أطلق جهاز الحرس الثوري الإيراني ستة صواريخ بالستية من غرب إيران أواسط شهر حزيران (يونيو)، والتي هبطت على أهدافها في محافظة دير الزور السورية الشرقية. وقال مسؤولون إيرانيون إن الهجوم جاء رداً على الهجومين الإرهابيين في طهران يوم 7 حزيران (يونيو)، واللذين أعلن داعش مسؤوليته عنهما وأسفرا عن مقتل 18 شخصاً. وقال ناطق بلسان جهاز الحرس الثوري الإيراني إن الهجوم على دير الزور كان ايضاً “رسالة تحذير” موجهة إلى “الحلفاء الإقليميين والدوليين” للمجموعة الإرهابية.
وتركت قيادة إيران العليا القليل من الشك فيما يخص من تعتقد بأنهم هؤلاء الحلفاء. ففي خطاب سابق له، رد المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، على ملاحظات للرئيس دونالد ترامب اتهم فيها إيران بأنها عراب الإرهاب في الشرق الأوسط. فقال خامنئي: “أنتم (الولايات المتحدة) ووكلاؤكم تشكلون مصدر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط”. وتساءل خامنئي: “من الذي صنع الدولة الإسلامية؟ أميركا”.
مع ذلك، لا يمكن حل مشكلة إيران مع الإرهاب من خلال إطلاق صواريخ بالستية على شرقي سورية أو إطلاق قنابل خطابية نحو الولايات المتحدة. ويشكل الهجومان الإرهابيان يوم 7 حزيران (يونيو)، واللذان نفذهما خمسة إرهابيين مسلحين بأسلحة خفيفة، لكنهم منظمون جيداً، ضد معلَمين من أبرز معالم طهران -البرلمان وضريح آية الله روح الله الخميني- تذكرة صادمة بمخاطر التعرض لضربة ارتدادية جراء تدخلات إيران المتعددة في العالم العربي. ومن دون نوع ما من المراجعة الواعية، سوف تظل إيران على الأرجح في مرمى نار الجهاديين السُنة لوقت طويل قادم.
لم تعد إيران قوة لا تقهر
بينما كان كل إرهابيي “داعش” الخمسة مواطنين إيرانيين يتحدرون من مناطق كردية تقع على الحدود مع العراق، فإن النظرة العالمية الطائفية المميتة التي يتبنونها مستوردة على نحو أكيد من الحربين العنيفتين الممتدتين لأعوام في العراق وسورية -وهما حربان ساعدت إيران في تكثيفهما وإطالتهما من خلال تدخلاتها العسكرية.
يتعهد “داعش” بشن المزيد من الهجمات. ففي شريط فيديو الذي أعلنت المجموعة الإرهابية فيه مسؤوليتها عن الهجومين في طهران، توعدت بأن “طهران سوف تتحول إلى ميدان معركة مفتوحة لجنود الدولة الإسلامية”. وفي شريط فيديو تم تصويره أثناء تنفيذ الهجومين، سُمع المجندون الإيرانيون السنة هم يقولون: “هل تعتقدون أننا سنذهب وننتهي؟”.
في الحقيقة، ما من سبب للاعتقاد بأنهم سيذهبون. فثمة نحو 10 في المائة من سكان إيران البالغ عددهم 80 مليون نسمة هم من السنة. وتعيش هذه الأقلية الضخمة على الأغلب في المناطق الحدودية؛ في جنوب شرقي بلوشستان والمناطق الساحلية من الجنوب وفي كردستان الإيرانية، المنطقة التي تشغل الكثير من حدود إيران مع العراق. ولهذه الأقلية الضخمة العديد من مواطن الشكوى مع الحكومة المركزية، بدءاً من التهميش السياسي، إلى الحرمان الاجتماعي الاقتصادي. لكن الأغلبية الكبيرة من الإيرانيين السنة تستمر في اعتبار نفسها جزءاً من إيران، وتأمل في أن يتم إجراء إصلاحات سياسية جادة يوماً ما. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحقق المرشحون الإصلاحيون أفضل الآداء في المناطق السنية؛ وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، سجل روحاني أكبر انتصارين له في بلوشستان وكردستان.
شهدت بلوشستان وكردستان، على مدى عقود، تشدداً محلياً محدوداً معادياً للحكومة، والذي جاء مدفوعاً بالقومية الإثنية والأيديولوجية اليسارية. لكن هذا الوضع بدأ في التحول في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، عندما انضم عدد متنام من البلوش والأكراد الإثنيين إلى عربة الجهاديين السنة في العراق المجاور، وتحول تركيز هجماتهم على الحكومة المركزية في طهران من كونها “فارسية” إلى كونها “شيعية”.
ومع صعود تنظيم “داعش” في العام 2014، انطلقت حقاً عملية تدويل الجهادية السنية في إيران. ففي بلوشستان، بدأت مجموعة “جند الله” الجهادية السنية الإعراب عن تضامنها مع “داعش” في دعايتها، كما أعلنت المجموعة الجهادية السنية الكردية “أنصار الإسلام” ولاءها المباشر للمجموعة. لكن كلتا المجموعتين اللتين صنفتهما الولايات المتحدة كيانين إرهابيين تظلان صغيرتين. ومع ذلك، جاء تحولهما على الرغم من ذلك نتيجة مباشرة لغضبة طائفية إقليمية تشارك السياسات الرسمية الإيرانية جزئياً في ذنب إشعال لهيبها.
بالكاد كانت إيران جاهلة بهذه التطورات. ففي وقت مبكر من منتصف العام 2014، وبينما كان جهاز الحرس الثوري الإيراني ينقل المتطوعين الأفغان والباكستانيين الشيعة إلى سورية للقتال نيابة عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد، كانت أجهزة المخابرات السورية تعتقل أنواعاً أخرى من المجندين: أفغان وباكستانيين يسافرون عبر إيران للانضمام إلى “داعش”. وتظهر أحدث دعاية لتنظيم “داعش” أن التنظيم لم ينجح وحسب في تجنيد سنة إيرانيين لصالح قضيته، بل إنه استطاع توفير بعض أنواع أرضية العمل اللوجستية المتطورة التي كانت لازمة لتنفيذ هجومي 7 حزيران (يونيو) في طهران.
بعد أقل من أسبوع من هجومي طهران، ذكر أن قوات الأمن الإيرانية قتلت أربعة ناشطين في “داعش” في مقاطعة هورمزغان على الخليج -وهي ليست منطقة معروفة بالتشدد على الرغم من أنها موطن لأقلية سنية كبيرة الحجم. وذكر أن 14 عضواً مزعوماً آخرين من “داعش” قد اعتقلوا يوم 9 حزيران (يونيو) في مواقع مختلفة من البلاد.
يقول وزير المخابرات الإيراني محمود علوي إنه يتم اعتراض مخططات لتنظيم “داعش” بشكل يومي. ويبدو ذلك أشبه بمحاولة لإعفاء السلطات من مسؤولية الفشل في وقف الهجومين يوم 7 حزيران (يونيو) في طهران -لكنه يقدم لمحة أيضاً عن احتمال وقوع المزيد من الأعمال السنية الجهادية على الأرض الإيرانية. وفي الحقيقة، يشي تصريح علوي بأن السلطات في طهران استخفت منهجياً في الماضي بالتهديد الجهادي السني المحلي.
أي دفاع إلى الأمام؟
على مدى أعوام، برر المسؤولون الإيرانيون تدخلهم في العالم العربي بالقول: “علينا أن نقاتلهم في العراق وسورية حتى لا نقاتلهم في الوطن”. والآن، وقد كشف “داعش” عقم تلك الإستراتيجية، يتبقى أمام طهران خيار واحد: إنها تستطيع أن تعيد تقويم مغامرتها العسكرية، أو أن تخفف من سياستها التي تستند إلى ما يسمى الدفاع إلى الأمام ونقل القتال إلى أعدائها.
يُظهر رد الفعل الأولي أن المهندسين الرئيسيين لسياسة إيران العربية المكلفة لم يردعهم شيء. فقد وصف آية الله علي خامنئي الهجومين بأنهما مجرد “ألعاب نارية”، بينما تعهد رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، محمد باقري، بتلقين داعش “درساً لا ينسى”.
ويستخدم مسؤولون من الخط المتشدد في إيران الهجومين كذخيرة ضد معارضيهم الإقليميين -وحتى يسوقوا في الوطن فكرة أنهم وحدهم يسيطرون على سياسات إيران الإقليمية. خذ مثلاً رد فعل خامنئي؛ بينما تجنبت الأصوات المعتدلة في حكومة الرئيس حسن روحاني إلى حد كبير توجيه أصبع الاتهام لأي أحد بجوار “داعش”، خرج المرشد الأعلى عن الخط ليضع الهجومين عند أقدام خصوم إيران الرئيسيين، مثل الولايات المتحدة والسعودية.
منذ انتصار روحاني الكبير يوم 19 أيار (مايو) الماضي، انتهز خامنئي كل فرصة للتأكيد أنه ما يزال يفضل انتهاج سياسة خارجية ثوروية. وبالنسبة للمرشد الأعلى تعني “ثوروية” إعطاء الجنرالات في جهاز الحرس الثوري الإيراني -مثل قائد قوة القدس قاسم سليماني، الذي التقطت له صور مؤخراً على الحدود السورية العراقية- حرية مطلقة في تقرير نهج إيران تجاه العالم العربي.
ويبدو أن خامنئي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، يضع ماله حيث يضع فمه. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عين قائداً جديداً للقوات البرية الإيرانية النظامية. وتعتبر هذه القوة جيش تطوع تقليدي بني للدفاع عن حدود البلد، وليس ليكون قوة توسعية تشترك في صراعات خارجية -لكن هذا الحال قد يكون على وشك التغير. ويتحدر القائد الجديد، كيومارس حيدري، من خلفية في جهاز الحرس الثوري الإيراني، وكان قد أماط اللثام عن خطط لتحويل بعض وحدات هذه القوات إلى “قوات هجوم مضاد متنقلة”، والتي يمكن نشرها خارج إيران.
ما يزال علينا الانتظار لرؤية محصلات هذه الخطط. ولكن يبدو أن طهران تجرب فكرة تأسيس قوة هجوم مضاد عسكرية أضخم بكثير على غرار قوة القدس. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه سيشهد إيران وهي ترفع قدراتها في الحرب غير المتناسبة إلى مستويات عالية جديدة، في إشارة أيضاً إلى أن طهران ترى نفسها وهي منغمسة في حروب إقليمية لوقت طويل قادم.
يمكن القول بأن خبرة جهاز الحرس الثوري الإيراني من انخراطه في الحروب الإقليمية العديدة قد علمت هذا الجهاز أن الكثير من الجماهير العربية تتلقى رسالته ومنفتحة على رعايته. والسؤال الذي قد تواجهه إيران قريباً هو: هل تريد تقدم هذه الرعاية للعالم العربي إلى أجل غير مسمى، وبأي ثمن. وإذا كانت الحكومة الإيرانية ملتزمة حيال الصراعات العربية الداخلية، كما تشير، فمن الممكن أن تظل مقيدة الأيدي عسكرياً لسنوات قادمة. وحتى هذا اليوم، لم تكشف الدولة الإيرانية عن أي معلومات تتعلق بالكلفة المالية لعملياتها في العراق وسورية.
مضاعفة الرهان
في الحد الأدنى، يشي خطاب إيران وإعادة التنظيم العسكرية بأنها عاقدة العزم على مزيد من الحشد العسكري. أما إذا كان هذا سيواجهة معارضة الجمهور الإيراني، فذلك ما ستكشف عنه الأيام. وتجدر ملاحظة أن الفضاء السياسي في طهران لمساءلة سياسة إيران في العراق وسورية محدود، كما اكتشف عدد من الناشطين السياسيين المرموقين. ولنأخذ حال غلام حسين كارباتشي، عمدة طهران السابق والإصلاحي المرموق الذي تلقى توبيخاً شديداً لمجرد اقتراحه أن الحل للحروب الإقليمية قد يتطلب ما هو أكثر من مجرد “الأموال والأسلحة والقتل”.
ولكن، إذا ارتفعت كلفة تدخلات إيران في العالم العربي -من حيث المال والأمن المحلي- فإن الحسابات السياسية في الوطن قد تتغير أيضاً. ولا تستطيع طهران التعويل والحالة هذه على حلفاء رئيسيين مثل روسيا إذا اختارت سلوك طريق تعزيز ما يدعى محور المقاومة.
عندما تحدث رئيس مجلس الأمن القومي الأعلى في إيران، علي شمخاني، مؤخراً، وقال إن إيران وروسيا تقفان في جبهة واحدة -سوية مع سورية والعراق وحزب الله- سارع الروس إلى الإعراب عن الامتعاض. وقال موقع “برافدا دوت رو” إن جهد شمخاني لربط موسكو بأشباه حزب الله وحماس هو تشويه لسياسات موسكو. وقال مقال للموقع إن تصريح شمخاني “تسبب بإلحاق الضرر بصورة روسيا ومصالحها”. وأضاف: “الحلفاء الحقيقيون لا يتصرفون بهذة الطريقة”.
وبعبارات أخرى، تتواجد روسيا في سورية لتأمين أهدافها الجيو سياسية -لكنها لا تتوافر على أي مصلحة في جعل إيران تحدد الأجندة لمستقبل الشرق الأوسط. وقد أظهر الهجومان اللذان شنهما “داعش” في طهران أن الطائفية العنيفة الواقفة على أعتاب أبواب طهران آخذة في الاقتراب من قلب النظام.
حتى الآن، وبدلاً من النظر إلى الداخل بحثاً عن أسباب كسب التشدد السني المتطرف موطئ قدم على التراب الإيراني، راهنت طهران على الرد العسكري على المشكلة. لكن المسؤولين الإيرانيين يجب أن يعرفوا أفضل. فبعد كل شيء، أخذ جهاز الحرس الثوري الإيراني زمام القيادة في بلوشستان منذ وقت مبكر في العام 2008 -ويظهر فشله في لجم ذلك التهديد أن استراتيجية تستند إلى القوة وحدها ستفضي إلى علاج الأعراض فقط من دون علاج المسبب الأصلي للعنف الجهادي. ويشكل الهجومان اللذان شنهما “داعش” في طهران اللحظة التي يجب أن تتوقف فيها طهران عن التظاهر والادعاء.
أليكس فاتانغا
صحيفة الغد