العالم كما يراه كيسنجر.. كيفية الدفاع عن النظام العالمي

العالم كما يراه كيسنجر.. كيفية الدفاع عن النظام العالمي

كم من المؤلفين يمكنهم عنونة كتبهم باسم النظام العالمي دون أن يتجاوزوا الحدود تمامًا؟ لا يزال هنري كيسنجر متفردًا في ذلك. بالنسبة للمُعجبين والنقّاد على حد سواء، يُعدّ كسينجر أكثر من مجرد وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي السابق؛ حيث يرى البعض أنه رجل حكيم ومثالي للسياسة الخارجية الأمريكية، والبعض الآخر، يرى أنه سياسي عنيد متشبث بتقاليده السياسية، من أصحاب السياسة الواقعية العالقين في الماضي. وهناك من يرى أنه مصدر إزعاج دائم. وبالنسبة للجميع، لا يزال كيسنجر رجلًا استثنائيًا. وبغض النظر عن كيف يرى الناس كيسنجر، إلا أن كتابه الجديد نفيس للغاية.

الحديث عن النظام العالمي في هذا الوقت سيكون بمثابة استخفاف بهذه الفكرة، لأنه إذا كان ثمة شيء واحد يتوق إليه العالم في عام 2014، فهو النظام. في الشرق الأوسط، أدت الحرب الأهلية السورية إلى قتل مئات الآلاف وسمحت للجماعات الجهادية بتهديد استقرار المنطقة بأكملها.

وفي آسيا، أصبحت الصين المنتعشة اقتصاديًا أكثر حزمًا وإثارة للقلق بين جيرانها. وفي غرب إفريقيا، أدى وباء الإيبولا إلى منع السفر إلى العديد من الدول المُصابة به. وحتى أوروبا، التي تُعدّ الجزء الأكثر تقيدًا بنظام الحُكم والمؤسسات في العالم، شهدت قواعدها الليبرالية المفضلة تعرضًا لانتهاك مباشر في ظل استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العدوان العسكري كأداة لسياسة الدولة.

والأمر الأكثر شؤمًا، هو أن الأوصياء التقليديين على النظام العالمي يبدو أنهم أصبحوا عازفين عن الدفاع عنه. وبعد حروب طويلة ومُكلِفة في أفغانستان والعراق، تعاني الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى من التعب جراء هذا التدخل، وتفضل التركيز على المخاوف الداخلية. كما أثبتت القوى الصاعدة حتى الآن أنها إما غير راغبة أو غير قادرة على حماية الاستقرار الدولي.

داخل كيسنجر. وكونه خبيرًا استراتيجيًا ومؤرخًا متمرسًا، فهو ينظر إلى الآفاق بعيدة المدى. جوهر كتابه هو استكشاف التفسيرات المختلفة لفكرة النظام العالمي والأساليب المتنافِسة لصناعته. يبدأ كيسنجر كتابه بوضع تعريف لمصطلح “النظام العالمي” بأنه “مفهوم تتبناه منطقة أو حضارة معينة حول طبيعة الإجراءات الصحيحة وتوزيع السُلطة التي يُعتقد أن تنطبق على العالم كله“.

وأشار إلى أن أي نظام من هذا النوع يقوم على عنصرين، هما: “مجموعة من القواعد المشتركة المقبولة التي تضع حدود الممارسة المسموح بها، وتوازن في القوى يفرض ضبط النفس عند كسر القواعد، ويمنع أن تقوم وحدة سياسية واحدة بإخضاع الآخرين“.

يتضح أن عالم كيسنجر ليس فقط عن السُلطة المستمدة من الثروة الاقتصادية والقوة العسكرية، ولكن أيضًا عن قوة الأفكار، على الرغم من أن الأفكار الهامة بالنسبة له هي الأفكار العظيمة فقط.

ومن وجهة نظره، فإن الأفكار التقليدية مثل السيادة وعدم التدخل لا تزال قوة عظمى، دعمت النظام الدولي لما يقرب من أربعة قرون. واليوم، هذا النظام في حالة تغير مستمر إلى حد كبير، وعلى الرغم من ذلك، فالجهات الفاعلة القوية تطرح وسائل بديلة لوضع نظام لهذا العالم، من الثيوقراطية إلى الرأسمالية الاستبدادية إلى ما بعد الحداثة التي ليس لها حدود. ولكن فقط البنية السائدة، يقول كيسنجر، هي التي تحقق الهدفين الرئيسين للنظام العالمي: الشرعية وتوازن القوى. ومن بين الرسائل الكثيرة في الكتاب، لعل أوضحها هو تحذير: عدم التخلص من مبدأ التنظيم في حال عدم وجود أي بديل جاهز على نفس مستوى الفاعلية.

معاهدة وستفاليا 2.0

بالنسبة لكيسنجر، يدين النظام الدولي اليوم بمرونته الشاملة إلى دَهَاء رجال الدولة الأوروبية في القرن السابع عشر. ظهر نظام الدولة الحديثة في عام 1648 بعد قرن من الصراع الطائفي، عندما جلبت الحرب المريرة التي استمرت لـ 30 عامًا ممثلي القوى الأوروبية من أجل توقيع معاهدة سلام ويستفاليا. وضعت هذه المعاهدات المُبرمة فكرة الدول ذات السيادة باعتبارها المكونات الأساسية للنظام الدولي.

وبعد قرن ونصف، في مؤتمر فيينا، في الفترة من 1814- 1815، أوضح دبلوماسيون مثل المبعوث الفرنسي تاليران، ووزير الخارجية النمساوي كليمنس فون مترنيش، مبدأ توازن القوى كوسيلة لإدارة النظام الدولي. يُعدّ سرد ​​هذه الأحداث بمثابة ملعب كيسنجر الخاص. ورغم أن بعض المؤرخين المعاصرين وعلماء السياسة قد يعترضون على تمجيده للمؤسسات الويستفالية، إلا أن إحدى مواهب كيسنجر هي براعته في الكشف عن مدى ملاءمة الهياكل التاريخية للسياسة الحالية.

هناك قيود على هذه الممارسة، بطبيعة الحال: فالأفكار الغربية عن الدول والسياسات فُرضت على مناطق أخرى منذ عهد الاستعمار، ولا تزال تتنافس مع الرؤى القديمة الأخرى من النظام والقوة التي لا يمكن تجاهلها. وهذا صحيح، خاصة في الشرق الأوسط. لذلك؛ يتناول الكتاب التأثير الدائم للانقسام الشيعي السُني في العالم الإسلامي المعاصر وظهور الدول العلمانية هناك بعد توسع نظام ويستفاليا خارج أوروبا.

واليوم، يتعرض النظام الإقليمي -الذي لا يزال مكوّنًا من الدول القومية على النمط الأوروبي- للتهديد من قِبل الإسلام السياسي العابر للحدود، في شكل حركات سياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الجهادية مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو داعش. ويمثل ظهور التنظيم الأخير خطرًا جديدًا، وفقًا لكيسنجر: “تفكّك الدولة إلى وحدات قبلية وطائفية” يهدد بانحدار المنطقة إلى “مواجهة مماثلة لحروب أوروبا الدينية في فترة ما قبل معاهدة ويستفاليا أو ربما مواجهة أوسع من ذلك“.

تتناول دراسة كيسنجر للشرق الأوسط أيضًا العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، صراع دائر بين الوصي المفترض للنظام العالمي الليبرالي ضد الدولة التي وضعت نفسها عمدًا خارج هذا النظام.

يتتبع كيسنجر تقليد أصول الحُكم الإيراني بالعودة إلى الإمبراطورية الفارسية، مؤكدًا كيف كانت إيران تطمح دائمًا إلى أن تكون أكثر من مجرد دولة عادية وفقًا لمعاهدة ويستفاليا، تكافح من أجل أن “تقرر ما إذا كانت دولة أو قضية“. أثر هذا التقليد بشكل كبير على المفاوضات المتعددة الأطراف بشأن البرنامج النووي الإيراني. ويشير كيسنجر إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تعزز علاقات التعاون مع إيران على أساس مبدأ عدم التدخل.

وبما أن الدبلوماسية الإيجابية ليست كافية، على الرغم من ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة الاعتماد على سياسة ميزان القوى وتملق إيران من أجل التعاون، واستخدام التحالفات مع القوى السُنية في المنطقة كوسيلة ضغط.

وقد تحدد نتائج محاولة واشنطن الحالية في التقارب مع طهران “ما إذا كانت إيران تنتهج طريق الإسلام الثوري أو طريق أمة عظيمة تستقر بشكل شرعي في نظام الدول وفقًا لمعاهدة ويستفاليا“.

آسيا، هي منطقة أخرى تتنافس فيها المفاهيم الغربية للنظام العالمي مع الرؤى الداخلية، حتى إن فكرة وجود منطقة آسيوية هي فكرة غربية خالصة: قبل وصول القوى الغربية الحديثة في القرن الـ 15، لم تحتوِ اللغات العديدة في المنطقة على كلمة آسيا، ولم يشعر الناطقون بها بالانتماء لقارة واحدة. يهتم كيسنجر اهتمامًا خاصًا بالصين، ويبذل قصارى جهده لاستخلاص الآراء التقليدية للصين، والتي افترضت أنها لم تكن إحدى مراكز القوة من بين العديد، ولكنها “الحكومة السيادية الوحيدة في العالم“؛ حيث حكم الإمبراطور الصيني “كل شيء تحت السماء“. وفقًا لكيسنجر، يأتي صعود الصين في القرن الـ 21 مع تعديلات لهذه الآراء التقليدية، حيث تبحث بكين عن توليفة بين تقاليدها القديمة ودورها الجديد “كقوة عظمى معاصرة تسير وفق نموذج ويستفاليا“.

ويحذر من أن الصين والولايات المتحدة لديهما وجهات نظر مختلفة بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنه يؤكد أن كلا البلدين تجمعهما مصلحة مشتركة في تجنب الصراع.

وفي الواقع، يشير النظام العالمي إلى أن العلاقات الأمريكية الصينية قد تكون أقل خطورة من علاقات الصين مع جيرانها الآسيويين. ويُذكّر القراء بأن شرق آسيا هي منطقة حيث “تعتقد كل دولة نفسها بأنها دولة “صاعدة”، وتسير فيها الخلافات إلى حافة المواجهة.

قواعد الاشتباك

يكون كيسنجر مثيرًا للاهتمام عند التفكير في الولايات المتحدة، البلد الذي يعرفه جيدًا. ويقدم كتابه “النظام العالمي” بعض التعليقات الحادة بشأن النقاش الدائر حاليًا في واشنطن حول الدور المناسب للولايات المتحدة في العالم. ولكن كيسنجر ليس مجرد ناقد؛ فهو يعتمد في تحليله على التنقيب العميق لشقين متنافسين من الفكر الذي شكّل السياسة الخارجية للولايات المتحدة من الناحية التاريخية: البراجماتية الواقعية للرئيس ثيودور روزفلت والمثالية الليبرالية للرئيس وودرو ويلسون.

وعلى الرغم من أن كيسنجر يعبّر عن آرائه، في بعض الأحيان، بمصطلحات مجردة، إلا أنه من السهل أن نفهم ماذا يفكر بشأن نقّاد الرئيس باراك أوباما، الذين يلومون الرئيس بعدم تقديمه لنموذج كاف من القيادة.

وبالإشارة إلى عدد من الحروب ذات الأهداف بعيدة المدى التي شنتها الولايات المتحدة ثم اضطرت إلى وقفها في منتصف الطريق، لا يُخفي كيسنجر شكوكه حول المشاريع المثالية التي تفشل في إدراك حدود القوة الأمريكية، وتؤدي إلى الشعور بخيبة أمل، إن لم تُسبب كوارث كبيرة في السياسة الخارجية. ويكتب كسينجر أن: “النقّاد سوف يعزون هذه الانتكاسات إلى النقائص الأخلاقية والفكرية لزعماء أمريكا، وربما يخلص المؤرخون أنها نتيجة عدم القدرة على حل التناقض (حول القوة، والدبلوماسية، والواقعية، والمثالية، والسُلطة، والشرعية) الذي يُقسّم المجتمع بأسره“.

وبالرغم من أن كيسنجر ينحاز بقوة إلى سياسة ضبط النفس في الحرب العنيفة المستمرة بين الدوافع الرزوفلتية والويلسونية في السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنه يعترف بالدور الهام الذي تلعبه القيم الليبرالية أيضًا. ويقول في كتابه: “أمريكا لن تكون صادقة مع نفسها إذا تخلت عن هذه المثالية الأساسية“.

وعلى الرغم من أنه يعترف بدور واشنطن الخاص كمدافع عن المعايير الغربية، فهو يؤكد أيضًا أن “النظام العالمي لا يمكن أن يتحقق من قِبل أي دولة بمفردها“. وتظل القوى الأوروبية هي الشريك الطبيعي للولايات المتحدة، ويؤكد كيسنجر أن الأفضل لهم جميعًا هو دعم علاقتهم، والعمل ليس فقط لتحقيق أقصى قدر من المستوى العام للنفوذ الغربي في الشؤون العالمية ولكن أيضًا لكبح جماح الدوافع السيئة لبعضهم البعض.

كيسنجر محق بالتأكيد في تحذيره من الإفراط في الاستقامة الذاتية التي تُظهرها الديمقراطيات في بعض الأحيان. لكنه ربما يكون متشككًا في بعض الأشكال الأكثر حداثة من الأممية الليبرالية.

ويقول، على سبيل المثال، إن “مسؤولية حماية” المذهب (الذي يرى أن الدولة تتنازل عن حقها السيادي في عدم التدخل إذا فشلت في حماية شعبها من الجرائم الجماعية، وتطلب من المجتمع الدولي أن يتصرف باسم هذا الشعب) قد يزعزع استقرار النظام الدولي. لكن المجتمعات الليبرالية وضعت هذا المبدأ من أجل منع الطغاة من التلاعب والسخرية بقواعد معاهدة ويستفاليا في جهودهم للهروب من العقاب عن الإساءة لشعوبهم. وبشكل عام، فإن تطبيق المذهب بطريقة صحيحة من شأنه حماية النظام الليبرالي أكثر من تقويضه.

ربما يختلف كسينجر مع مثل هذا التفكير، لكنه يعترف أنه من الصعب على الديمقراطيات الغربية تبنّي السياسات التي تقوّض التزامهم الأساسي بالقيم الليبرالية. ويشير إلى أن أي استقرار طويل المدى يقوم على أساس القمع هو مجرد وهم، كما أظهرت الثورات العربية في عام 2011. ستشهد العقود القادمة الكثير من الجدل حول هذه المعضلة الأساسية، في ظل تفكير القوى الغربية في مقدار الليبرالية، هل هي كثيرة للغاية أم قليلة جدًا.

عالَم جديد؟ 

وفيما يتعلق بـ كيسنجر، فإن الدول القومية/ الأممية لا تزال هي اللاعب الرئيس في النظام الدولي؛ حيث لا تلعب المؤسسات الدولية ولا الجهات الفاعلة غير الخاضعة للدولة دورًا هامًا في كتابه. وطبقًا لهذا الرأي، لم يتغير الكثير منذ عام 1814، عندما اجتمعت القوى الأوروبية في فيينا لتشكيل نظام دائم يحافظ على السلام في القارة لقرن من الزمان بغض النظر عن وجود حالات عنف قليلة.

واليوم لا يختلف كثيرًا عن عام 1914، عندما قادت نفس القوى العظمى أوروبا إلى حافة الهاوية، وأطلقت العنان لحرب كبرى أصبحت الصراع العالمي الأول الذي يشهده العالم. تحذيرات كيسنجر المتكررة في الكتاب، هي بمثابة إنذار لأولئك الذين يعتقدون أن البشرية قد تغلبت على الأنماط القديمة لسياسات القوة والتنافس بين الدول.

هذه الرسالة، على وجه الخصوص، متعلقة بالاتحاد الأوروبي، الذي يجعله الداعمون المتحمسون له بمثابة حارس العالم بلا حدود فيما بعد ويستفاليا، والذي حوّل أوروبا بصورة جذرية. ومع صعود القومية اليمينية، على الرغم من ذلك، يميل الشباب في دول الاتحاد الأوروبي إلى التشابه بين بلدانهم والاتحاد على حد سواء باعتبارهم كيانًا واحدًا.

ومع ذلك، سيكون من الحماقة أن نتوقع من بقية دول العالم أن تكون تابعة لقيادة أوروبا. وعلى الرغم من أن مشاريع التكامل الإقليمي تتقدم في أماكن أخرى، إلا أن اتساع وعمق التجربة الأوروبية تبقى فريدة من نوعها. وقد تكون أوروبا، موطِن نموذج ويستفاليا، مستعدة للمضي قدمًا، ولكن بقية العالم ليس كذلك، ويقول كيسنجر إن هذا أفضل للجميع. ويوضح أن: “مبادئ ويستفاليا، في هذا الصدد، هي الأساس الوحيد المُعترف به عمومًا لما هو موجود من النظام العالمي”.

ولكن يدرك كيسنجر تمامًا أن النظام الدولي يتأثر بعوامل أخرى غير السياسة بين القوى العظمى وهناك مصادر قوية أخرى من النظام والفوضى، أبرزها الاقتصاد العالمي والبيئة والتغير التكنولوجي. ومع ذلك، بعض هذه العوامل يأخذ دورًا ثانويًا في كتابه.

ومن التحديات الجديدة أيضًا، الامتداد الواسع للعولمة والدرجة الناتجة من هذا الترابط المعقد. فعلى سبيل المثال، أنقذ انتشار الرأسمالية والتجارة الحرة الملايين من الفقر، ولكنه قد أحدث أيضًا درجة لا يمكن تحملها من عدم المساواة.

ويعمل الترابط الاقتصادي الذي تنتجه العولمة بمثابة قوة دافعة للاستقرار وقوة مُدمرة على حد سواء، ويشجع النمو، ولكن أيضًا يوسع نطاق الصدمات الاقتصادية. لقد غيّر هذا الترابط سياسة الإكراه؛ حيث تستخدم الدول الغربية الآن قوتها الاقتصادية لإجبار الدول الأخرى على الامتثال للقواعد الدولية. هذه الاستراتيجية قد لا تؤدي دائمًا إلى نتائج جيدة، لكنها أعادت إيران إلى طاولة المفاوضات وتبقى الخيار الوحيد المتاح لدى الغرب للضغط على روسيا لتغيير مسارها في أوكرانيا.

ويخضع النظام العالمي أيضًا لتغير المناخ، وهي ظاهرة من صنع الإنسان إلى حد كبير ولكنها تقع خارج سيطرة صُنّاع القرار. لقد فات الأوان لمنع التغير في المناخ من التأثير على حياة المليارات من الناس، وهذه حقيقة بمثابة سلاح ذي حدين عندما يتعلق الأمر بالاستقرار العالمي. يمكن لكارثة بيئية أن توحد العالم، تمامًا مثل دمار الحرب العالمية الثانية الذي أجبر الدول على إقامة نظام دولي ثابت وقوي، وإنشاء الأمم المتحدة، وإقامة مؤسسات بريتون وودز، والتي تعمل بشكل جيد منذ عام 1944.

وبدلًا من ذلك، يمكن أن تعمل أزمة المناخ على تضخيم التوترات القائمة، وتقوض الحكم العالمي، وتزيد من تآكل قدرة الدول الضعيفة على إدارة أراضيها بمسؤولية.

عندما يتعلق الأمر بالتغير التكنولوجي، فمن الواضح أن كيسنجر لا يشعر تمامًا بالراحة في هذا العالم الجديد الشجاع. إنه يدرك أن الإنترنت قد حقق العديد من الإنجازات في الحقبة المعاصرة العظيمة، ولكنه يلقي اللوم عليه لأنه أدى إلى طريقة تفكير أقل موضوعية، وأكثر سرعة حول الإشكالية الحقيقية في العالم.

ويقول كسينجر: “إن معرفة التاريخ والجغرافيا ليست ضرورية لأولئك الذين يمكنهم الحصول على البيانات الخاصة بهم من خلال ضغطة زر واحدة. وقد لا تكون عقلية المسارات السياسية المنفردة بديهية لأولئك الذين يسعون إلى تأكيد المئات، وأحيانًا الآلاف من الأصدقاء على الفيس بوك. فهو يُشبّه المتفائلين بالتكنولوجيا اليوم (هؤلاء الذين يعتقدون أن الفضاء الإلكتروني يمكن أن يحل المشاكل الأكثر إلحاحًا في العالم) بالمثاليين السُذّج التابعين لــ ويلسون قبل قرن من الزمان”.

يميل المحللون الشباب إلى تبني وجهة نظر مختلفة، بطبيعة الحال. وعلى الرغم من شكوك كيسنجر حسنة النية ومبررة، فإنه لا شك أن التكنولوجيا الجديدة قامت بتغيير جذري بالفعل في ممارسة الدبلوماسية وإدارة أمور الدولة. يجب أن يكون الدبلوماسيون اليوم على استعداد للتحدث إلى جمهور عالمي، والتعامل باستمرار مع أجهزة الإعلام الدولية.

ويجب أن يكونوا مفاوضين عمليين ومحاورين عالميين: يقومون بالتغريد عن تاليران، وعلى استعداد للدفاع عن مصالحهم في العالم الحقيقي والعالم الافتراضي على حد سواء.

وبشكل خاص، أثبتت الهجمات الإلكترونية الأخيرة والحرب الهجينة أن الفضاء الإلكتروني أصبح بالفعل ساحة حرب تحتاج فيها المفاهيم المألوفة مثل الردع والدفاع إلى تعريف جديد.

ربما تكون رغبة كيسنجر السرية هي تقديم مؤتمر فيينا في القرن الـ 21. وعلى الرغم من أن السياسة العالمية مُعقدة بسبب مجموعة من العوامل التي لا تندرج بسهولة في نموذج وستفاليا (الهويات العابرة للحدود، والاتصال الرقمي الفائق، وأسلحة الدمار الشامل، وشبكات الإرهاب العالمي) إلا أن كيسنجر لا يزال مُحقًا في الإصرار على أن إدارة علاقات الدول العظمى لا تزال ذات أهمية قصوى.

وفي الواقع، لا يجب أن يكون هناك حاجة إلى حرب أخرى تستمر لـ 30 عامًا لتوفير الزخم من أجل معاهدة ويستفاليا جديدة للسلام ونظام عالمي يكتسب شرعيته على الفور ويعكس الحقائق الجيوسياسية الجديدة. كتاب كيسنجر هو هدية لكل من يهتم بالنظام العالمي ويسعى لدرء الصراع في القرن الـ 21. ليس ثمة شخص آخر يمكنه أن يؤلف هذا الكتاب الرائع.

التقرير