رغم أن الرئيس الإيراني حسن روحاني نجح في تحقيق نتائج بارزة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 19 مايو 2017، بحصوله على 57 بالمئة من أصوات الناخبين من الجولة الأولى على حساب مرشح تيار المحافظين الأصوليين إبراهيم رئيسي، إلا أن ذلك لا يضمن تعزيز قدرته على إجراء تغييرات رئيسية في السياسة الإيرانية باتجاه قد يقلص من حدة التوتر في علاقات إيران مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمات المختلفة في منطقة الشرق الأوسط.
لا تبدو الخيارات المتاحة أمام الرئيس الإيراني متعددة بشكل يوفر له هامشا واسعا من الحركة والمناورة. وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة ترتبط بالتوازنات السياسية الداخلية وموقع الرئيس منها، فضلا عن الضغوط التي تفرضها التطورات الطارئة على الساحتين الإقليمية والدولية.
وبدا واضحا أن روحاني سعى منذ إعلان فوزه بفترة رئاسية جديدة إلى توجيه رسائل طمأنة إلى الداخل، ولا سيما للمؤسسات الرئيسية في النظام، ومفادها أنه لن يحاول على الأقل في المدى القريب استثمار نتائج الانتخابات لممارسة ضغوط من أجل إجراء تغييرات في السياسة الخارجية بشكل قد لا يتوافق مع رؤى وسياسات تلك المؤسسات.
وجّه روحاني انتقادات قوية للحرس الثوري خلال المناظرات التي أجريت مع المرشحين المنافسين قبيل الانتخابات، واتهمه بــ”محاولة نسف الاتفاق النووي” عبر الكشف عن مواقع الصواريخ التي أنشئت تحت الأرض وكتابة شعارات “مستفزة للغرب” عليها، لكنه عاد بعد الانتخابات ليؤكد في ذكرى تحرير “خرمشهر” (خلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية) في 24 مايو 2017، أن “إيران سوف تصنع ما هي بحاجة إليه من صواريخ”.
توقيت إدلاء روحاني بهذا التصريح تحديدا اكتسب أهمية خاصة، فقد سعى من خلاله إلى الرد على بعض الدعوات التي وجهها إليه مسؤولون غربيون لاستثمار نتائج الانتخابات من أجل “إنهاء الأنشطة المزعزعة للاستقرار”. من هؤلاء المسؤولين وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الذي طالبه باستخدام ولايته الرئاسية الثانية لـ”إنهاء برنامج الصواريخ الباليستية”.
التطورات الطارئة على الساحة الخارجية خلال الفترة الحالية تمثل متغيرا رئيسيا في تحديد خيارات روحاني خلال ولايته الثانية
وحاول عبره تبني موقف واضح إزاء تأكيد البيان الختامي للقمة السعودية-الأميركية التي عقدت بالرياض في 21 مايو، على أن “برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية لا يشكل تهديدا على دول الجوار فحسب بل هو تهديد مباشر لأمن جميع دول المنطقة والأمن الدولي”.
لكن ربما يكون الهدف الأهم لروحاني من هذا التصريح هو توجيه رسالة للحرس الثوري بأنه لن يتجه إلى الاستناد إلى نتائج الانتخابات لممارسة ضغوط لتقييد البرنامج الصاروخي، أو التوقف عن إجراء المزيد من تجارب إطلاق الصواريخ الباليستية، التي تثير ردود فعل قوية من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتداعيات الاستراتيجية للاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة 5+1 في 14 يوليو 2015.
ويسعى روحاني، على الأقل في المدى القريب، إلى تقليص مساحة التباينات مع المؤسسات الرئيسية في الدولة، خاصة أنه في الأساس ليس بعيدا بدرجة كبيرة عن التوجهات التي تتبناها الأخيرة، لا سيما أنه محسوب على تيار المحافظين التقليديين وعلى الجيل الأول للثورة الذي تولى مناصب رئيسية داخل مؤسساته، حيث شغل على سبيل المثال منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي لمدة 16 عاما في الفترة من عام 1989 وحتى عام 2005، وقبلها تولى مناصب قيادية داخل القيادة العامة للقوات المسلحة خلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية.
سلاح ذو حدين
ستمثل التطورات الطارئة على الساحة الخارجية خلال الفترة الحالية متغيرا رئيسيا في تحديد خيارات روحاني خلال ولايته الثانية. ويمكن لهذه التطورات على المدى القريب أن تدفع روحاني إلى التماهي مع سياسة النظام، لكنها على المدى الطويل قد توفر فرصة له من أجل إضفاء وجاهة خاصة على الدعوة لإجراء تغييرات بارزة في تلك السياسة، في حالة ما إذا كانت لديه رغبة في ذلك.
وسوف تفرض الضغوط التي تفرضها التطورات الخارجية على إيران في الفترة الحالية نتيجتين أساسيتين: أولاهما، أنها تقلص من هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمام روحاني، خاصة أنه سوف يمنح الأولوية في المقام الأول لاستمرار العمل بالاتفاق النووي والحصول على بعض عوائده الاقتصادية والتكنولوجية رغم العقبات التي يواجهها في هذا السياق، بشكل ربما يضطر معه إلى تأجيل فتح الملفات الخلافية الأخرى التي تبدي فيها تلك المؤسسات مواقف متشددة.
والنتيجة الثانية أن هذه الضغوط توفر فرصة ثمينة للمؤسسات الأخرى في النظام نحو اتخاذ خطوات من شأنها وضع المزيد من العقبات أمام الرئيس وتأكيد قدرتها على التحرك باستقلالية بعيدا عن سلطاته. ومن هنا يمكن تفسير إقدام الحرس الثوري في 25 مايو 2017 على إعلان الانتهاء من بناء مصنع ثالث للصواريخ الباليستية تحت الأرض وتأكيد مواصلة تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، حسب ما جاء على لسان قائد القوة الجو فضائية في الحرس أمير علي حاجي زاده.
وهذه الخطوة تحديدا يسعى من خلالها الباسدران إلى توجيه رسالتين: الأولى، أن نتائج الانتخابات الرئاسية لن يكون لها تأثير واضح على السياسة الخارجية للدولة، لا سيما في ما يتعلق ببرنامجها الصاروخي الذي يمثل أحد محاور الخلاف الرئيسية مع بعض القوى المعنية بالاتفاق النووي وبعض القوى الإقليمية في المنطقة، باعتبار أن ذلك يمثل دليلا يؤكد عدم قدرة إيران على الانخراط في التزامات دولية صارمة. والرسالة الثانية مفادها أن الحرس ينتهج سياسة مستقلة عن الرئيس بصرف النظر عن التوجهات التي تحدد خيارات الأخير.
ويشغل لاريجاني منصب رئاسة مجلس الشورى منذ عام 2008، ورغم أنه معروف بقربه من التيار المحافظ إلا أنه لوحظ في الآونة الأخيرة اتخاذه مواقف معتدلة في عدد من القضايا. وأعلن لاريجاني عام 2015 عن دعمه للاتفاق النووي بين بلاده والمجموعة الدولية على الرغم من رفض المحافظين له.
ويقول الخبراء إن إيران في هذه المرحلة ستواصل سياستها الخارجية الراهنة والتي تتبع سياسة الكيل بمكيالين، من جهة يسوق الرئيس روحاني لوجه إيران “الإصلاحي” والداعم للحوار، ومن جهة أخرى ينزل الحرس الثوري بثقله في الصراعات الدائرة في المنطقة.
ومن دون شك، فإن الحرس الثوري يحاول في هذا الإطار استغلال التصعيد الحالي من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران لاتخاذ المزيد من الإجراءات الخاصة بالبرنامج الصاروخي، إذ يبدو جليا أن إدارة ترامب تتبنى سياسة مختلفة تماما عن تلك التي اتبعتها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع إيران.
وقد انعكس ذلك في تأكيد الإدارة الحالية على أن الخلافات مع إيران لا تتركز حول الاتفاق النووي فحسب، وإنما تتسع لتشمل ملفات أخرى تحظى باهتمام خاص من جانب الولايات المتحدة والقوى الإقليمية المعنية بدور إيران الإقليمي وبتداعيات الاتفاق النووي، على غرار دعم إيران للإرهاب ودورها في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وعلاقاتها القوية مع بعض الميليشيات المسلحة والإرهابية في مناطق الأزمات مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وبدأت واشنطن بالفعل في اتخاذ خطوات إجرائية على الأرض ضد إيران، حيث أصدر الرئيس ترامب تعليماته للوكالات التابعة لمجلس الأمن القومي الأميركي، في 19 أبريل 2017، بإجراء عملية مراجعة للاتفاق النووي في غضون ثلاثة أشهر لدراسة مدى تأثيره على المصالح الأميركية ومدى التزام إيران به.
وتركز واشنطن الآن على الدور الإيراني في سوريا، والذي تعتبر أنه أحد أهم أسباب تفاقم الصراع فيها في ظل الدعم القوي الذي تقدمه لنظام بشار الأسد. وكانت الضربة الثانية التي شنتها واشنطن داخل سوريا، في 18 مايو 2017، موجهة لإيران تحديدا حيث استهدفت من خلالها رتلا عسكريا تقوده ميليشيات تابعة للأخيرة بالقرب من قاعدة التنف جنوب سوريا، وسعت من خلالها إلى منعها من تأسيس ممر عابر للحدود بين العراق وسوريا لتأمين دعمها للنظام السوري وحلفائها لا سيما حزب الله اللبناني.
تحولات مشروطة
ربما تختلف الأمور وتتغير التوازنات والحسابات على المدى الطويل، إذ أن تصاعد حدة الضغوط الخارجية على إيران ووصولها إلى درجة غير مسبوقة يمكن أن يمنح فرصة لروحاني من أجل الدعوة لإجراء تغييرات في السياسة الخارجية بهدف احتواء تداعياتها أو منع تحولها إلى مصدر تهديد مباشر لأمن ومصالح إيران، غير أن هذا التحرك لن يكتب له النجاح إلا في حالة وجود اتجاه داخل النظام يشارك الرئيس في تبني التوجه ذاته، وهو ما حدث على سبيل المثال في السياسة التي تبناها النظام والتي ساهمت في الوصول للاتفاق النووي.
ولا يمكن القول إن روحاني هو صاحب الكلمة الفصل في الوصول للصفقة النووية رغم الدور البارز الذي قام به وذلك لاعتبارين: أولهما، أن الجهود التي بذلها روحاني وفريق التفاوض الذي قام بتشكيله برئاسة وزير الخارجية محمد جواد ظريف كانت بضوء أخضر من المرشد الأعلى، الذي يبدو أنه ارتأى ضرورة الوصول لمثل تلك الصفقة بعد أن فرضت الأزمة النووية تداعيات وخيمة على إيران وزادت من احتمالات دخولها في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة أو إسرائيل أو الاثنتين معا.
وثانيهما، أن المفاوضات التي مهدت المجال أمام إبرام الصفقة النووية بدأت حتى قبل وصول روحاني إلى رئاسة الجمهورية، وتحديدا خلال الفترة الثانية للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد عندما اتجهت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى فتح قنوات تواصل مع إيران بمساعدة سلطنة عمان في عام 2009.
وهكذا فإن أي تغيير رئيسي في السياسة الخارجية لإيران يرتبط بموافقة المرشد والمؤسسات الرئيسية في النظام، وأن رئيس الجمهورية لا يستطيع وحده التحرك بدليل أن المفاوضات السرية والعلنية التي مهدت للاتفاق جرت خلال عهد الرئيس أحمدي نجاد.
ويمكن القول إن ما يدفع النظام إلى إجراء تغيير في سياسته الخارجية يرتبط بما يمكن تسميته بـ”اقتراب الخطر” من حدود إيران، وهو “الخط الأحمر” الذي لن يسمح النظام بالوصول إليه، حيث أنه دائما يتبنى في المراحل التي يقترب فيها هذا الخطر إجراءات تساعده في تقليص احتمالات ذلك.
وبدا ذلك جليا في التغيير في السياسة الإيرانية تجاه أزمة ملفها النووي بعد أن كشفت بعض قوى المعارضة عن أنشطة تقوم بها إيران خاصة بإنشاء مفاعل لتخصيب اليورانيوم في “ناتانز” ومفاعل آخر لإنتاج الماء الثقيل في “آراك”.
لقد أقدمت إيران على توقيع البرتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في 18 ديسمبر 2003، والذي يتيح للوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بعمليات تفتيش على منشآتها النووية، وذلك عندما أدركت أن الخطر بات قريبا من حدودها، بعد إقدام إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش على احتلال أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 ووضع إيران ضمن قائمة “محور الشر” مع كل من كوريا الشمالية والعراق.
واللافت هو أن روحاني لم يكن بعيدا عن هذا التغيير الذي طرأ على السياسة الإيرانية، والذي سعت من خلاله طهران إلى إبعاد شبح الحرب عن حدودها، إذ أنه كان يتولى في تلك الفترة منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي والمسؤول المكلف بإدارة الملف النووي مع القوى الدولية.
وعلى ضوء ذلك ربما لا يستبعد أن يتجه روحاني في حالة ما إذا كانت لديه رغبة في ذلك، للاستناد إلى التداعيات الوخيمة التي تفرضها السياسة الإيرانية في المنطقة، من أجل الدعوة لإجراء تغييرات بارزة فيها بشكل قد يقلص في رؤيته أي تهديدات قد تتعرض لها إيران على المدى الطويل.
إلا أن هذا التحول المحتمل سوف يستغرق في الغالب وقتا ليس قصيرا، وسيرتبط في كل الأحوال بالمسارات المحتملة للتصعيد الحالي بين إيران من جهة وكل من الولايات المتحدة الأميركية وبعض القوى الإقليمية من جهة أخرى، وما سوف تفرضه من تداعيات على التوازنات الداخلية في إيران وعلى سياسات المؤسسات الرئيسية الأخرى في النظام.
محمد عباس ناجي
صحيفة العرب اللندنية