجحة للإستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تتمثل في عملية احتلال العراق من قبل الأميركان عام 2003، وجعله بلداً تمزقه الانقسامات السياسية والطائفية والقومية والجغرافية، ولهذا يعتمد الساسة الإسرائيليون على الأكراد كحليف مستقبلي لهم.
إضافة إلى ذلك؛ يعتبر قسم مهم من الأكراد أن العلاقات الجيدة مع إسرائيل ستضمن لهم تأمين الدعم والحماية الأميركيةفي وجه المخاطر الإقليمية التي تهددهم. وهذا ما يحدث عملياً في الحالة السورية.
“من منظور إسرائيل يعتبر استقلال كردستان العراق خطوة مهمة تجعل هذه المنطقة قاعدةً لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وحتى التجسسية، رغم وجود شرائح كبيرة من الشعب الكردي مترددة بشأن هذا التغلغل الإسرائيلي”
يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضا طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية، فالتجربة المريرة التي عاشتها إسرائيل بسبب التغير في سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان تجاه المسائل العالقة في الشرق الأوسط، وتحديداً القضية الفلسطينية جعلت الحكومة الإسرائيلية تعيد تفكيرها السياسي، وتركز على عدم الاستثمار سياسياً على العلاقات مع الدولة التركية وحدها، بل أصبح الملف الكردي أكثر استقطابا لخدمة المصالح الدولة العبرية.
فمن منظور إسرائيل يعتبر استقلال كردستان العراق خطوة مهمة تجعل هذه المنطقة قاعدةً لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وحتى التجسسية، رغم وجود شرائح كبيرة من الشعب الكردي مترددة بشأن هذا التغلغل الإسرائيلي.
أميركياً، أثّرت سياسة الرئيس السابق باراك أوباما في الأوروبيين عبر محاولاته إيجاد حل سياسي للقضية الكردية، فجعلتهم يدركون البعد الدولي لهذه المسألة. ونتيجة لذلك بدأت الاتصالات السياسية الأوروبية مع أطراف متعددة من الجانب الكردي.
كذلك بدأت هذه الدول في فتح قنصليات بكردستان العراق للتواصل ومراقبة تطور الأمور عن كثب. إضافة إلى ذلك؛ فإن الفتور في العلاقات التركية الأوروبية ربما يؤثر إيجاباً على علاقات أوروبا بكردستان العراق. فهذه الدول تعرف جيداً أن العنصر الكردي هو ابن هذه المنطقة، ويمكنه أن يندمج ويتآلف بسهولة مع المجموعات المحلية.
ولهذا لا يُستبعد أن يُستخدم في مواجهة الظواهر المقلقة للغرب مثل الإرهاب والجماعات المتطرفة، التي لم تتردد في القيام بعمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية في الفترة الأخيرة.
كما ساهم ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأبعاده الدولية في عودة المسألة الكردية من جديد إلى ذروة الاهتمام العالمي، بحجة محاربة الإرهاب وتفاني قوات البشمركة وغيرها في تحقيق هذا الهدف، فأصبح الأكراد الحليف المخلص لأميركا على الأرض.
وفي واقع الأمر؛ حصل الأكراد على مساعدات مادية ودعم لوجستي واهتمام إعلامي وسلاح نوعي لم يكونوا يحلمون به لولا وجود داعش. فاستُخدمت قضية محاربة الإرهاب بشكل منهمج ودقيق لخدمة القضية الكردية.
كذلك تحاول روسيا بدورها استخدام القضية الكردية في إطار سعيها لاستعادة الدور الفاعل الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي، عبر العودة من جديد إلى رقعة الشطرنج الدولية كقوة عالمية، ولتحصيل امتيازات إضافية غير تلك التي منحها لها النظام السوري، فتحاول موسكو مثلا تقييد الطموحات التركية وممارسة الضغوط عليها باستخدام حلفائها الأكراد.
الميزان الإستراتيجي الدولي
رغم التطورات المهمة في العلاقات الأميركية الكردية والأوروبية الكردية في الفترة الأخيرة، فإن واشنطن ومعظم عواصم الاتحاد الأوروبي ستضع في حساباتها -لأسباب جيوستراتيجية واقتصادية- مواقفَ الدول الإقليمية التي تشكل فيها القضية الكردية معضلةً سياسية وجغرافية، مثل تركيا وإيران.
فتركيا مثلا ستبقى من الشركاء الأساسيين في حلف الناتو، نظراً لامتلاكها ثاني أكبر جيش في هذا الحلف، وبسبب تمدد النزعة القومية الروسية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، والرغبة الأميركية والأوروبية في لجمها مستقبلاً بالتعاون مع دول محورية إقليمية شرق أوسطية. كذلك لا تمكن مقارنة حجم التعاون والمصالح الاقتصادية بين تركيا وشركائها الأميركيين والأوروبيين بحجم المصالح الغربية مع كردستان العراق.
إن الصعوبات الأساسية للقضية الكردية ستبدأ بعد إعلان نتائج الاستفتاء واستقلال كردستان العراق، لأن الحالة الجديدة التي ستنشأ ستواجه صعوبات ذات علاقة بالدول الإقليمية المجاورة، وستتأثر بعوامل داخلية تفرض على الأكراد تغيير سياستهم تجاه دول الجوار إذا أرادوا لكيانهم الناشئ أن يكون قابلاً للحياة.
“إن الصعوبات الأساسية للقضية الكردية ستبدأ بعد إعلان نتائج الاستفتاء واستقلال كردستان العراق، لأن الحالة الجديدة التي ستنشأ ستواجه صعوبات ذات علاقة بالدول الإقليمية المجاورة، وستتأثر بعوامل داخلية تفرض على الأكراد تغيير سياستهم تجاه دول الجوار إذا أرادوا لكيانهم الناشئ أن يكون قابلاً للحياة”
فالحكومة المحلية في كردستان العراق تدرك جيداً أنها إذا أرادت أن تصدّر نفطها وتستورد، وتصدّر المنتجات التجارية والزراعية، وتضمن حرية تنقّل مواطنيها، وتكونَ على صلة مباشرة مع العالم الخارجي؛ فلابد لها من أن تراعي بعض “متطلبات” دول الجوار لنجاح أجندتها الوطنية.
وهنا تكمن المعضلة في الاختيار بين منطقة حكم ذاتي قوية ومفتوحة الحدود ودولة مقيدة؛ لذلك فإن عامل الجغرافيا السياسية يُعدّ من أهم المقومات الجيوستراتيجية التي يُعتمد عليها في تقويم وتقييم قوة الدولة، بسبب تأثيره القوي والواضح على وضع كيان الدولة الحالي ومستقبله وعلى سياستها الخارجية كذلك.
وباختصار؛ كانت القضية الكردية على امتداد السنين تتأثر بالصراعات والسياسة الدولية الشرق أوسطية. لقد كان الثابت الوحيد في توجهات اللاعبين الدوليين والإقليميين -على تباين سياساتهم تجاه المسألة الكردية واعتماد كل طرف هذا الفريق الكردي أو ذاك حليفا له- هو إطالة المشكلة الكردية واستغلالها والاستثمار فيها عوضاً عن إيجاد حل لها.
ولأن الأولوية كانت تُعطى لاعتبارات تتعلق بتوازناتهم ومصالحهم المتغيّرة، فقد كان الحليف الكردي ضحية تسوية وتصفية خلافاتهم التي كانت تحلّ على حساب المصلحة القومية الكردية في معظم الأحيان.
يمكن القول إن هناك حاجة أكثر من ماسة لإيجاد حل سلمي للمسألة الكردية بمساهمة الدول الإقليمية المعنية بالأمر، والبدء في حوار فعال وجدي عبر مشاركة ساسة الأكراد والعرب والأتراك والإيرانيين الوطنين، بعيداً عن التطرف القومي والديني الخاص بكل طرف. وذلك لكيلا يبقى أبناء الشعب الكردي محلّ استغلال بأيدي الدول الغريبة التي تريد الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط.
إن الشعب الكردي هو أقرب للشعوب العربية والتركية والإيرانية منه للشعوب الغربية، وإن التجاهل المستمرّ لمصير القضية الكردية -من قبل الدول المجاورة والمعنية بالأمر- سيُبقي الباب مفتوحاً أمام تدخل قوى دولية وإقليمية غير إسلامية في شؤون دول المنطقة باسم المسألة الكردية.
عارف العبيد
الجزيرة