منذ قسّمت كردستان العثمانية، وكرد العراق يسعون جاهدين إلى نيل شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي. في البداية همّ المتنورون القوميون يترأسهم الشيخ محمود الحفيد «ملك كردستان» بمخاطبة حكّام العراق الإنكليز لضم كردستان إلى «قائمة الشعوب المحرّرة» وعدم عودتها إلى حكم الأتراك، وما رافق تلك الحقبة من خصام ووئام كردي – بريطانيّ. ثم كانت مقارعة الحركة القومية الكردية الحكومات العراقية المتعاقبة بدءاً بحكومات التاج الهاشميّ، مروراً بزمن الزعيم عبدالكريم قاسم صاحب وصف العراق بـ «الجمهورية الخالدة»، ثم بحكم الأخوين عبدالسلام وعبدالرحمن عارف، فعهد «البعث» والثنائي أحمد حسن البكر و «السيد النائب» صدام حسين، وصولاً إلى حقبة الاحتلال الأميركي وإزاحة صدّام نهائياً عام 2003، وهي التي مكّنت الكرد من تنفس الصعداء وإنهاء مرحلة القلق والريبة من عودة طغيان بغداد الذي كان قد أفل نسبياً بعيد الانتفاضة الكردية عام 1991.
في هذه الغضون قرّرت حكومة كردستان العراق، بلوغ الحدّ الأقصى من الأماني والتطلّعات القوميّة مع تحديد 5 أيلول (سبتمبر) المقبل موعداً لإجراء الاستفتاء الخاص باستقلال كردستان، أو لنقل انفصاله عن العراق، إذ لم يعد من المُحرج كردياً استخدام مفردة «الانفصال» التي طالما دحضها السياسيون الكرد ورفضوها واعتبروها أقرب إلى صيغة اتهامية تشكّك برغبات الكرد الساعية إلى شكلٍ من الحكم الذاتيّ!
لا يوصف وضع المنطقة بالجيّد، وهذا قولٌ سارّ للكرد الذين يجيدون فهم حكمتهم السياسية من أن أوضاعهم تتقدم حين تضعف أو تضطرب الحكومات المركزية التي تتقاسم الكرد، وأن سوء العلاقات البينيّة لهذه الدول هي مدخل للنفوذ من شقوق هذه الخصومات. فمنذ أن حظيت كردستان العراق بالفيديرالية وهي تشبّك العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول الجوار، وتحديداً إيران وتركيا، وبصيغة براغماتيّة صميمة بعيدة من الخطب القومية المنفّرة. وهي إذ استفادت من تلك العلاقات التي أسكتت هاتين القوتين، فإنها بدأت بالتلويح بانحيازها إلى هذا الطرف أو ذاك، وفقاً للسياسات التي ينتهجها، لمواقفه من الإقليم وطموحه القومي. وبالتالي فإيران وتركيا لا تبدوان اليوم في وارد مناهضة عنيفة أو عرقلة حادة لمطامح كردستان العراق، إذ إن قيام إحداهما بهذا الدور يعني انحياز كردستان إلى الجهة الأخرى، وهذا أمر ينطوي على خسائر اقتصادية وسياسية لها.
في المقلب الآخر توصف أوضاع بغداد بالسيئة، فالانقسام الطائفي العميق، والمشكلات الاقتصادية والخدميّة المتراكمة، وابتعاد بغداد عن الحاضنة العربية وانكفاؤها الداخلي، وخوضها المديد في الملف الأمني، والعديد من المشكلات الأخرى، تجعل إمكانية تصدّي بغداد لمشروع الاستقلال الذي سينجم عن الاستفتاء أمراً غير ذي أثر، خصوصاً أن بغداد غير قادرة على المغامرة بحرب مع الكرد، وبالتالي فإن أقصى ما يمكن أن يُتوقع منها هو الرفض والصراخ في وادي الوحدة العراقية المقفر.
تعاني كردستان العراق مشكلات أيضاً، لكنها ليست بالعصيّة على الحل، لا بل قد يكون موضوع الاستفتاء ثم الاستقلال أحد أسباب معالجتها، كمشكلة الرواتب والانسداد السياسي الحاصل بين الحزب الديموقراطي الكردستاني وحركة التغيير، وتعطيل البرلمان، وكذلك مسائل الشفافية والمحاسبة والعدالة الاجتماعية. وعلى عكس هذا الرأي يشيع متشائمون من الاستفتاء أقوالاً مفادها أن الاستقلال هو لأجل بقاء الطبقة السياسية في مكانها وأنه وسيلة لمراكمة المشكلات التي سيودي عدم حلّها قبل الاستفتاء بكردستان العراق إلى نموذجٍ أقرب الى جنوب السودان مما إلى نموذج متميّز يرفل بالديموقراطية واحترام الدستور والقانون، وأن الاستفتاء هو مخاطبة عاطفية للنزوع القومي الكردي وقفز على المشكلات ليس إلّا. ومهما يكن رأي القائلين بهذا، فإن الغالبية العظمى من سكان الإقليم ترى في الاستقلال استحقاقاً إما أن يكون الآن أو لن يكون، ولأجل ذلك جهدت حكومة الإقليم لتوسيع جولاتها العربية، لا سيما الخليجية منها، والإقليمية والدولية، بغية إقناع أكبر قدر ممكن من الدول بجدوى استقلال كردستان وجاهزيتها للتحول إلى دولة مستقلّة. ولئن كانت بعض الدول وافقت على مضض على الضيف الجديد على الأسرة الدولية، فإن دولاً أخرى تنوس بين الموافقة والرفض، لا سيّما تركيا وإيران المحتارتين في شأن الجار الجديد وما يستتبعه الاستقلال الكردي هذا من تأليب محلي يطاول الكرد المحكومين في دولتيهما. بيد أن الكرد يدركون إلى درجة تبلغ حدود الإيمان بأن الكلمة المفتاحيّة هي في يد أميركا، ثم الاتحاد الأوروبي وروسيا. وبالتالي، ما كان لكرد العراق أن يقدموا على مثل هذا الأمر لولا سماعهم كلماتٍ محفّزة وإشارات خضراء. تمرّن كرد العراق منذ 1991 على حكم الذات وخبروا معاني المصالح والعلاقات الدولية والإقليمية، ومعاني الانقسام الداخلي والحروب الأهلية، كما فهموا معاني اقتناص الفرص التي قلّما تسمح بها الظروف، ولعل التمارين القاسيّة تلك لا يمكنها إلا أن تساعد على نيل الاستقلال الصعب، وإنهاء أوهام «الجمهورية الخالدة» التي يفترض أن تعيش إلى الأبد. فإما «أن تستقل كردستان الآن أو لن تستقل لاحقاً»، وفق ما يقوله سياسيو الإقليم وحكامه جامعين بين التحذير المبطّن والتحفيز العلني لأبناء كردستان.
شورش درويش
صحيفة الحياة اللندنية