الحرب الباردة الثانية: إعادة تشكيل النظام العالمي

الحرب الباردة الثانية: إعادة تشكيل النظام العالمي

ما يدور حالياً من صراع في مناطق عدة من العالم أبرزها منطقتنا العربية وجوارنا الاسلامي والازمة الاوكرانية وما واكبها الان من حرب اقتصادية تجلت بحرب اسعار البترول التي تستهدف اعداء الولايات المتحدة وتديرها على حساب منتجي النفط العرب اساساً وروسيا وايران وفينزويلا ما هي الا حرب عالمية باردة احياناً وساخنة احياناً اخرى ، تتم مباشرة بين عسكر الامبراطورية عندما لا يمكنها ادارتها عن طريق الوكلاء واموالهم .

   هدف الولايات المتحدة هو تحقيق استراتيجيتها للهيمنة على العالم بواسطة سلسلة من القواعد العسكرية في أكثر بلدان العالم ، وقواعد متحركة بواسطة اساطيها عبر البحار . مبدأ القرن الاميركي الجديد الذي وضعه الصهاينة المحافظون الجدد بعدم السماح لاي قوة كروسيا أو الصين ، أو مجموعة من الدول كدول البركس أن تتحدى الاحادية القطبية للولايات المتحدة تحت أي طائل .

 اعتبرت الولايات المتحدة أن سلة العقوبات الاقتصادية من حرب تسعير النفط وما نتج عن ذلك من هبوط كبير في العمل الروسية والدخل القومي سيكفي  لتركيع روسيا التي بدات تقول نعم ولا في السياسة العالمية في عهد بوتين . كذلك تمّ محاولة جرها في حرب استنزاف بأوكرانيا مما سينتج عنه تغيرات في سياسات موسكو بل وربما تغيير بوتين نفسه .

 كان صمود روسيا أكبر بكثير مما توقعته الولايات المتحدة . حرب تسعير النفط بدأ يؤذي قطاع الزيت الصخري في الولايات المتحدة  الذي كان السبب بزيادة الانتاج في السنوات الاخيرة لدرجة أن الولايات المتحدة بدأت تفكر بفرض ضريبة اضافية على مشتريات النفط الاجنبي لرفع سعر المستورد والانتاج المحلي مع بقاء حرب التسعير مستعرة حتى آخر مليار دولار عربي وخليجي لو لزم الامر .  كما ان روسيا لم تسقط في فخ ايقاعها في حرب استنزاف في اوكرانيا فقبلت باتفاقية منسك 2 Minsk كانت عرابتها هي ألمانيا بمساعدة فرنسا وهما الدولتان الصناعيتان الاكثر تضرراً من العقوبات الاقتصادية على روسيا خصوصاً انهما كانتا متعاونتين مع مشروع طريق الحرير الجديد من شنغهاي الى برشلونة والذي ترى فيه واشنطن انجرار اوروبا نحو الشرق بدلاً من الغرب . وشكل ذلك خروجاً عن رغبة المحافظين الصهاينة الجدد خصوصاً أن انشقاقاًً في المصالح الاوروبية بين الاقتصاديين والصناعيين من جهة والسياسيين التابعين دوماً الى واشنطن من جهة اخرى . وهذا اكثر وضوحاً في المانيا.

 أوكرانيا على وشك الافلاس ولذلك اوعزت الولايات المتحدة لصندوق النقد الدولي بتقديم قرض مقداره17 مليار دولار في الوقت الذي تم الاعلان فيه عن منسك 2. وهذا القرض مشروط بشروط الصندوق التي تُحول البلد الى مستعمرة اقتصادية مسلوبة الارادة . وبذلك يبدو أن اوكرانيا في طريقها الى أن تصبح يونان آخر . تم فرض سياسات الخصخصة والتقنين على قوت وحاجات مجمل الشعب عدا القلة من المتحالفين مع الشركات العبر قطرية،  فيما بدأ يضغط على الجمهور العام ، علماً بأن اوكرانيا  بلد غني وتعتبر ثالث أكبر مصدر للذرة . وخامس اكبر مصدر للقمح في العالم . وبدأت الشركات العبر قطرية بالاستيلاء على الاراضي باسعار بخسة .

 لى عزل روسيا فلم تعطي النتائج المتوقعة منها فبعد تطبيق الحظرعلى التبادل  التجاري بين روسيا واوروبا الغربية ، اتجهت روسيا شرقاً وبدأت بتطوير علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الصين وحتى الشرق الاوسط بما في ذلك ايران  ومصر وفي هذا الصيف سينعقد في موسكو مؤتمران هامان هما لدول البركس ودول منظمة تعاون شنقهاي (SCO).  أما دول البركس ففي جدول اعمالها ما يقض مضاجع الامبراطورية الامريكية ومحافظيها الصهاينة الجدد ، حيث يتم البحث عن التجارة البينية والتي تتم بالعملات المحلية بدل الدولار ما يقلل مركزه كعملة احتياط عالمية بالاضافة الى خلق صندوق بديل لصندوق النقد الدولي .  ويهدف تحالف دول البركس الى كسر احادية الولايات المتحدة الى عالم متعدد الاقطاب وهذا بالضبط ما لا تريده الولايات المتحدة أن يحصل حتى لو ذهبت الى ابعد الحدود ولكن هل هي قادرة على ذلك ؟

لو كانت القيادات العربية تملك قرارها السياسي او حتى الاقتصادي لدلت بدلوها في معسكر البركس لترجيح كفته ولايقاف الفوضى التي تخلقها الولايات المتحدة في بلادهم ولايقاف نهب ثرواتهم . وبذلك يتم اضعاف من جعل مَن دَعَمَ اسرائيل العدو الاول للعالم العربي والاسلامي اولى اولوياته ولو حتى على حساب الشعب الامريكي نفسه .

 في ندوة عن الربيع العربي نظمتها قناة الجزيرة كان المتحدثون على الهواء مباشرةً من قادة الربيع العربي وأخرين من ذوي الاختصاص و أنا منهم وكذلك رئيس وزراء البوسنة الاسبق  الدكتور حارس سلاجديك  Haris Silajdzic   حيث كنت اجلس بجانبه في الصف الاول للمتحدثين .  بعد أن رجع من المنصة حيث بين أن قوات الامم المتحدة لمراقبة حظر الاسلحة كانت عملياً لمنع الاسلحة عن مسلمي البوسنة حيث أن الصرب كانوا ينتجون الاسلحة وكانت تأتيهم من كل صوب . بعد القاءه الكلمة رجع الدكتور حارس الى جانبي ، كتبت له على ورقة صغيرة بالانجليزية (لان متحدثاً أخر بدا حديثه على الهواء)  :” ربما كان السبب لانكم مسلمون” . أجابني خلف الورقة.” صحيح ، وهذا ما ذكره الرئيس كلينتون بأنه اعلم رئيس وزراء بريطانيا ان هذا الحظر غير عادل وغير متوزان . كان جوابه وبعد المشاورة مع دول اوروبية أخرى : “لسوء الحظ صحيح بان ذلك غير عادل  ولكنه ضروري لاعادة نقاوة اوروبا المسيحية ” كما جاء في كتاب ” تسجيلات كلينتون ” للكاتب اليهودي تايلور برانش – اشتريت الكتاب فيما بعد  ووجدت النص بحذافيره  في الصفحة العاشرة من الكتاب المذكور .

 ذكرت الفقرة السابقة ليس خروجاً عن السياق بل لاقتبس ما ذكره الرئيس كلينتون في مذكراته المسجلة كما جاء في الكتاب المذكور عن الرئيس يلتسن الذي قاد الثورة المضادة ضد الانقلاب الشيوعي على غورباتشوف وحكم روسيا بعد فكفكة الاتحاد السوفيتي طيلة العقد الاخير من القرن الماضي وضع خلاله الاقتصاد الروسي تحت سيطرة صندوق النقد الدولي بشروطه المذلة وكأن القوة العظمى السابقة قد اصبحت كجمهورية افريقيا الوسطى و أشرف على سرقة ثروة 70 سنة من الاتحاد السوفييتي وتحويلها الى عشر بارونات لصوص ثمانية منهم من الصهاينة اليهود !

 يحكي الرئيس كلينتون كما في الصفحة 198 من الكتاب المذكور اعلاه:

 ” لم يكن يلتسن قادراً على ضغوطات العمل وكان يهرب منها بواسطة ادمانه على الكحول …. كانت شطحات سكره مقلقة لاحتمال تأثيرها على الاستقرار السياسي حيث أن الحظ وحده هو ما منع حدوث فضائح عند زيارة يلتسن للبيت الابيض ليومين . كان يسكن يلتسن في بلير هاوس  (سكن ضيوف البيت الابيض ) وتم اخبار كلينتون بخرق أمني خطير في فجر اليوم الاول حيث أكتشف الحرس السري للبيت الابيض يلتسن بملابسه الداخلية فقط في شارع بنسلفانيا يصرخ طالباً تكسي وهو في قمة السكر. سأله الحراس ماذا يريد فقال بتلعثم وصعوبة من شدة السكر أنه ذاهب لشراء البيتزا . ارجعوه الى السكن بصعوبة”. هذه حال روسيا للعشر سنوات قبل بوتين.  كانت روسيا مستباحة من واشنطن ورجالاتها الذين حولوا اقتصادها بعد أن سرقوه الى دولة لا تستطيع دفع رواتب جنودها . أن يأتي رجل من KGB )جهاز استخبارات الاتحاد السوفيتي السابق( – بعد يلتسن ليقول للدولة الاوحد نعم هنا ولا هناك بمخالفة صريحة الى مبادئها المعلنة بأن هيمنتها على العالم يجب أن تبقى مُطْلَقة لا يسمح لدولة أو مجموعة دول أن تُكَوِنَ قطباً أخر .  هذا هو هدف الولايات المتحدة في حربها الباردة العالمية الثانية والتي تقوم بتسخينها بالوكالة أكثر الاحيان ومباشرةً عند اللزوم. وما نعانيه في عالمنا العربي هو جزءً من هذه الحرب الباردة .

   يعتقد الكثيرون ان امبراطورية الولايات المتحدة بدأت بالعد التدريجي للهبوط ويخشى الكثيرون من الفوضى التي تلازم ذلك اثناء محاولتها المحافظة على وضعٍ غير قابل للاستمرار .

راي اليوم