شهد نشاط حلف شمال الأطلسي ال(ناتو) في إفريقيا عموماً وفي منطقتها الشمالية على وجه الخصوص، تطوراً لافتاً خلال السنوات الأخيرة وبخاصة بعد إسهام القوات الجوية للحلف في العمليات العسكرية التي أدت إلى إسقاط نظام العقيد القذافي في ليبيا، ومن المنتظر أن يتزايد نشاط الحلف في المنطقة العربية بعد أن وضع على رأس أولوياته خلال المرحلة المقبلة محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إضافة إلى محاربة المجموعات المسلحة في دول الساحل الإفريقي وجنوب منطقة الصحراء الكبرى مثل «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي» و«بوكو حرام». كما تضع بعض دول الحلف الأطلسي وفي مقدمها إيطاليا وفرنسا ضمن أولوياتها الرئيسية، محاربة الهجرة غير الشرعية التي اتسع خطرها على مستوى مياه البحر الأبيض المتوسط منذ انهيار مؤسسات الدولة الليبية في طرابلس.
لقد استطاع الحلف الأطلسي أن يتسلل إلى الدول العربية المطلة على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط من خلال إبرام اتفاقيات شراكة من أجل التعاون على المستوى الأمني بداية من سنة 1995 من القرن الماضي، وتزامن ذلك التعاون مع منح ال«ناتو» ل«إسرائيل» خاصية الحليف الاستراتيجي على مستوى المنطقة المتوسطية، الأمر الذي دفع الكثير من دول شمال إفريقيا إلى التعامل بحذر شديد مع نشاط الحلف، بالرغم من اضطرارها إلى استقبال الكثير من البوارج الحربية لهذا الحلف في سياق التعاون اللوجستي الذي جرى التفاهم بشأنه بين مختلف الأطراف من أجل ضمان الأمن في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، وقد ظلت ليبيا خارج إطار هذا التعاون بالرغم من التقارب الذي بدأ يحصل ما بين القذافي والدول الغربية قبل سنوات من سقوط نظامه في سنة 2011.
ويرى المراقبون أن التنسيق بين دول شمال إفريقيا وحلف ال«ناتو» يمثل شكلاً من أشكال الشراكة والتعاون غير المتكافئ لأن الجانب الأطلسي هو الذي يعمل على تحديد أجندة وسياقات هذا التعاون، وغالباً ما تضطر الدول العربية إلى التنسيق مع الطرف الأطلسي حتى لا تجد نفسها خارج اللعبة الأمنية التي يديرها الحلف.
وعليه فإن المناورات العسكرية التي أجراها الحلف الأطلسي مع بعض جيوش المنطقة هدفت بحسب الكثير من الخبراء إلى بلورة تصور دقيق بشأن الكفاءة والتجهيزات التي تمتلكها هذه الجيوش، وسمحت لقوات ال«ناتو» بالتعرف بشكل أفضل على مسرح العمليات العسكرية تحسباً لأي تدخل عسكري يمكن أن تفرضه تطورات الأحداث في المنطقة لاحقاً؛ ويتطور هذا النشاط الميداني بشكل تدريجي بتزامن مع تبادل الزيارات بين الوفود العسكرية والتي كان آخرها زيارة الماريشال ميشال هوارد قائد قوات التحالف في قاعدة نابولي الإيطالية وقائد القوات البحرية الأمريكية في أوروبا وإفريقيا، إلى الجزائر ولقائه مع العديد من القيادات العسكرية الجزائرية.
ويمكن القول في سياق متصل إن حلف ال«ناتو» يضع دول شمال إفريقيا ضمن دائرة مجهره الكبير، وبخاصة على مستوى القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا التي يطلق عليها اسم «أفريكوم»، وبالنسبة أيضا للقوات العسكرية الفرنسية المتواجدة بقوة في مالي بالقرب من الحدود الجنوبية للجزائر؛ الأمر الذي يفسّر انتقال الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون إلى مالي بعد أيام قليلة فقط من انتخابه من أجل مؤازرة جنوده، وقيامه بتوجيه رسائل مشفرة لدول المنطقة التي اتهم بعضها ومن بينها الجزائر، بكونها لا تبذل جهداً كافياً من أجل مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. ويأتي ذلك في سياق الضغط الذي تمارسه باريس على الجزائر من أجل الحصول على المزيد من التنازلات والتي كان من أبرزها سماح السلطات الجزائرية للطائرات العسكرية الفرنسية بالتحليق فوق الأجواء الجزائرية في سياق تفويض دولي من أجل مكافحة الجماعات الإرهابية برعاية الأمم المتحدة.
وتمثل الساحة الليبية في المرحلة الراهنة بؤرة المواجهة الأولى بين القوى الإقليمية ودول ال«ناتو»، إضافة إلى روسيا التي تسعى إلى استعادة نفوذها في هذا البلد بعد أن تراجع بشكل لافت منذ سقوط نظام القذافي. حيث نلاحظ تزايد الاهتمام البريطاني بليبيا وبخاصة منذ التفجيرين الإرهابيين اللذين وقعا في مدينتي لندن ومانشستر، كما نجد الاهتمام ذاته لدى القيادة الفرنسية الجديدة التي تحاول حسم خياراتها بشأن التعامل إما مع حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السراج وإما مع قيادة الجيش الوطني الليبي بزعامة خليفة حفتر، وذلك بناءً على التفاهمات التي يمكن أن تنجزها مع دول الجوار وفي مقدمها مصر والجزائر، وبالتالي فإنه من غير المستبعد أن يعود التنافس البريطاني – الفرنسي على النفوذ في ليبيا إلى الواجهة خلال الأشهر القليلة المقبلة، ليجر وراءه اصطفافات إقليمية مع هذه الدولة أو تلك بشكل قد لا يخدم بالضرورة مصالح دول المنطقة.
ويدفعنا هذا الحراك الأطلسي المتصاعد في شمال إفريقيا، إلى الاستنتاج عطفاً على ما تقدم، بأن دول المنطقة وفي طليعتها دول الجوار الليبي، مطالبة أكثر من أي وقت مضى بنبذ خلافاتها، والعمل بطريقة أكثر فعالية من أجل المساهمة في بلورة حل سياسي توافقي بين كل أطراف الأزمة الليبية بهدف قطع الطريق أمام القوى الغربية.
الحسين الزاوي
صحيفة الغد