كان نابليون أول من دشّن خطاب الشفقة للدول، حين جاء إلى مصر عام 1798، يوم ذاك، أصدر منشوراً للمصريين جاء فيه: “من أمير الجيوش الفرنساوية خطاباً إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام. نعلمكم أن بعض الناس، الضالين العقول، الخالين من المعرفة وإدراك العواقب، أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين في مصر، فأهلكهم الله، بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد. فامتثلت أمره، وصرت رحيما بكم شفوقاً عليكم”.
صدر مرسوم نابليون في 16 رجب 1212هـ/3 يناير 1798، لكنه لم يلق الاستجابة عند المصريين. لكن مصر، منذ تلك اللحظة، ظلت منصة مشتهاة للسادة البيض، كي يقدموا من منصتها خطابات الحرية والديمقراطية الزائفة، والتي انتهت إلى استعمار واحتلال وارتهان. لكن نابليون الذي اصطحب معه علماء عصره وأدخلهم في مشروعه التوسعي، لم يجعل معرفة الأنوار الفرنسية في خدمة طموحاته العسكرية للهيمنة بأي ثمن وحسب، بل أسّس لنهج خدمة المعرفة للاستعمار.
ظل نابليون محل التباس في الوعي، فهل أحدثت حملته نهضة في الشرق أم لا؟ هل كان فاتحاً أم مستعمراً؟ الأغلب أنه جعل الشرق أكثر شهيةً على مائدة الغرب الذي سارع لالتهامه في عدة مناسبات، مرة بالوصاية ومرة بالانتداب ومرة بنشر الديمقراطية، وأخيراً الحرب على الإرهاب. ولاحقاً لنابليون بنحو قرن، عملت لندن الأمر نفسه في مؤتمرها لعلماء أوروبا بين عامي 1905-1907. وكانت توصياتهم جادةً في رسم تقسيم الشرق ووجوب احتلاله، لكنها كانت مهينةً للأخلاق والمعرفة؛ حين تتطوّع لخدمة قوى الغطرسة والاستعمار. وكأن هذا “الغرب” لم يسمع ما قاله فلاسفته، وما ردّدوه عن الأخلاق والسياسة.
ظل تولستوي يردّد: “الشر لا يقتل الشر، كما النار لا تطفئ النار”، ورأى كانط أن السياسة لا
يمكنها اللمعان إذا لم تحترم الأخلاق وتكرمها أمام الحق، أو بلغته: “السياسة الحقيقية هي التي تحترم الأخلاق، وتخضع أمام الحق”. وقال باروخ سبينوزا إن الحق هو “الحرية التي للشخص، تكمن في أن يوجد ويتصرف وفقا للعقل”، وهو ما يقود المجتمع إلى حكم ديمقراطي. ولذلك، قال في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” عن العقل وأهميته: “الغاية من الدولة هي الحرية الملتزمة بأوامر العقل وإملاءاته”.
لكن تلك الأفكار في عالم القوة لا تفيد، خصوصا إذا وجدت القوة المتوحشة من يقدم لها خدمات التبرير الجليلة، لكي تصبح أكثر شراسةً وأقل أدباً. وفي كل مرة، تعبّر القوة الحاكمة للعالم عن رؤيتها لحياة الشعوب بشكل مختلف، فحين جاء الرئيس جورج بوش الابن بمقولة نشر الديموقراطية في العالم، وخصوصا في الشرق، اعتبر العراق وتدميره واحتلاله ممراً لتنفيذ ذلك الحلم.
أفادنا كارل ماركس في حديثه عن الفلاسفة ودورهم في صياغة وجهة العالم بمقولته: “اكتفى الفلاسفة، إلى الآن، بتفسير العالم، وعليهم أن يسعوا إلى تغييره”، فكيف حدث ذلك في السنوات الأخيرة أميركياً؟
حين جاء باراك أوباما، وألقى خاطباً بليغاً في جامعة القاهرة العام 2009 عن التغيير الناعم وإحلال الديمقراطية بهدوء، أعقب ذلك ربيع عربي مدمر، وحين قال ترامب في قمة الرياض إن أميركا لن تتدخل في حياة الشعوب، فعلينا هنا أن ننتظر خراباً من نوع جديد.
ثمّة دور أساسي للولايات المتحدة في إفساد العالم، ليس ذلك هدفاً منوطاً فقط بالقادة أو العسكر، بل ثمّة من يعينهم من أهل الفكر والبحث، ولنا في تجربة جورج بوش الابن وصعود المحافظين الجديد دليلاً، فمنذ 1992 وتوقعات فرانسيس فوكوياما ووصايا برنارد لويس تحضر وتغيب، كلما فكرنا أو سألنا عن خريطة الشرق الأوسط المستقبلية. ولنتذكّر أن طروحات فوكوياما عن نهاية التاريخ، وكذلك أفكار برنارد لويس بشأن الإسلام والشرق، كانت الدليل العلمي لسياسات المحافظين الجدد في الشرق الأوسط. وقد صدرت أفكار فوكوياما متزامنةً مع تصاعد أفكار صموئيل هنتغتن ومقالته “صدام الحضارات”. وبعد ثلاثة أعوام على “نهاية التاريخ”، أصدر فوكوياما كتابه “الثقة” عام 1995، ودرس فيه معايير القوة الاجتماعية التي تجعل المجتمعات مستمرةً في وقتٍ يندب فيه الناس فقدان جوهرهم الديني والأخلاقي، ما يجعله أكثر خوفاً. وبعد أربع سنوات على صدور “الثقة”، صدر كتابه “الانفصام العظيم” عام 1999، الذي عاين فيه السبب الذي أدى إلى فشل الحركات الاجتماعية الراديكالية في عقد الستينيات. وبدأ فوكوياما الألفية الثالثة في كتابه الرابع “مستقبلنا ما بعد البشري” الصادر عام 2002، وطالب فيه بفرض قيود قانونية على البحوث الوراثية. ويبدو أن هذا المطلب وجد في فوكوياما خير متلقٍ، حيث سعى إلى التأثير بأفكاره على صانع القرار الأميركي بشكل مباشر، ولم يكن ذلك من خلال مقالاته وحسب، بل عبر مقارناته التي أجراها بين مارتن لوثر وأسامه بن لادن، وتحذيراته الخاصة بالجيل الثاني من مسلمي أوروبا وسؤال الهوية وإحساسهم بكيانيتهم وخصوصيتهم الثقافية.
في كتابه التالي “بناء الدولة والحكم والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين”، وقف فوكوياما أمام مشهد الانهيار العالمي متمعناً، فقد عاش جل حياته في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا ما جعله يفكر في صياغةٍ أوضح لمعايير البناء والهدم في ظل النظام العالمي الجديد.
ليست الإمبراطورية الأميركية اليوم في حالة الترف الحضاري، في أبلغ عتوها وجنونها، في
ظل قيادةٍ غير متزنة، لا بل تتبع شهواتها فقط، وترغب في تحقيق أي انتصار مهما كان الثمن من ورائه. وللأسف، كثيراً ما تكون حروب الساسة وتصوراتهم خاضعةً لأفكار المثقفين والباحثين، وهو في حالة ترامب وجورج بوش، وفوكوياما وبرنارد لويس، لكن نبوءة فوكوياما أن الرجل الأبيض الليبرالي هو الأخير الذي يحكم العالم، بقيمه المتمسكة بالحرية والعدالة والمساواة، باتت اليوم ضرباً من التاريخ، فهذا الرجل لم يأت إلا بالدمار والخراب، ولم يحمل معه إلا مزيداً من البؤس والظلم وغياب العدالة.
صحيح أن بناء الدولة والحكم في القرن الحادي والعشرين يواجه اليوم أزمة راهنية، بفعل الغرب وراهنيته التي أدت إلى صراعاتٍ موروثة في المستعمرات التي خرج منها منتصف القرن العشرين، لكن الغرب أيضا يشهد أزمة حضارية عنوانها الأخلاقية السياسية.
تابع فوكوياما، في إبريل/نيسان 2017، أزمات الشرق العربي، وأدلى برأي مهم بقوله: “من منظور السياسة الخارجية، يجب أن تكون هناك عقود اجتماعية جديدة مكتوبة في سورية، والعراق، واليمن، وليبيا، والأماكن التي تنهار. لا أدري ما الذي سيبدو عليه شكل هذه العقود. في الأساس، يجب أن تُكتب بيد الناس الذين يعيشون في تلك المجتمعات، يجب أن تكون هناك دولة مستقرة، استبدادية كانت أو ديمقراطية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها السيطرة على أمور مثل الإرهاب والهجرة وما إلى ذلك..”. ونجد في رأيه أنه ما من مشكلةٍ في مَن يحكم الدول، نظام ديمقراطي أم مستبد، فالمهم إعادة النظم السياسية التي كانت متوفرة إلى مستوى معقولٍ من الوجود لمواجهة الفوضى والإرهاب، وهذا ما يريده دونالد ترامب اليوم.
مهند مبيضين
صحيفة العربي الجديد