أثناء دراستى الاقتصاد فى كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية، كنت إذا سرت من حجرة لأخرى فى مكتبة الكلية أشاهد المجلدات الضخمة التى تقف على الرفوف، وتضم آلاف المقالات الاقتصادية التى ُكتبت عبر عشرات السنين. كنت أقول لنفسي: ألم يعثر الاقتصاديون بعد كل هذه السنين على حلول للمشكلات الاقتصادية الاساسية، كالتضخم والبطالة وعودة الركود الاقتصادى بين الحين والآخر، مما تدل عليه عودتهم إلى الكتابة من جديد عن نفس المشكلات وكأنها تواجههم لأول مرة؟
تذكرت أيضا تلك الواقعة الطريفة التى حدثت بعد اسابيع قليلة من وقوع الأزمة المالية الكبيرة فى سنة 2008 فى بريطانيا ودول غربية أخرى كثيرة، إذ قامت الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا بزيارة هذه الكلية العريقة فى جامعة لندن واجتمعت بعدد من أساتذة الاقتصاد بها، ونشرت الصحف أن الملكة وجهت إلى الأساتذة السؤال الآتي: «أبعد كل هذه السنين من البحوث الاقتصادية وكل هذا العدد من الكتب والمقالات عن الأزمات الاقتصادية مازلتم عاجزين عن التنبؤ بحدوث أزمة جديدة كتلك التى حدثت فى 2008، ومن ثم عاجزون أيضا عن تقديم النصائح بالسياسات الواجب اتخاذها لتجنب حدوثها؟
كتبت بعض الصحف أيضا أن أحد الاساتذة الذين التقوا الملكة قدم تفسيرا لهذا العجز هو فى الحقيقة أقبح من الذنب إذ قال إنهم يركزون فى تحليلاتهم الاقتصادية على بناء نماذج رياضية تقوم على فروض بسيطة بعيدة عن الواقع فلا عجب أنها غير صالحة لا للتنبؤ ولا لتقديم الحلول.
ما سر هذا العجز وتكراره المرة بعد الأخرى، برغم ما لأزمات الاقتصادية من أضرار فادحة بالمجتمع بمختلف شرائحه؟
يقول البعض إن علم الاقتصاد مثل سائر العلوم الاجتماعية ليس مثل العلوم الطبيعية إذ إن الظواهر الاقتصادية والاجتماعية عموما يصعب جدا قياسها، ومن ثم يصعب أو من المستحيل التنبؤ بما يحدث لها. خذ مثلا ظاهرة الطبقة الاجتماعية ليس من السهل أبدا أن تحدد أين تبدأ الطبقة وأين تنتهي، وإلى أى حد يعتمد تحديد الطبقة الاجتماعية بناء على اختلاف مستوى الدخل أو الثروة أو بناء على نظرة الطبقات الأخرى إليها، أو نظرة الفرد إلى نفسه، فيعتبر أنه ينتسب إليها أو إلى غيرها؟ فإذا كان من المستحيل تحديد الطبقة الاجتماعية بدقة، فكيف نعرف بدقة العوامل التى يمكن أن تؤثر فيها، ومن ثم أن نتنبأ بمصيرها؟
من التنبؤات الشهيرة فى تاريخ علم الاقتصاد ما يعرف باسم الافقار المتزايد، الذى يقول إن الفوارق بين الأغنياء والفقراء ستتجه إلى الاتساع، مما لابد أن يؤدى فى النهاية إلى ثورة الفقراء على الأغنياء، ومصادرة أملاك هؤلاء وإحلال الدولة الاشتراكية محل الدولة الرأسمالية، فما حدود هذا الفقر المتزايد، ما بدايته، وما نهايته؟ وهل لهذا الفقر قيمة مطلقة أم نسبية؟ وما الحد الذى إذا بلغه الفقر أدى إلى ثورة وإذا لم يبلغه استمر الحال على ما هو عليه؟
قل مثل هذا عن علاقة الركود الاقتصادى بالحالة النفسية للمستثمرين. متى بالضبط يحل التشاؤم بالمستثمرين إلى حد توقفهم أو توقف أغلبهم عن الاستثمار؟ بل إلى أى مدى يجب أن ينخفض الاستثمار حتى يعم الركود والبطالة ..الخ؟
الظواهر الاقتصادية ليست ظواهر مادية بحتة كارتفاع درجة حرارة الماء مما يؤدى عند نقطة معينة إلى تحول الماء إلى بخار. إنها ظواهر نفسية واجتماعية لم تكتشف بعد طرق لقياسها (إن كان قياسها ممكنا أصلا).
ومن ثم يظل الاقتصاديون يقومون «بالتخمين» الذى إذا صح مرة فلا بد أن يخيب مرات.
الطريف فى الأمر أن الاقتصاديين نادرا ما يكونون على استعداد للاعتراف بهذه الحقيقة. فهم يستمرون فى إنتاج النماذج والنظريات الاقتصادية، وكأنها تمكنهم من التنبؤ، ومستمرون فى التنبؤ وكأن تنبؤاتهم يمكن أن تصدق. ومن الطريف أيضا أن السياسيين (وبقية الناس) يظهرون الثقة بتنبؤات الاقتصاديين ويستغربون إذا لم تتحقق. لا عجب إذن أن تتكرر الأزمات الاقتصادية فى بلد بعد آخر، وُيظهر الناس عجبهم من أن الاقتصاديين لا يملكون حلا لهذه الأزمات.
يصعب أن تصب اللوم على الاقتصاديين إذ انهم يتخذون هذا الموقف من باب الدفاع عن النفس، والاحتفاظ بما يحظون به من سمعة، كما أن من الصعب أن تلوم السياسيين الذين يفضلون الزعم بأن حل هذه المشكلات لا يدخل فى دائرة اختصاصهم بل يدخل فى اختصاص الاقتصاديين من أسهل الأمور أن نصب اللوم على التجار الجشعين مع أنهم قد يكونون أبرياء تماما من حدوث المشكلة اصلا، وقد لا يحققون من الارباح ما يزيد على ما كانوا يحققونه قبل الأزمة أو بعدها، إن المسئولية تقع فى الحقيقة على علم ليس دقيقا بطبعه، بل قد يكون من المعقول جدا الشك فى كونه «علما» على الإطلاق.
هناك بالطبع جزء مما يسمى علم الاقتصاد يتسم بدرجة عالية من الدقة إلى حد إمكان التعبير عنه رياضيا، وهو يمثل جزءا كبيرا مما يدرس فى الجامعات، لكن هذا الجزء البالغ الدقة يعيبه أنه مجرد تحصيل حاصل أى لا يزيد على أن يكون تعبيرا عن حقائق معروفة وبدهية يمكن استنتاجها بسهولة من مجموعة من الفروض البدهية بدورها، لكن هذا الجزء قليل الجدوى بالطبع إلا لأغراض التدريس يدرسه التلاميذ ويمتحنون فيه دون أن يكون له تطبيقات عملية ذات فائدة إن هذا الجزء صحيح لأنه بدهى لكنه قليل الجدوى لكونه بدهيا، يستحيل أن يحدث عكسه وقد قيل مرة بحق إن التقريرات العلمية لا تكتسب وصف العلم بحق، إلا إذا كان من المتصور أن يحدث عكسها .
د.جلال أمين
صحيفة الأهرام