في شأن ما جرى في مانشستر

في شأن ما جرى في مانشستر

العالم الذي نعيش فيه يعج بالأحداث المتوالية والكثيرة والمتسارعة٬ وكلها تحصل على تغطية إعلامية لاهثة هي الأخرى٬ بحيث يصير الصوت والصورة والكلمة المطبوعة والإلكترونية كما لو كانت سلسلة من المرايا المقعرة التي تضخم كل شيء ويحتاج العقل الإنساني إلى قدرات فذة حتى يستطيع وضع الأمور في حجمها الصحيح. المدهش أن «اليوم التالي» لكل حدث يبدو وكأنه لا صلة له بما حدث بالأمس٬ فتطورات اليوم الجديد٬ بل وأحيانا الساعة الأولى٬ تزيح كل ما جرى وتضعه للغاية؛ وبالنسبة للكتاب والباحثين فإن الإلمام بما يجري يحتاج إلى نوعيات جديدة من أدوات التحليل٬ وضخم في مكان بعيد. وبطريقة ما فإن «التاريخ» يبدأ مبكراً. الأحداث التي تبدو متفرقة تكون عند البحث كاشفة عن إشكاليات كثيرة واقعة في صميم العالم الكومبيوتر وغوغل بشدة الذاكرة البحثية وجعلت ما هو مستحيل ممكناً الذي نعيش فيه. وفي 26 مايو (أيار) المنصرم وقع حادث إرهابي في مدينة مانشستر نجم عنه مقتل 22 فرداً٬ بعضهم من الأطفال٬ وجرح آخرون؛ وجاء ذلك نتيجة قيام انتحاري ­ سليمان عبيدي ­ بتفجير نفسه في قلب حفل موسيقي.

للوهلة الأولى فإن الحادث الإرهابي بدا كما لو كان مثل أحداث إرهابية أخرى باتت متكررة٬ ولكن مثل هذا التكرار لا ينبغي له لا التقليل من شأنه٬ ولا الجهل بأبعاده٬ ولا الغفلة عن نتائجه. فالآن وبعد أسبوع من واقعة مانشستر فإننا نعرف معلومات كثيرة عن الفاعل وارتباطاته وأصوله وتاريخه٬ والبعض من تحليل القصور في التعامل مع المعلومات التي وردت من قبل حول الانتحاري. المراجعة شبه علنية وتكشف بطلان ما هو ذائع عن نظرية «الأسباب الجذرية» التي ترى أن الإرهاب يعود إلى ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية (الاستبداد والقهر)؛ وتعطي الأهمية الأكبر لنظرية «الأدلجة» و«الاعتقاد» والفكر في عمومه. فصحيح أن سليمان عبيدي ينتمي إلى أسرة ليبية٬ وأن هذه الأسرة تعرضت للقهر من قبل معمر القذافي٬ ولكن سليمان ولد في بريطانيا٬ وتدرج في مدارسها٬ وعاش في أحيائها٬ ودخل جامعاتها٬ في مانشستر يونايتد فإذا لم يعجبه وشاهد ديمقراطيتها. الخيارات أمامه كانت كثيرة٬ لم تنسد الطرق في وجهه٬ وكان بوسعه٬ ولا يقف أمامه شيء٬ أن يكون لاعباً شهيراً يحصل في البرلمان أو طبيباً جراحاً في حزب آخر٬ كان يستطيع أن يكون عضواً في حزب أو تقدمياً ففي مانشستر سيتي٬ كما كان يستطيع أن يكون عضواً محافظاً أمام عملية غسل المخ التي جاءت بالخوارج الجدد٬ الدواعش٬ بأفكارهم التي أعيد تفصيلها على مقاسات رغم أصوله على اللقب النبيل «سير». كل ذلك تنحى بعيداً في حفل فيه الكثير من الأطفال.

القرن الحادي والعشرين٬ لكي تجعل الشاب يقتل أطفالاً وقع الحادث الإرهابي في مانشستر بينما تمر بريطانيا بمعركة انتخابية طلبتها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي٬ ولم تكن مجبرة عليها حيث كان لديها من الشعبية والأغلبية البرلمانية ما يكفي؛ ومن المنتظر أن يكون للعمل الإرهابي نتائج سياسية على كل ذلك وعلى حزبها المحافظ لأنها رئيسة الوزراء وقت وقوع الحادث؛ ولأنها كانت وزيرة الداخلية قبل تشكيل الوزارة الحالية. لا يعني ذلك بالضرورة أنها سوف تخسر الانتخابات لأن موضوعها ليس الإرهاب٬ وإنما هو الخروج من الاتحاد الأوروبي. في العموم فإن النظام السياسي البريطاني تعامل مع الواقعة في إطار نظام ديمقراطي يحكمه القانون٬ واستقرار التقاليد السياسية التي تجري ممارستها بثبات؛ على الأقل حتى الآن تم تجنب اتخاذ إجراءات استثنائية تقتضي فرض حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية. فبقدر ما أن النظام السياسي البريطاني معقد بتقاليده وتاريخه٬ بقدر ما يعتبره الناس كذلك معطى لا يوجد شك فيه٬ ولا يمكن النكوص عنه. فالواقعة عارضة ويجري التعامل معها وفق قواعد محددة سلفا٬ وكانت النتيجة هي دراسة ما جرى والسعي لتلافي القصور الذي أبرزته الواقعة٬ باختصار تحمل النظام المسؤولية وما ترتب عليها من دروس وإصلاحات.

فقد جرى الحادث الإرهابي في مانشستر بينما تتأهب بريطانيا لثلاثة اجتماعات تجري في الإقليم الأوروبي: لقاء قادة حلف الأطلنطي٬ لقاء قادة الاتحاد كان ذلك ضرورياً الأوروبي مع دونالد ترمب٬ ولقاء قادة الدول السبع الصناعية الكبرى ­ 7G .حصلت بريطانيا على تأييد الجميع٬ مع قدر من اللوم البريطاني لقيادة ترمب لحدوث تسريب في المعلومات الخاصة بالعملية الإرهابية إلى صحيفة «نيويورك تايمز». ولكن المرجح أن المستويات الحالية العالية للتنسيق الأمني مع دول حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي سوف تستمر وتتزايد. ومع ذلك تبقى المعضلة قائمة في: كيف يمكن لحلفاء الاستمرار فيما اعتادوا عليه٬ خصوصا أمام أخطار محدقة٬ بينما عضو مهم في الحلف يرسل إشارات متتالية عن رغبته في التصرف المنفرد من ناحية٬ كما أنه يبدو عاجزاً عن السيطرة على تسريب الأسرار المهمة من ناحية أخرى.

فبشكل أو آخر فإن الحادث في مانشستر حكمته متغيرات في النظام الدولي: انتخاب ترمب وما ترتب عليه٬ الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي٬ الانتخابات الأوروبية الأخرى التي حافظت على الاتحاد الأوروبي٬ الاقتراب ثم الابتعاد الأميركي الروسي٬ عودة أميركا إلى الشرق الأوسط في الرياض وسوريا والعراق٬ التوتر في بحر الصين الجنوبي والأزمة مع كوريا الشمالية. في بريطانيا جددت تيريزا ماي التحالف الأميركي البريطاني٬ وبدا أنها ترفع من شأن الرابطة الأطلنطية على حساب الرابطة الأوروبية٬ ولكنها في كل الأحوال تؤكد على حلف الأطلنطي وضرورة مواجهة روسيا٬ وكذلك الإرهاب الذي جاء حادث مانشستر لكي يؤكد أن فقط ولكنه في الوقت نفسه عليه مواجهة واقع جديد. فالولايات المتحدة تحت قيادة ترمب تتعامل مع أوروبا ومع الحلف بطريقة مختلفة عما كانت التحالف لا يزال باقياً عليه الحال من قبل؛ صحيح أن ترمب أعلن تمسكه بالحلف٬ ولكنه نكص رغم كل الضغوط عن إعلان التزام واشنطن بالمادة الخامسة من التحالف والتي تنص على التزام الأعضاء بالوقوف إلى جانب أي عضو يتعرض للهجوم من قوى معادية. وقد أعلن الحلف بالفعل تفعيل هذه المادة بعد الهجوم الذي جرى على واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 .أكثر من ذلك فإن ترمب أعلن من جانب واحد خروج الولايات المتحدة من اتفاقية باريس الخاصة بمكافحة الاحتباس الحراري التي ناضلت دول الحلف من أجل إخراجها إلى الضوء بعد الحصول على موافقة الصين والهند عليها.

الحادث الإرهابي في مانشستر جعل وحدة العالم الغربي ضرورية أكثر من أي وقت مضى لمكافحة الإرهاب؛ ولكن كيف يحدث ذلك بينما أميركا مشكوك في استمرارها الاعتماد على الولايات المتحدة؟ قدرة بريطانيا وتيريزا ماي في أفغانستان٬ وتطلب تعويضات مالية عن قيادتها للحلف؛ وأنجيلا ميركل تقول لأوروبا إنه لم يعد ممكناً على الإجابة عن هذه الأسئلة ربما سوف تستمدها من أرواح الذين سقطوا في مانشستر؟!

عبدالمنعم سعيد

صحيفة الشرق الأوسط