كما أظهرت جولة دونالد ترامب الأخيرة في الشرق الأوسط، فإن الشيء الوحيد الذي يوحد الولايات المتحدة وإسرائيل والكثير من العالم العربي هو معارضتهم لنشاطات إيران الإقليمية. وبينما بدا أن إدارة أوباما تعترف بأن الإكراه وحده لم يكن سيغير من سلوك إيران على الأرجح، وفضلت لذلك نهج العصا والجزرة، تبدو إدارة ترامب ميالة إلى البحث عن طرق لتضييق الخناق على إيران.
المنطق الأساسي لهذا النهج واضح. ويكمن الهدف في الضغط على إيران مع فرض عزلة إقليمية متزايدة، والتهديد بفرض عقوبات -والأهم، التصدي للمجموعات المدعومة إيرانياً في سورية واليمن بحيث يتم إجبار الجمهورية الإيرانية على سحب دعمها أو التخلي عن موطئ قدمها الإقليمي. لكن هناك مشكلة صغيرة واحدة وحسب: من غير المرجح أن تتراجع إيران.
يشكل عملاء إيران الإقليميين –خاصة في العراق وفي سورية واليمن- المفتاح لتحقيق هدفها الاستراتيجي الأساسي الهادف إلى إنهاء الدور العسكري الأميركي في الخليج العربي، والتنافس مع جيرانها على السيادة والتفوق الإقليميين. وبدلاً من التراجع بسبب التهديدات، سوف تستمر طهران في استخدام عملائها لخلق توازن مع الولايات المتحدة وحلفائها حيثما تظن أنها تستطيع ذلك.
جاءت جولة ترامب الشرق أوسطية في أعقاب إعادة انتخاب رئيس إيران الإصلاحي، حسن روحاني، الذي يجد نفسه الآن في موقف صعب. وكان قد خاض الانتخابات الرئاسية على أساس حملة تعرض الأمل، وساعده نجاحه على التوصل إلى اتفاق مع الغرب. وبافتراض أن روحاني يريد تخفيف التوترات مع جيران إيران وخصومها على حد سواء، فسيكون عليه أن يتمكن بطريقة ما من تغيير وجهة سلوك إيران الإقليمي. ومع ذلك، فإن من غير المرجح أن يحدث هذا لأن حكومة روحاني لا تتوافر على السلطة المطلقة في تحديد السياسة الخارجية وعلى صناعة القرار الاستراتيجي. وتكمن تلك السلطة عند المرشد الديني االإيراني الأعلى، علي خامنئي، الذي صادق منذ وقت طويل على الأجندة الاستراتيجية لجهاز الحرس الثوري الإيراني، المؤسسة العسكرية الإيرانية الأكثر قوة.
نتيجة لتفوق جهاز الحرس الثوري الإيراني، أصبحت إيران أكثر عزلة عن منطقتها من أي وقت منذ حرب العراق وإيران خلال الثمانينيات. ويريد المرشد الإيراني الأعلى وجهاز الحرس الثوري في إيران خروج الولايات المتحدة من المنطقة جملة وتفصيلاً. وفي الأثناء، يرى جيران إيران أن الولايات المتحدة هي عنصر الضبط الفعال الوحيد لنفوذ الجمهورية الإسلامية.
غذت هذه الرؤى المتنافسة الصراعات في سورية واليمن؛ حيث تدعم إيران وخصومها الجوانب المتحاربة، وتكافح من أجل محصلات متعارضة. ويرى جهاز الحرس الثوري الإيراني هاتين الحربين -والحرب في العراق أيضاً- نتاجاً لمؤامرة بقيادة أميركية، تشارك فيها عدد من الدول العربية، و”داعش” ومتطرفين آخرين من السنة، والتي تهدف إلى تدمير الجمهورية الإسلامية وحلفائها المخلصين (خاصة حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد والحوثيين في اليمن والحكومة ذات القيادة الشيعية في العراق).
أما بالنسبة لجيران إيران، فإن أسلحة جهاز الحرس الثوري الإيراني الأكثر خطورة هي العملاء المتشددين الأجانب. وقد أصبح هؤلاء يتمتعون بفعالية متزايدة في الأعوام الأخيرة. وقبل الاحتلال الأميركي للعراق، كان برنامج العملاء في جهاز الحرس الثوري الإيراني يتركز على تزويد إيران برادع استراتيجي معقول، بشكل رئيسي من خلال رعاية مجموعات مثل حزب الله وتنظيم الجهاد الإسلامي اللذين يستطيعان استهداف إسرائيل بضربات صاروخية أو من خلال شن هجمات إرهابية. ولكن، بعد الإطاحة بصدام حسين طورت فرقة القوات الخاصة في جهاز الحرس الثوري الإيراني والتي تعرف باسم قوة القدس عملاء متشددين عراقيين، والذين يمكن استخدامهم من أجل تحقيق المزيد من الأهداف العدوانية.
تحت قيادة رئيس قوة القدس، قاسم سليماني، أصبح هؤلاء العملاء العسكريون حجر الزاوية في الجهود الإيرانية لتحويل العراق من عدو حتى وقت قريب إلى جار صديق وودود. وفي الآونة الأخيرة، قام جهاز الحرس الثوري الإيراني بنشر هؤلاء العملاء بتأثير كبير في الحرب الأهلية السورية، حيث يرجح أنه يسيطر على قوات أكثر مما تسيطر عليه الحكومة السورية، وفي الحرب ضد “داعش” في العراق. كما أنه طور علاقات وثيقة مع الحوثيين في اليمن ودعم محاولة تلك المجموعة تأمين السيطرة على الدولة اليمنية.
وفي كل واحدة من تلك البلدان، تزايد نفوذ إيران السياسي سوية مع وصولها العسكري. ومن خلال هذه الجهود، أسس جهاز الحرس الثوري الإيراني تحالفاً عسكريا موالياً لإيران وعابراً للحدود -واحداً أثبت شدة مراسه في الحرب، ويتبنى المعطيات الأيديولوجية لنظام إيران الثيوقراطي. وقد شكل استثمار الحلفاء المشابهين في الفكر هدفاً أساسياً لجهاز الحرس الثوري الإيراني منذ تأسيسه. وبعد أربعة عقود تقريباً، بدأ في تحقيق النجاح في ذلك الجهد.
وهكذا، لم يعد موضوع نشاطات إيران العابرة للحدود مسألة صغيرة. وتستحق الأطروحة القائلة بأن لدى روحاني أولويات دبلوماسية أخرى أن تؤخذ مع حفنة من الملح.
ما يزال من غير الواضح ما إذا كان نهج روحاني تجاه لشرق الأوسط يختلف كثيراً عن جهاز الحرس الثوري الإيراني. ويقال أن جهاز الحرس الثوري الإيراني اعترض على إعادة انتخاب روحاني، في جزء منه لأنه عمل من أجل تقييد يد الجهاز في اليمن خلال مفاوضات الصفقة النووية. لكن حكومته تقف علانية وراء عمليات إيران السرية في المنطقة، وتنفي وجود كل عملياتها السرية.
وحتى لو أراد روحاني ذلك، سيكون من المستحيل عليه تقريباً إقناع المرشد الأعلى بالتخلي عن دعم برنامج جهاز الحرس الثوري الإيراني أو التخفيف من ذلك الدعم. ولفعل ذلك يترتب عليه تقديم حجة مقنعة بأن نشاطات جهاز االحرس الثوري الإيراني لم تعد تخدم مصالح النظام أو أنها أصبحت تضر به. ويستطيع مراقب محايد صنع حجة مقنعة بأن نشاطات جهاز الحرس الثوري الإيراني كان وما يزال لها أثر سلبي كبير على اقتصاد إيران وموقفها الدولي، وأنها ساهمت في حالة انعدام الأمن في الشرق الأوسط. أما من وجهة نظر خامنئي المعرفة بشكل واسع على أنها معادية للأهداف الأميركية، فإن جهود جهاز الحرس الثوري الإيراني تسير قدماً بالمهمة المحورية للجمهورية الإسلامية. وقد أصبحت المجموعات العميلة امتداداً لقوة إيران العسكرية، وليس شيئاً سيتخلى عنه خامنئي وجهاز الحرس الثوري الإيراني بسهولة.
في الحقيقة، في المعركة من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، كان عملاء جهاز الحرس الثوري الإيراني المتشددون يشكلون المعادل الكبير. فبينما أنفق جيران إيران مليارات الدولارات على شراء الأسلحة التقليدية، استثمرت إيران في قوى بالوكالة رخيصة التكلفة نسبياً، والتي أثبتت فعاليتها في مسارح عديدة. وقد منعت هذه القوى العراق من أن يصبح تابعاً أميركياً وأنقذت سورية من الخضوع للمتطرفين السنة المدعومين من أميركا ودول خليجية، وأعادت توجيه انتباه وموارد هذه الدول بعيداً عن سورية من خلال إشعال نار حرب في اليمن. وقد تصاعد نفوذ إيران في تلك البلدان نتيجة لذلك، وكذلك فعل نفوذها في المنطقة.
يمكن العملاء الخارجيون إيران من الإبقاء على خصومها بعيدين، لكنهم يضعون إيران تحت خطر التصعيد مع خصومها الإقليميين والولايات المتحدة. وما يزال الصراع يجري حتى الآن خارج حدود إيران، لكن خطورة سوء الحسابات تظل تتفاعل في الخلفية. وفي الوقت الحالي، يشكل العراق نقطة الضغط الإيرانية الرئيسية على الولايات المتحدة. وبينما تقف طهران وواشنطن في نفس الجانب اسمياً في دعم حكومة العراق، فإن المجموعات المدعومة إيرانياً تهدد على نحو روتيني باستهداف القوات الأميركية. وإذا تدخلت الولايات المتحدة بشكل أكثر قوة ضد الأسد في سورية أو الحوثيين في اليمن، فإن تلك المجموعات قد تعطى الضوء الأخضر من طهران لتجديد تلك الهجمات. وهذه إحدى الطرق التي يمكن أن يخرج بها الصراع عن السيطرة. ولا تريد إيران خوض قتال مع الولايات المتحدة –حيث يستطيع جهاز الحرس الثوري الإيراني محاربة الخصوم بواسطة العملاء، لكنه سيحقق نجاحاً أقل بكثير في حرب مباشرة مع الجيش الأميركي- لكن الوضع في العراق يخرج عن السيطرة وقد تكون المحصلة تصعيداً عسكرياً.
تشكل قدرة إيران على التأثير في التطورات خارج حدودها من خلال المجموعات الوكيلة العامل المركزي لعزل إيران، وأصلها الاستراتيجي الأكثر أهمية على حد سواء. وسوف يتطلب حل المفارقة إحداث تحول في الأجندة السياسية والأيديولوجية المفرطة في الوصول. ولكن، طالما ظلت مناهضة الولايات المتحدة هي العقيدة السائدة لتطلعات النظام الإيراني، وطالما استمر تعزيز تلك التطلعات من خلال المغامرات العسكرية الأجنبية، فإن الإيرانيين يعرفون طعم السلام والاستقرار اللذين يستحقونهما بقوة.
أفشون أستوفار
صحيفة الغد