لم تعد الحرب بالوكالة التي تشنها إيران في المنطقة كافية للدفاع عن نظام الولي الفقيه قي طهران. بات استراتيجيو الجمهورية الإسلامية يشعرون بأن رياحاً أخرى تهب في المنطقة وبات وقعها يقرع أبواب البلد ويهزّ عرشاً كان يمنّي النفس بالنفخ بإمبراطورية غابرة عاصمتها بغداد.
تبدل التوازن الإقليمي برمّته. لم تعد العواصم العربية الأربع التي أعلنت طهران أنها تحت السطوة الإيرانية كافية للدفاع عن العاصمة الإيرانية نفسها. انتقل الإرهاب «الداعشي» إلى طهران ليضرب داخل البرلمان، حجر الزاوية للنظام السياسي للجمهورية، وليضرب ضريح الإمام الخميني، رمز تأسيس هذه الجمهورية. لم تعد دولة الفقيه بمنأى من أورام التطرّف التي ما برحت منابر إيران وأجهزتها تنفخ فيه شرقاً وغرباً، علناً وخلف الكواليس، فينتج ميليشيات طائفية تنافس «داعش» في غيّه وتتقاطع معه في غاياته.
ليس بالأمر افتراء ومبالغة، فالتقارير دقيقة في التحدث عن تورّط إيران المباشر مع تنظيم «القاعدة» واستضافة قياداته، كما في التواطؤ لتحرير قيادات التطرّف الإسلامي من سجون سورية والعراق الذي لم يكن سيؤدي إلا لإنشاء تنظيم أبو بكر البغدادي الشهير. كما أن التنظيم نفسه راعى هذه «المكرمة» فلم يتوجه بعد سقوط الموصل عام 2014 إلى بغداد، بل إلى مناطق الأكراد والإيزيديين، كما أنه كشف عن تعاون يشبه التحالف مع نظام دمشق ضد المعارضة السورية المعتدلة.
كان ذلك في ما مضى. فالمنطقة تشهد فصولاً أخرى تتغير فيها القواعد والمسلّمات. تعبّر عملية «داعش» الإرهابية في طهران عن ذلك تماماً. لم يضرب التنظيم قبل ذلك أي هدف داخل إيران، ولذلك أسباب من دون شك. وأن يضرب التنظيم في هذا الشكل وتلك الأهداف وفي هذا التوقيت، فلذلك أسباب من دون شك. وأهم تلك الأسباب أن تفاهماً ما بين طهران و «داعش» جنّب إيران صولات البغدادي، قد سقط، وأن سقوط هذا التفاهم فتح نيران الإرهاب ضد طهران.
هكذا هي المعادلة بكل بساطة.
تلتقط إيران وجبات متدفقة من الأعراض المقلقة هذه الأيام. تستنتج علاقة ما بين سقوط «داعش» القريب في الموصل وهجماته في طهران. وتستنتج أن عواصم العالم كما عواصم المنطقة تستعد للتموضع في حقبة ما بعد «داعش». وما بعد «داعش»، أي ما بعد سقوط التطرّف والإرهاب الإسلاميين، سيتّسق منطقياً مع حقبة تسحب البساط من تحت تيارات التطرّف الديني كافة سنية كان أم شيعية. وفي ذلك تماماً أن خدمات طهران ومواهبها في هذا الصدد لم تعد تتوافق مع ذائقة السوق الدولية في تقليعاتها الجديدة.
لن يجهد المراقب كثيراً لملاحظة أن سعي إيران لحفر «هلالها الشيعي» وتأمين تواصل بري بين طهران وبيروت يكشف عن إدراك إيراني بتصدّع سطوتها في ميادين نفوذها التقليدي على ذلك الطريق. تفرج معركة الموصل ونزوع الأكراد إلى توسّل الاستفتاء طريقاً للانفصال عن مشهد عراقي آخر لن تعود به إيران سيدة الموقف. وتشي زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي السعوديةَ بتوق عراقي، بدعم ورعاية أميركيين، لإعادة وصل العراق بمحيطه العربي والتحلل آلياً من تبعية لإيران، تمت منذ غزو عام 2003 بتشجيع أميركي أيضاً.
وإذا ما صعّب على المراقب استيعاب ملامح التغير المقبل في العراق، فإن ملامح ما قد يقترب من الانقلاب جلية في الميدان السوري. باتت إيران «فصيلاً» من بين الفصائل التي تتقاتل داخل هذا البلد منذ عام 2011، وحتى أن دفعها بالميليشيات الشيعية المقبلة من لبنان والعراق وأفغانستان ودول أخرى، كما دفعها بالآلاف من «مستشاري» الحرس الثوري، لم يحسّن من شروط هيمنتها على النظام السوري وحوّلها إلى عامل مساعد تستخدمه روسيا وتهمله وفق أجندة القيصر لا وفق توصيات المرشد.
تكاد إيران تفقد نفوذها في سورية المستقبل، أياً كان هذا المستقبل، حتى لو حققت ميليشياتها إنجازاً هنا واختراقاً هناك. تعرف طهران أن لإدارة دونالد ترامب خطة عمل وأجندة كانتا غائبيتين في عهد الإدارة الأميركية السابقة، وأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سورية التي تتنافس مع تلك الروسية قد تتوصل إلى شراكة مع موسكو، لكنها غير مهتمة بأي شراكة من أي نوع مع طهران. تدرك إيران أيضاً أن قرار واشنطن بمنع أي نفوذ إيراني على الحدود الشرقية لسورية هو خيار استراتيجي نهائي على ما تكشف تطورات التنف جنوباً وحراك قوات سورية الديموقراطية في الرقة، وعلى ما يكشف تدخل طائرات التحالف لحسم أي محاولة تسعى لغير ذلك.
لم تستخدم طهران قواها النارية منذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. لم يكن من حاجة لذلك والجوائز تأتيها مجاناً منذ حرب الكويت مروراً بحصار العراق انتهاء بغزوه غرباً وغزو أفغانستان شرقاً. فأن تستخدم إيران صواريخها الباليستية، فإن في ذلك اعتراف أن الحرب بالوكالة لم تعد تفي بالغرض، وأن صواريخ إيران التي لطالما أثارت قلقاً لدى عواصم العالم تجاوزت مهماتها التجريبية ودخلت في منظومة العمل المهدِّد الأهداف المحتملة.
لم يصدر عن البنتاغون أي تعليق أو تأكيد لرواية الصواريخ الإيرانية. أخطأت إيران في الإعلان عن استخدام صواريخ يفهم منها تهديد لكل دول المنطقة كما لمصالح دولية، في مقدمها تلك الروسية – الأميركية، في المنطقة. وإذا ما ثبتت رواية الصواريخ وثبتها إعلان أميركي دولي ما عنها، فإن المجتمع الدولي الذي رفض البرنامج الصاروخي الإيراني وتجاربه، سيكون له موقف جدي آخر ضد ما انتقل من موسم نظري إلى دائرة الفعل بالنار. لا يمتلك المجتمع الدولي إلا الحزم إذا ما أراد تجنيب المنطقة حرباً كبرى ضد إيران تشنها عواصمها، حتى تلك المتخاصمة تقليدياً في ما بينها.
محمد قواص
صحيفة الحياة اللندنية