استخدم زعيم حزب العمال البريطاني جيرمي كوربين عنوان الرواية الشهيرة لتشارلز ديكنز «قصة مدينتين» ليقول إن أغلب الذين ماتوا في برج غرينفل ذي الطوابق الأربعة وعشرين هم من الفقراء الذين يعيشون أحوالاً لا تشابه أحوال أغلب سكان بلدية تشلسي وكنزنغتون نفسها التي يعتبر السكن فيها دليلا على الغنى الفاحش، اللهم، إلا إذا كنت مثل أولئك الضحايا الذين ماتوا خنقاً وحرقاً في مصيدة الموت هذه التي جرت قبل أيام.
الأسماء التي أوردتها وسائل الإعلام تدلّ، من دون شكّ، على رجحان حصّة العرب والمسلمين بين الضحايا، لكن المؤسف أن بعض جرائد التابلويد المعروفة بكرهها للأجانب عموماً، وللمسلمين خصوصاً، تجنّبت تناول هذا الجانب الواضح بل واستغلّت الفرصة للنيل من أحد رموزهم، وهو عمدة لندن صادق خان، الذي كان وما يزال أحد أهداف الحملات المبطّنة ضد المسلمين، التي شارك في تصويب سهامها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه (وابنه أيضا) لأن وجود المذكور في هذا المنصب الكبير هو نقض وتهديم للسرديّات التي يعتاشون عليها.
بعض الصحف الوقورة نسبيّاً قدّمت بعض الجوانب الإنسانية حتى لو لم تكن تصبّ مباشرة في أجندتها السياسية المباشرة، وتناقلت وسائل الإعلام حكاية ناديا شقير التي اتصلت بأهلها لتبلغهم أنها لن تتمكن من النجاة، ونور الهدى الوهابي التي طلب منها عناصر الإطفاء البقاء في شقّتها ثم ضاع أثرها، ومحمد الحجلي، اللاجئ السوري الذي طلب من أهله أن يسامحوه لحظات قبل موته، والعائلات المسلمة التي كانت مستيقظة للصلاة والسحور فانتبهت للحريق ونبّهت جيرانها.
عبّر بعض المعلّقين عن الشعور بالعار نتيجة سلسلة الفشل والإهمال وعدم المسؤولية التي أدّت بالنتيجة إلى الحريق وانتقد آخرون بشدّة السياسات البريطانية على مدى 30 عاماً والتي أهملت شؤون السكن الاجتماعي وفتحت الباب لممارسات الشركات الخاصة التي تهتم بالربح وطالبت بالإجابة على الأسئلة الحارقة وبالتغيير.
أضاف كوربين على تصريحه المذكور اقتراحاً بمصادرة الأبنية الفاخرة الفارغة لإسكان الهاربين من الحريق الذين صاروا من دون مأوى ولعلّ المفارقة الكبرى أن الكثير من ملاك تلك العقارات هم أيضاً من العرب، وهو أمر مليء بالدلالات ويفتح قوساً آخر في المسألة المعقدة يشبه لعبة «ماتريوشكا» الروسية حيث تتكشف الدمية عن دمى أخرى بداخلها.
فإذا كان كوربين يتحدث عن «مدينتين» في لندن، واحدة للفقراء وأخرى للأغنياء، وكان حظّ الكثير من فقراء لندن أن يكونوا لاجئين من بلدان عربية وإسلامية، فإن الجانب الآخر من المعادلة أن هؤلاء ما كانوا ليلجأوا إلى بريطانيا لو لم تكن بلداً غنيّاً، من جهة، ويحفظ حقوقهم التي حُرموا منها في بلدانهم الأصلية، من جهة أخرى، وأن الغنى الفاحش لسكان تشلسي وكنزنغتون وباقي أنحاء لندن وبريطانيا الغنية، والذي يساهم فيه بعض أثرياء العرب الذين جمعوا أموالهم «بالحلال»، يمكن أن يكون أيضاً مكانا لسكنى العرب (وغير العرب) ممن جمعوا أموالهم باستنزاف دماء وعرق شعوبهم.
وإذا كان الفارق بين سكّان البرج المحروق وبعض سكّان لندن الآخرين كبيرا جداً، فإن الفارق بين من لا يملكون شروى نقير في بلدان عربية منكوبة، ولا يستطيعون الهرب بأرواحهم وأولادهم من شرّ الشبيحة والبلطجية والقتلة الذين تحميهم أجهزة الاستخبارات، ممن يملكون الأرض ومن عليها، هو فاحش وبذيء وشرير.
تعاطف كوربين النابع من تراث إنساني واشتراكي بريطاني وعالميّ والذي يتّسع لانتقاد بعض البلدان التي يعتبرها رجعية ومتخلّفة (وكذلك نقده المحسوب لإسرائيل) يتوقّف قاصراً حين يتعلّق الأمر ببلدان يسوسها حكام متوحّشون طغاة هم المساهمون الأكبر في تهجير هذه الأعداد الغفيرة من العرب والمسلمين الذين رمى الحظّ بعضهم إلى برج غرينفل وماتوا احتراقا، وبينهم الفلسطينيون والسوريون والعراقيون واليمنيون والمصريون والجزائريون.
بالمناسبة فالملكة البريطانية، ورئيسة الوزراء، وزعيم المعارضة، وعمدة لندن، ومسؤولو البلدية كلّهم زاروا المكان وفكّروا، كلّ على طريقته، بالضحايا، أما المسؤولون الأوائل عن هجرتهم فيتابعون قتل وتهجير آخرين مثلهم في البلدان العربية.
القدس العربي