ألقى دونالد ترمب بقنبلة يدوية على الهيكل الاقتصادي العالمي الذي بُني بشق الأنفسغرد النص عبر تويتر في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية.
والواقع أن محاولة تدمير نظام الحوكمة العالمية القائم على القواعد -التي تتجلى الآن واضحة في القرار الذي اتخذه ترمب بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ الذي أبرم في عام 20155- ليست سوى أحدث مظهر من مظاهر هجوم الرئيس الأميركي على نظامنا الأساسي للقيم والمؤسسات.
يقترب العالَم ببطء من إدراك مدى خبث أجندة إدارة ترمب بشكل كامل. فقد هاجم هو وأقرانه الصحافة الأميركية -وهي المؤسسة التي تشكل أهمية بالغة في الحفاظ على حريات الأميركيين وحقوقهم وديمقراطيتهم- باعتبارها “عدو الشعب”.
وقد حاولوا تقويض أسس معارفنا ومعتقداتنا (نظرية المعرفة) بوصفهم كل ما يعترض أهدافهم وحججهم بأنه “زائف”، حتى إنهم رفضوا العِلم ذاته. ولم تكن المبررات الزائفة التي ساقها ترمب لرفض اتفاق باريس للمناخ سوى أحدث دليل على ذلك.
كانت مستويات المعيشة راكدة لآلاف السنين قبل منتصف القرن الثامن عشر. وكان عصر التنوير -الذي تبنى الخطاب المنطقي والتحقيق العِلمي- هو الذي أسس لزيادات هائلة في مستويات المعيشة طوال السنوات المئتين والخمسين اللاحقة.
“يهدد رفض دونالد ترمب للعِلم -خاصة حقائق تغير المناخ- التقدم التكنولوجي. كما يهدد تعصبه تجاه النساء، وذوي الأصول الإسبانية اللاتينية، والمسلمين، قدرة المجتمع الأميركي على أداء وظائفه ونجاحه الاقتصادي، عبر تقويض ثقة الناس بعدالة النظام في التعامل مع الجميع”
ومع التنوير جاء أيضا الالتزام باكتشاف ومعالجة التحيزات. ففي حين انتشرت فكرة المساواة بين البشر وما ترتب عليها من حقوق أساسية للجميع؛ بدأت المجتمعات تناضل للقضاء على التمييز على أساس العِرق والجنس، وفي نهاية المطاف جوانب أخرى من الهوية البشرية، بما في ذلك العجز البدني أو العقلي والتوجه الجنسي.
الآن يسعى ترمب إلى هدم كل ذلك. ويهدد رفضه للعِلم -خاصة حقائق تغير المناخ- التقدم التكنولوجي. كما يهدد تعصبه تجاه النساء، وذوي الأصول الإسبانية اللاتينية، والمسلمين، قدرة المجتمع الأميركي على أداء وظائفه ونجاحه الاقتصادي، عبر تقويض ثقة الناس بعدالة النظام في التعامل مع الجميع.
بوصفه زعيما شعبويا؛ استغل ترمب حالة السخط الاقتصادي المبررة والتي أصبحت واسعة الانتشار في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت أحوال العديد من الأميركيين في انحدار واتسعت فجوة التفاوت بدرجة هائلة. بيد أن هدفه الحقيقي -وهو إثراء نفسه وغيره من المحتالين الساعين إلى الثراء السريع على حساب أولئك الذين دعموه- كشفته خططه بشأن الضرائب والرعاية الصحية.
الواقع أن إصلاحات ترمب الضريبية المقترحة -بقدر ما علمنا عنها حتى الآن- تفوق خطط جورج دبليو بوش في رجعيتها. وفي بلد كأميركا -حيث بدأ متوسط العمر المتوقع يتراجع بالفعل- فإن إصلاح ترمب في مجال الرعاية الصحية سيترك 233 مليون مواطن أميركي إضافي بدون تأمين صحي.
وفي حين قد يعرف ترمب وأعضاء حكومته كيف يعقدون الصفقات التجارية، فإنهم يفتقرون إلى أدنى فكرة عن الكيفية التي يعمل بها النظام الاقتصادي ككل. وإذا نفذت الإدارة سياسات الاقتصاد الكلي التي تقترحها، فستؤدي إلى عجز تجاري أكبر ومزيد من الانحدار في التصنيع.
من الواضح أن أميركا ستعاني في عهد ترمب. فقد بدأ تدمير دورها القيادي العالمي حتى قبل أن يخون ترمب ثقة أكثر من 190 دولة بالانسحاب من اتفاق باريس. وعند هذه النقطة، ستتطلب إعادة بناء زعامة أميركا جهدا بطوليا حقا.
نحن نتقاسم كوكبا مشتركا، وقد تعلم العالَم بالطريقة الصعبة أننا يتعين علينا أن نتوافق ونعمل معا. كما تعلمنا أن التعاون يعود علينا جميعا بفوائد جمة. ماذا ينبغي للعالَم أن يفعل إذن في مواجهة هذا المشاغب الصبياني، الذي يريد كل شيء لنفسه ولا يمكن التفاهم معه بالعقل؟ كيف يتعامل العالَم مع الولايات المتحدة “المارقة”؟
عَرَضَت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركلالإجابة الصحيحة عندما قالت -بعد اجتماعها مع ترمب وزعماء الدول السبع الكبرى الأخرى الشهر الماضي- إن أوروبا لم يعد بوسعها أن “تعتمد بشكل كامل على آخرين”، ويتعين عليها أن “تناضل من أجل مستقبلها بنفسها”.
“نحن نتقاسم كوكبا مشتركا، وقد تعلم العالَم بالطريقة الصعبة أننا يتعين علينا أن نتوافق ونعمل معا. كما تعلمنا أن التعاون يعود علينا جميعا بفوائد جمة. ماذا ينبغي للعالَم أن يفعل إذن في مواجهة هذا المشاغب الصبياني (ترمب)، الذي يريد كل شيء لنفسه ولا يمكن التفاهم معه بالعقل؟ كيف يتعامل العالَم مع الولايات المتحدة “المارقة”؟”
لقد حان الوقت لكي تجمع أوروبا شتات نفسها، وتعيد التأكيد على قيم التنوير، وتقف في مواجهة الولايات المتحدة، كما فعل رئيسفرنسا الجديد إيمانويل ماكرون بكل بلاغة تعبيرية عبر المصافحة التي أحبطت نهج الذكر المسيطر الطفولي الذي يتبناه ترمب لتأكيد سلطته.
الحق أن أوروبا لا يجوز لها أن تعتمد على الولايات المتحدة بقيادة ترمب للدفاع عنها. ولكن ينبغي لها -في الوقت نفسه- أن تدرك أنالحرب الباردة انتهت، مهما كان المجمع الصناعي العسكري الأميركي عازفا عن الاعتراف بذلك.
ورغم أن مكافحة الإرهاب مهمة مكلفة وبالغة الأهمية، فإن بناء حاملات الطائرات والطائرات المقاتلة الخارقة ليس هو الحل. بل تحتاج أوروبا إلى اتخاذ القرار بنفسها بشأن كم ينبغي لها أن تنفق، بدلا من الخضوع لإملاءات المصالح العسكرية التي تطلب 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وربما يكون اكتساب الاستقرار السياسي أكثر رسوخا، من خلال التأكيد على الالتزام بالنموذج الاقتصادي الديمقراطي الاجتماعي الأوروبي.
ونحن نعلم الآن أيضا أن العالم لا يمكنه الاعتماد على الولايات المتحدة في التصدي للتهديد الوجودي الذي يفرضه تغير المناخ. وقد فعلت أوروبا والصين الصواب بتعميق الالتزام بالمستقبل الأخضر، فهو الصواب بالنسبة للكوكب، والصواب بالنسبة للاقتصاد.
وكما أعطى الاستثمار في التكنولوجيا والتعليم ألمانيا ميزة واضحة في التصنيع المتقدم على الولايات المتحدة العاجزة بفِعل الأيديولوجيا الجمهورية، فإن دول أوروبا وآسيا أيضا ستحقق ميزة يكاد يكون من المستحيل التغلب عليها من قِبَل الولايات المتحدة في تكنولوجيات المستقبل الخضراء.
ولكن بقية دول العالَم لا يمكنها أن تسمح للولايات المتحدة المارقة بتدمير كوكب الأرض. ولا يجوز لها أن تسمح للولايات المتحدة المارقة باستغلالها عبر سياسات “أميركا أولاً”.
وإذا كان ترمب راغبا في سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، فينبغي لبقية دول العالَم أن تفرض ضريبة تعديل الكربون على الصادرات الأميركية التي لا تمتثل للمعايير العالمية.
الخبر السار هنا هو أن غالبية الأميركيين لا يؤيدون ترمب. فلا يزال أغلب الأميركيين يؤمنون بقيم التنوير، ويقبلون حقيقة الانحباس الحراري العالمي، وهم على استعداد للتحرك وفقا لذلك. ولكن عندما يتعلق الأمر بترمب فلابد من أن يكون واضحا بالفعل أن المناقشة العقلانية المنطقية لن تجدي. لقد حان وقت العمل.
جوزيف ستيغليتز
الجزيرة