مع تخلف الجزء الأكبر من البشرية عن اللحاق بركب المدنية، وتفاقم الأزمات الداخلية في كل المناطق، وصعود التوترات والنزوع المتزايد للحرب والقتال، تحولت الدول الغنية المتقدمة إلى واحة رخاء في صحراء قاحلة، وسوف تصبح “الهجرة” نحو هذه الواحة المحاصرة هي المشكلة الرئيسية لهذه الدول خلال العقود القادمة، ولن يكون أمامها وسيلة للرد عليها سوى رفع الجدران العالية، النفسية والمادية، وتطوير تقنيات الإبادة الجماعية لردع القادمين البرابرة، ودحر موجات المهاجرين. لكنها لن تستطيع، مهما حصنت نفسها، أن تقف أمام تسرب موجات وجيوش من المرشحين لركوب كل مخاطر الموت للخلاص بأنفسهم، والتغلب على الموت المعنوي والجسدي الذي صار مصيرهم الوحيد ومستقبلهم، نتيجة استبعادهم من الحضارة. لن يتوقف الضغط على هذه الواحات الصغيرة. ولن تفلح مهما أقامت من أسوارٍ وتحصيناتٍ في رد المهاجمين الذين لن يأتوا هذه المرة محاربين، ولكن عاشقين، ولن يزيد رفع جدران العنصرية والعزل، إلا في تعزيز إرادة الوصول إلى بر الأمان والتوغل إلى جنة الخلد الموعودة.
خسرت الدول الصناعية والمتقدمة معركتها منذ الآن، لأنها نظرت إلى العالم، وتعاملت معه كأنه غابة وحقل صيد، تنهب منه ما تشاء وتقتل ما تشاء وتدمر البيئة وشروط حياة الشعوب والأجناس من دون تفكير في المستقبل، ولا تأمل في النتائج. في الوقت الذي كانت تملك فيه من الموارد والخبرات والقيم الإنسانية التي مكّنتها من بناء نفسها، باعتبارها دولاً وأمماً متمدنة، ما لو استخدمت جزءا يسيرا منه، لفتحت أمامها وأمام الإنسانية طريقا آخر للأمن والسلام والازدهار الجماعي. كل ما كان عليها أن تفعله هو التخلي عن الأنانية القومية، والحد من شره السلطة والنفوذ والحرص على موارد الشعوب التي هي جزء من موارد الإنسانية بأكملها بدل هدرها على مذبح المنافسة الربحية ومراكمة الثروة ورؤوس الأموال. ولو تم ضبط آلية ومنطق الربح السريع والمفتوح لصالح التفكير في المستقبل، مستقبل الدول المتقدمة ومجتمعاتها وشعوب العالم ككل، لكان من الممكن صياغة سياساتٍ اقتصاديةٍ للكوكب بأكمله، تؤمن الحياة لجميع أبنائه، وفي الوقت نفسه تحافظ على الطبيعة والبيئة وتغير من أنماط الهدر والإدارة الوحشية للموارد البشرية والطبيعية التي اتبعتها رأسمالية منفلتة.
ما كانت الدول الصناعية بحاجة إلى أن تصرف من جيبها قرشا واحدا، كما فعلت الولايات
المتحدة، عندما أعلنت مشروع مارشال لإنقاذ أوروبا التي اجتاحتها الحرب ودمرتها. بالعكس، لو أنها وفرت 10% من الموارد التي كرّستها للحروب الاستعمارية التي شنتها الدول المتقدمة على بعضها منذ القرن التاسع عشر، لتوسيع دائرة نفوذها والسيطرة على الموارد الطبيعية العالمية على حساب الشعوب التابعة، ولو عملت على توجيه جزءٍ من نفقات التسلح التي تنفقها البلاد التابعة نفسها، حماية للطغم الحاكمة من شعوبها ومن منازعاتها في ما بينها، ووجهت ريوع المناجم النفطية وغير النفطية في الدول المنتجة لأهداف غير شراء الأسلحة وتعزيز موقف صناعات السلاح، لكان وجه الأرض قد تغير تماما، وعمّت الخضرة الكرة الأرضية والسعادة البشرية بأكملها. كل ما كان يحتاجه الأمر هو مشروع مارشال على مستوى القارات، ورؤية شاملة لعموم الإنسانية، أي خروج من أفق القومية الأنانية والربحية الرأسمالية البليدة والميكانيكية. نظرت الولايات المتحدة إلى أوروبا حليفا، بينما نظر الغرب بأكمله للعالم النامي، أي لثلاثة أرباع البشرية، حقل صيد وقنص ونهب مفتوح لجميع الرأسماليين والمغامرين. هذه هي الحقيقة.
هل ضاعت الفرصة لمراجعة سياسات الدول المتقدمة الصناعية؟ للأسف نعم، ليس لأن هذه السياسات لا يمكن التراجع عنها أو تغييرها بعد الآن، فمن الممكن، في كل لحظة، العودة نحو سياسةٍ دولية أكثر شمولية ورؤية مستقبلية، إنما لأن الطغم والنخب الحاكمة في هذه الدول أصبحت حبيسة حسابات انتخابية، وأجندات شخصية وسياسية ضيقة الأفق وقصيرة المدى، لا تسمح لها بالتفكير في المستقبل البعيد، بل ربما القريب، ولأنها فقدت الروح النقدية التي تمكّنها من إعادة النظر في سياساتها، وإدراك أن ما كان صالحا من هذه السياسات منذ قرن لم يعد يمكن المراهنة عليه اليوم، مع تزايد مشكلات الفقر والتهميش الجماعية والحروب وتدمير البيئة الطبيعية، والأهم النفسية والاجتماعية عند الإنسان، ولأنها أصبحت رهينة محبسيها: الأنانية القومية والحسابات الضيقة التي تتحكّم بالسياسة في كل دولة، وحاكمية الربح والتراكم الرأسمالي، التي حللها ماركس بدقة، وأولويتهما في تحديد سياسة إدارة الموارد البشرية والنزاع الوحشي عليها، فهي لا ترى أمامها أكثر فأكثر إلا الظلام والسواد والخطر. ولا تجد طريقا للخلاص إلا بالعودة إلى ردود فعل الخائف والمرتعب والخاسر سلفا، أو الذي يشعر بأن القدر ينقلب عليه، وهو ينقلب بالفعل، وهو ما يفسّر نزوع السياسيين الطموحين، والفاقدين، أكثر فأكثر، لثقتهم بالسير الطبيعي والناجع للآليات القومية والرأسمالية معا، إلى تبني أيديولوجيات غصب التاريخ والنكوص على مبادئهم نفسها، واستبدالها بقيم العصر البربري الجديد، عصر الكراهية والعنصرية والعداء للأجنبي، أي أجنبة المختلف، والانكفاء بشكل أكبر على الأجندات القومية التي تشكل هي نفسها اليوم السبب الرئيسي لتدهور البيئة الدولية الفكرية والسياسية والاقتصادية.
مكر التاريخ
بمقدار ما كانت سياسات هؤلاء وراء إنتاج ما يعيشه العالم من تفجر النماذج والأشكال الجديدة للبربرية، فهم يشعرون اليوم بأنهم ربما اقتربوا من أن يدفعوا ثمنها، ويتحولوا إلى ضحية
لسياساتهم الأنانية ذاتها. وربما كان بركان الشرق الأوسط الذي شهد أفظع نموذج للاستهتار بمصير الشعوب، وهدر أرواح أبنائها ومواردها، وتهميشها واحتقار نخبها ومستقبل أجيالها هو الذي يمثل اليوم، بما يقذفه من حمم على نفسه، وعلى العالم المحيط به، النموذج الأول لما سيتحول إلى محرقة عالمية خلال القرن المقبل، ما لم تحدث بالفعل ثورة فكرية عند النخب الحاكمة والطبقات السياسية السائدة في الدول المتقدّمة، وجزء كبير من النخب الفاسدة والجانحة في البلدان الفقيرة والتابعة. وأكثر فأكثر ستشكل تكاليف الأمن حاجزا قويا أمام توسع دائرة الاستثمار الرأسمالي، ما لم تتحول الحرب نفسها إلى القطاع القائد في رأسمالية حروب القرن الواحد والعشرين.
ليس الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعقيدته الرثّة التي مكّنته من الفوز، ولن يكون الوحيد بين أبناء جلدته من السياسيين الطامحين إلى قيادة مرحلة الردة الجديدة على قيم العصر الذهبي الآفل للدولة القومية وللرأسمالية المنتجة والخلاقة، وعلى مثله وآماله وأوهامه. إنه يجسّد في ثورته الرثة ذاتها وجمهوره من الضائعين والمتذمرين من دون وجهةٍ ولا يقين، خيار الهرب نحو الهاوية الذي لم يعد لدى نظام العالم القائم بديلا له، إن لم تراجع النخب والطبقات السياسية الحاكمة خياراتها البالية والبائدة والفاسدة، وتتخلى عن معاييرها القومية المغلقة ورأسماليتها الريعية والطفيلية المتفاقمة.
ومن الواضح أن الترامبية سوف تقود الغرب، بمعناه الجيوسياسي والاقتصادي، الخائف على موقعه ومكانه وازدهار مجتمعاته واقتصاداته، نحو التطرّف والتشدد والانغلاق، تماما كما كان عليه الحال عندما قادت التاتشرية، وما مثلته من سياسات نيوليبرالية، الدول الصناعية بعد عقود من النمو المتسارع الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي أوروبا، هناك مرشحون كثيرون ينتظرون دورهم، ويمتشقون سيف ترامب الفكري والسياسي، لكسب انتخابات الرئاسات المقبلة، تماما كما يعزّز هذا المسار من تيارات الشمولية الراسخة في دول المحيط والأطراف، في آسيا وإيران وأفريقيا والعالم العربي. ألمانيا أنجيلا ميركل وحدها هي التي لا تزال تقاوم سحر نموذج جديد من سياسات الأبرتايد الذي اتبعته في الماضي النخبة البيضاء في جنوب أفريقيا، لكن هذه المرة على عموم المعمورة. ومقاومة ألمانيا نابعةٌ من تجربتها المريرة مع أشرس نسخة للعنصرية المريضة، ولدت في التاريخ الحديث، وراحت ضحيتها شعوب كثيرة، وأولهم الجماعات اليهودية، لكن أيضا أجيال كاملة من الشبيبة الألمانية التي ضُحّي بها على أعتاب وهم سيطرة قارية مجنونة.
لكن، بموازاة تحول العالم بأكمله إلى أبرتايد من دون ضفاف ولا حدود، تتحكّم فيه نخبة بيضاء، وأشباهها ومريدوها في الأمصار، بمصير المجتمعات، وتحكم عليها بالموت والفقر
والتهميش والحروب والنزاعات الدائمة، تولد أيضا في كل دولة ومجتمع، وأولها دولة الهجرة بامتياز، الولايات المتحدة، “أبرتايدات” داخلية، تخلق بين النخب الحاكمة والشعوب شرخا لا يمكن ترميمه، وتهم بأن تطلق هي أيضا حركة تطويق الشعوب، كما فعلت إسرائيل في الضفة الغربية وغزة، بالجدران العازلة، إن لم يكن بفرض حياة الغيتو وشروطه على النخب الحاكمة والمالكة، في ما تسمى اليوم المربعات الخضراء، وتحويل الدولة إلى قلعة محاصِرة ومحاصَرة في الوقت نفسه.
لا يبشر القضاء على الطبقة الوسطى، الحاضنة التاريخية لقيم التفتح والتسامح والتحرّر، بمستقبل زاهر للديمقراطية وقيم التضامن الإنسانية واحترام حقوق الإنسان. بالعكس، يشكل ذوبانها المادي والثقافي معا تربةً خصبةً لنشوء الفاشية التي تتغذّى من اليأس، والتي لا تستمد شعبيتها مما تعد به جماهير المهمشين بالتحرّر والازدهار، وإنما من تهديدها بإدخال كل من لا يزال خارجاً عنها في دائرة البؤس والاحتقار.
لم ينجح ترامب في أن يكون الممثل الشرعي لجمهورٍ متزايد من الجماهير الضائعة، إلا بمقدار ما برهن في سلوكه وفكره على أنه الوريث الشرعي للحضارة القومية والرأسمالية الرثة التي فقدت روحها، ووصلت في آخر عهودها إلى طريق مسدود، أفقدها ثقتها بالعالم وبالمستقبل. إنه رمز لحقبة شعاراتها السياسية الرئيسية الكراهية والعنصرية، ورائد جيل من القادة والنخب السياسية التي تحضر نفسها للحكم، في أكثر من دولة ومنطقة في العقود القليلة المقبلة.
برهان غليون
صحيفة العربي الجديد