في رسالة مثيرة للجدل وجهها السيناتور الأمريكي توم كوتون و46 سيناتوراً آخر من الحزب الجمهوري إلى “قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، أوحى هؤلاء أنه حتى لو توصلت واشنطن إلى اتفاق نووي مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، قد يقرر الرئيس الأمريكي المقبل رفضها، على افتراض أن يكون هذا الرئيس (أو الرئيسة) أكثر تشدداً من أوباما.
بيد أن آية الله المقبل الذي سيخلف المرشد الأعلى في إيران قد يفعل الأمر نفسه – وثمة دلائل كثيرة على أنه سيكون أكثر تشدداً. ومن المفارقات، أن المعارضين للاتفاق النووي في واشنطن قد يساهمون أيضاً في هذه الحصيلة حين يخلقون جواً من عدم الثقة في طهران، وهو أمر لا يؤدي سوى إلى توطيد قوة المحافظين هناك.
بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر عمّن سيكون المرشد الأعلى المقبل في إيران، ثمة احتمال كبير بأننا قد نواجهه عاجلاً وليس آجلاً. فقد ظهرت في الأسابيع الأخيرة تقارير جديدة حول تدهور صحة المرشد الأعلى الحالي، آية الله علي خامنئي، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مستقبل إيران في هذه المرحلة الحرجة من المفاوضات النووية مع الغرب. وصحيحٌ أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تمييز الواقع عن الشائعات. وعلى الرغم من أن طهران اتخذت مؤخراً قراراً غير مسبوق بالتصريح علناً عن “عملية استئصال البروستات” التي خضع لها خامنئي، تعتبر الحكومة الوقائع المتعلقة بمرضه بمثابة قضية من قضايا الأمن القومي؛ إذ أن الشاه الإيراني وسلف الخامنئي، آية الله روح الله الخميني، عانى كلاهما من مرض شديد خلال فترة حكمهما، ولكن حقيقة وضعهما الصحي بقيت محصورة بعدد قليل من الأشخاص وأفراد عائلتهما. كما أن لبعض السياسيين الإيرانيين مصلحة شخصية في نشر الأخبار – أو على الأقل تضخيمها – حول صحة خامنئي المتدهورة من أجل خدمة أغراضهم السياسية الخاصة كونهم يسعون إلى التأثير في آراء “مجلس خبراء القيادة”، المؤلف من أكثر من 80 عضواً والذي ينيط به الدستور [البحث في] مسألة الخلافة.
ومع ذلك، فإن وفاة خامنئي، عند حصولها، ستُحدث تغييراً جذرياً في الجمهورية الإسلامية بقدر التغيير الذي أحدثه كل من وفاة آية الله الخميني ووصول خامنئي إلى السلطة في عام 1989. وإذا كانت المؤشرات الراهنة أي دليل، فإن التعامل مع إيران قد يصبح أصعب مما هو عليه الآن بالفعل. وحتى الجمود الحاصل في مسألة البرنامج النووي الإيراني قد يؤثر على القرار النهائي في تحديد خلف المرشد الأعلى، لا سيما وأن الصراحة التي يتحدث بها المتشددون في مجلس الشيوخ الأمريكي، كما وأن الخطوة غير المسبوقة – وفقاً للتقارير – التي اتخذها السيناتور كوتون، سيؤديان على الأرجح إلى احتداد آراء المتشددين في طهران.
وعلى أي حال، سيكون بوسع المرشد الأعلى المقبل أن يحدد إلى أي مدى يمكن الحفاظ على أي اتفاق نووي محتمل على المدى الطويل. كما أنه سيكون في منصب يخوله التراجع عن أي اتفاق مع الغرب ويجد لقراره مبررات سياسية أو تقنية، حتى إلى حد أكبر من مجلس الشيوخ الأمريكي نفسه. ووفقاً للفلسفة الرسمية للجمهورية الإسلامية، التي وضعها مؤسسها آية الله الخميني، يكون المرشد الأعلى مخول شرعاً لفسخ أي عقود أو اتفاقيات حكومية من جانب واحد، حتى تلك المبرمة مع المواطنين الإيرانيين، إذا ما رأى في ذلك ضرورة لخدمة “مصلحة النظام” – وهذه صلاحية تتخطى حدود الدستور والشريعة على حدٍّ سواء. ورسمياً، إن آية الله الحاكم هو المصدر الشرعي الوحيد لتحديد ما يخدم “مصلحة النظام”.
ومن المؤكد أننا نجهل الكثير من الأمور حول خطط الخلافة في إيران. وبادئ ذي بدء، لم يُتّخذ قرار الخلافة سوى مرة واحدة في السنوات الست والثلاثين من تاريخ الجهورية الإسلامية. وإذا افترضنا أن “مجلس خبراء القيادة” – المؤلف بأكمله من آيات الله الذين يمثلون جميع المحافظات الإيرانية – يملك السلطة المطلقة والنهائية لتعيين المرشد الأعلى الجديد، فإنّ تشكيلته الحالية تعني بلا شك أنه سيختار شخصاً متشدداً قد يكون أكثر حدة في السياسات الخارجية والمحلية من خامنئي نفسه. وقد تجلّى تفضيل المجلس للمتشددين في انتخابات رئاسة المجلس في العاشر من آذار/مارس حين تغلب آية الله محمد يزدي على آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني بضمانه 47 صوتاً مقابل 26 صوتاً لرفسنجاني. ورفسنجاني المعروف في الغرب بواقعيته ودعمه للاقتصاد الحر، خسر قاعدة سلطته في الهيكلية السياسية للجمهورية الإسلامية منذ نهاية ولايته الرئاسية. كما أنه خسر معركتين انتخابيتين رئيسيتين، هما الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عامي 2000 و 2005، إلا أنه اكتسب شعبية في السنوات الأخيرة في صفوف مناصري المرشحين الذين خاضوا الانتخابات الرئاسية وخسروها في عام 2009، بسبب عدائه الطويل مع الرئيس السابق أحمدي نجاد وانتقاده الصريح للسياسة القمعية التي تمارسها الحكومة ضد “الحركة الخضراء”.
غير أن هذه الشعبية لا تترجم بالضرورة إلى سلطة سياسية. فالرئيس السابق محمد خاتمي هو أحد أكثر السياسيين شعبية في إيران، ولكن الحكومة شنت حملة شرسة ضده بهدف تهميشه وتحييد سلطته. وقد حُظِر على وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية ذكر اسمه أو نشر صورته، ومُنع عليه مغادرة البلاد. وينطبق الأمر بشكل عام على غالبية السكان الإيرانيين الذين يؤيدون الاعتدال والانفتاح على العالم، وهم محرومون أيضاً من [المشاركة في] المنظمات السياسية والمؤسسات المدنية والمراكز القيادية. وفي حين أن المحافظين المتشددين الذين يشكلون قوام الجمهورية الإيرانية وكوادرها يستفيدون، من ناحية أخرى، من شبكة دينية متنفذة ومنظمات حكومية ومؤسسات اجتماعية، فإن جميع هذه الأدوات والآليات تمكّنهم من تعبئة الأقلية إلى جانبهم وضمان معدل مشاركة مقبول في الانتخابات كما في التظاهرات الشعائرية، وتصوير هذا الأمر على أنه دليل واضح على شرعية النظام. بمعنى آخر، لا تشكل هذه الأكثرية تهديداً خطيراً على الأقلية التي تحتكر الإعلام وتحمل مفاتيح السجون بيد والسلاح باليد الأخرى.
ولكن في الحقيقة أن “مجلس خبراء القيادة” لم يحظَ يوماً بدورٍ هام في هيكل السلطة، باستثناء فترة ولايته الأولى حين أوكل إليه صياغة الدستور الإيراني. وخلال السنوات الست والعشرين الأخيرة من حكم خامنئي، اقتصر دور المجلس بالدرجة الأولى على المراسم دون أن يكون له أي سلطة فعلية للإشراف على المرشد الأعلى أو مراقبته، ناهيك عن محاسبته. وينعكس هذا الأمر على إقبال الناخبين على المشاركة في انتخابات المجلس، إذ أنه يسجل باستمرار المستوى الأدنى بالمقارنة مع معدل المشاركة في الانتخابات القومية والبلدية والرئاسية والنيابية. إن الحكمة الشائعة في إيران هي أن المجلس يؤمّن الشرعية لـ “ولاية الفقيه” لا أكثر، إلا أنه لا يؤخذ على محمل الجد من قبل المرشد الأعلى أو المؤسسات السياسية الكبرى وأوساط النخبة.
ولم يبدأ الناس بإيلاء المجلس اهتماماً إلا بعد وفاة رئيسه السابق محمد رضا مهدوي كني منذ بضعة أشهر وقرار الحكومة الإعلان عن العملية [الجراحية] التي أجراها آية الله خامنئي. وعلى الرغم من كثرة العوامل والأطراف التي ستؤثر بلا شك على القرارات المتعلقة بالخلافة، يبقى “مجلس خبراء القيادة” في النهاية الهيئة الوحيدة القادرة على إضفاء الشرعية على هذه القرارات وإثبات قانونيتها. ومن المقرر أن تجري انتخابات “مجلس خبراء القيادة” والانتخابات النيابية في 26 شباط/فبراير 2016؛ وفي حين يتم انتخاب النواب لمدة أربع سنوات، إلا أن فترة ولاية أعضاء “مجلس خبراء القيادة” المنتخبين هي سبع سنوات. ويعني ذلك أن المجلس القادم – إن لم يكن المجلس الحالي – سيقرر على الأرجح من سيخلف خامنئي.
في عام 1989، وصل خامنئي إلى السلطة كقائدٍ ضعيف، وتوقع الكثيرون أن يذعن للسلطة التنفيذية للرئيس الإيراني ويضطلع بشكل رئيسي بدور الزعيم الروحي غير المتحزب الذي قد يضفي الشرعية الإسلامية على نظام الحكم. ولكن لم يحدث ذلك. فقد أجاد خامنئي الاستفادة بحنكة من علاقاته مع الجيش، لا سيما مع «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» السيئ السمعة، ومع جهاز الاستخبارات والقضاء والإعلام في البلاد. وقد ساعده ذلك على إنشاء قاعدة سلطة حقيقية أتاحت له التدخل في تفاصيل إدارة هذه المؤسسات وتوسيع نطاق سلطته بما يتعدى صلاحياته الدستورية. وخلال السنوات الست والعشرين الماضية عمد إلى ترسيخ سيطرته بروية على كل من الرئيس والبرلمان حتى أصبح اليوم صاحب القرار الأخير في القضايا المتعلقة بالعقيدة العسكرية والسياسة الخارجية والنووية. أما على الجبهة الدينية فقد أحدث ثورة في المؤسسة والشبكة الدينية الشيعية من خلال تحديث هيكليتها التقليدية لتصبح جهاز حكم يعتمد على درجة عالية من البيروقراطية والرقمية، لا يخدم سوى النظام. وقام كذلك بتحويل مكتب المرشد الأعلى من ديوان بيروقراطي بسيط وتقليدي يعمل فيه عدد محدود من الموظفين – كانوا جميعهم من رجال الدين – إلى مكتب كبير ومتطور يضم أكثر من 4 آلاف موظف، علماً بأن الكثيرين منهم، من بينهم رجال دين، لديهم خلفية عسكرية واستخباراتية.
ولطالما كانت عملية تعيين المرشد الأعلى أكثر تعقيداً بكثير مما تبدو عليه. لكن المناخ الحالي يطرح تحديات أكثر بكثير من تلك التي كانت موجودة منذ 26 عاماً. ففي الفترة التي انتخب فيها السيد خامنئي، لم يكن «الحرس الثوري الإسلامي» وجهاز الاستخبارات ونظام القضاء حكراً على المتشددين، الذين لم يكن لديهم الكثير من التأثير على الأبعاد الاقتصادية والسياسية في البلاد بقدر التأثير الذي يملكونه اليوم. غير أن تزايد عدد الأطراف المعنية في مسائل القيادة والخلافة تَرافق مع انتشار الخلافات بين مختلف الفصائل المتشددة وتباين مصالحها السياسية والاقتصادية في بعض الأحيان. و يتعين [الآن] على هؤلاء المتشددين أن يتوافقوا على خلف لخامنئي وإلا ستقع أزمة لا يمكن السيطرة عليها. ففي غياب مثل هذا التوافق أو ما يشابهه، قد يجد المعتدلون الإيرانيون الفرصة لاستغلال هذه الانقسامات وإيجاد سبيل للوصول إلى الدائرة المقربة من السلطة. ومع ذلك، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو ألا تتعدى المنافسة نطاق المتشددين، وبالتالي فإن [انتخاب] المرشد الأعلى الجديد سيكون ناتجاً عن الاتفاقيات فيما بينهم.
وبغض النظر عمّن سيأتي خلفاً لخامنئي ويشغل منصل المرشد الأعلى في إيران، من المرجح أن يتمتع بقدرٍ أقل بكثير من الاستقلالية. فقد نجح المتشددون الإيرانيون على مدى الأعوام الستة والعشرين الماضية في عزل جهاز الحكم عن أي إصلاحات تم تحريكها من الداخل أو من الخارج. وسوف يمثل المرشد الجديد مصالح المتشددين الذين يمارسون اليوم سلطة سياسة هائلة ويستطيعون تقويض قراراته. وإذا توفّي خامنئي وعندما يحدث ذلك، من المستبعد أن يذعن النظام الإيراني لمطالب المجتمع الدولي أو أن يمنح القوة أو السلطة لقوى الديمقراطية المحلية. وعوضاً عن ذلك ستبرز الجمهورية الإيرانية متسلحة بطموحٍ أكبر في أجندتها المعادية للغرب وفي سياساتها الاستبدادية المحلية.
مهدي خلجي
معهد واشنطن