تغطي أخبار السياسة الخارجية الروسية، أساسا الدور الروسي في سوريا وتطورات العلاقة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب، على ما يجري في الداخل الروسي رغم أنه يمكن أن يرسم ملامح المرحلة القادمة من السياسة الروسية ويلقي بعض الظلال على تطورات الوضع العالمي عموما، باعتبار أن هذه السياسة مرتبطة ارتباطا عميقا بما يجري في الشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
يرصد مركزا أبحاث شهيران، هما معهد كارنغي لدراسات السلام، في نسخته الروسية، ومركز ستراتفور الأميركي للأبحاث الأمنية والإستراتيجية هذه التطورات الداخلية، والتي عكستها أساسا تصرفات الرئيس فلاديمير بوتين وأنشطته الأخيرة والتي كشف من خلالها عن صورة غير اعتيادية لبوتين.
ركزت الباحثة في معهد كارنغي تاتيانا ستانوفيا على خطاب بوتين يوم 15 يونيو الماضي، والذي كان في شكل حوار مباشر مع الروس.
تقول ستانوفيا إنه في العادة يمكن التنبؤ بشكل أو بآخر بالموضوعات محور النقاش. وكان متوقعا هذا العام أن يتحدث الرئيس عن العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب والحوار مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتصاعد مستويات الكراهية للعولمة واستراتيجيات روسيا في أوكرانيا وسوريا.
وعلى الصعيد الداخلي، تنبأ الجميع بأن الرئيس سيبحث موجة الاحتجاج المنتشرة في جميع أنحاء روسيا، ودور المعارضة والمشاركة الأخيرة لمجلس الدوما في العمليات السياسية، وسياسة الحكومة بشأن المنظمات غير الحكومية، والدور المتزايد للخدمات الخاصة، والدور الفعال للحرس الوطني، بالإضافة إلى مجموعة من القضايا الاقتصادية.
لكن وعلى عكس المتوقع، لم يتناول بوتين أيا من هذه النقاط، وتجنب الخوض في نقاش حول مسائل سياسية موضوعية أثناء لقائه المباشر مع جمهوره، حتى وصف البعض هذا العرض بأنه مختلف اختلافا كليا عن لقاءات بوتين السابقة مع المواطنين.
واقتصر حديث الرئيس على المشكلات المحلية والشخصية فقط. وبدلا من صياغة موقفه بشأن القضايا السياسية الهامة، تقول تاتيانا ستانوفيا إن بوتين قدم نفسه على أنه “الزعيم الوطني المشرف على بناء الوطن”، دون أن يتحدث عن خطط مستقبلية ومشاريع إصلاح.
وتضيف الباحثة الروسية أن لقاء بوتين المباشر مع جمهوره جاء كدليل إضافي على أن الرئيس الروسي ساوى شرعيته بشرعية الدولة. كل القوى التي حاولت إضعاف نفوذه، كان ينظر إلى محاولاتها باعتبارها محاولة لإضعاف روسيا.
ويوضح معارضون في روسيا أن شعار “من غير بوتين ليس هناك روسيا” ليس جديدا، لكن هناك شيء مختلف الآن، وهو أن الحكومة باتت منفصلة تماما عن المجتمع الذي يلعب اليوم دورا صوريا خالصا، إذ بات النظام قادرا على توفير الدعم الشعبي لنفسه بشكل تلقائي.
أمام هذه الهوة بين النظام والشعب بدأت تظهر حركة احتجاجية خطيرة ضد منظومة فلاديمير بوتين ردّ عليها الكرملين بعمليات قمع ضمن رسالة مفادها: بوتين قائد قوي وهو رجل الشعب، لكن هذه الرسالة بدأت تبلى ويبدو أن هناك بوادر حدوث تغيير في الأفق. ويذكر تحليل معهد ستراتفور أن الكثير من الأوضاع تغيرت، ولن تفيد حملة القمع كثيرا نظام الرئيس بوتين كما كان في السابق.
الرسالة تبلى
بدأ الخطاب التقليدي ينهار مع مواجهة الكرملين وبوتين لعدة أزمات. وبمراكمة الغرب للضغوط الاقتصادية وهبوط أسعار النفط دخلت روسيا في حالة ركود اقتصادي.
وأدى تقلص الكعكة إلى صراعات سلطة على الأموال والممتلكات، وهو ما يضع بوتين في موقف خطر مع الموالين له بما أنه هو الذي يختار من ينجح أو ينجو.
وكان أثر الركود على الشعب الروسي أكثر من الأثر على الدولة أو النخب إذ ارتفعت نسب البطالة وحالات عدم خلاص الأجور، كما هو الشأن بالنسبة إلى معدلات الفقر.
وبتطبيق روسيا لعقوبات مضادة قفزت أسعار الأغذية إلى مستويات عالية جدا، ونتيجة لذلك ينفق أغلب الروس متوسطو وضعيفو الدخل نصف دخولهم على وجبات الطعام.
وخلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية السابقة في حكم بوتين حث الكرملين البلاد لتذكر الوضع المضطرب لفترة التسعينات في ظل حكم يلتسين (وهو مشهد مخيف عند الروس) والنظر إلى الأزمة الأخيرة على أنها ليست سيئة إلى تلك الدرجة، لكن تلك الرسالة عفا عليها الزمن لأن روسيا تشهد تغيرا في الأجيال إذ ولد قرابة ربع الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
في حين أن هذا الخطاب القديم هو خطاب أجوف بالنسبة إلى معظم هذا الجيل الجديد فإن الغالبية الكبرى من هؤلاء الشباب ليسوا معادين لبوتين، أو ليبراليين بشكل متوحش، لكنهم يريدون نظاما سياسيا متنوعا ومتجاوبا مع مشاغلهم.
واستفاد زعيم المعارضة ألكساي نفالني من حركة الشباب الغاضبة والناشئة برسالة معادية للفساد، وهي قضية جامعة تتضمن إصلاح الهياكل السياسية وتطهير الحكومة وتوفير الدعم الاقتصادي وجعل النظام الانتخابي شرعيا.
وينكب نفالني على إحداث برنامج انتخابي لجمع هذا الجيل الجديد الذي انجذب بالمئات من الآلاف للمشاركة في الاحتجاجات في الثاني عشر من يونيو في قرابة 150 مدينة. وكان أغلب المحتجين من الشباب الذين أثارهم الإعلام الاجتماعي الذي كافح الكرملين من أجل السيطرة عليه.
أمام هذه المقاومة المتنامية اعتمد الكرملين على ردة فعل من مستويين: أولا الابتكار في رسم صورة بوتين لدى عامة الناس حيث تبدلت النظرة للرئيس الروسي ببراعة في الأسابيع الأخيرة، ليس فقط بالنسبة إلى الشعب الروسي بل وكذلك بالنسبة إلى العالم. وثانيا حافظ الكرملين على إحكام قبضته على السلطة.
ويستمر بوتين في تحويل الحكومة الروسية إلى نموذج حكم فردي صرف يعتمد على سلطته الشخصية. وأحدث حرسه الخاص به المكون من قرابة 400 ألف شخص شديدي الولاء له ويأتمرون لأمره بشكل مباشر. ومرر مجلس الدوما قوانين شديدة الصرامة تعتبر المعارضين إرهابيين وتفرط في فرض قوانين تنظم الإعلام الاجتماعي والاتصالات.
وقضى بوتين على البعض من أقوى النخب في الكرملين وتم اعتقال قرابة ألف شخص في موسكو وسان بيطرسبورغ أثناء الاحتجاجات الأخيرة، كما أن روسيا لم تتراجع عن مواجهتها الحادة مع الغرب حيث لا يزال الكرملين يساند الأعمال العسكرية في سوريا وأوكرانيا.
وفي الأثناء خرج بوتين في جولة إشهارية غير تقليدية محاولا تشكيل نظرة أكثر إيجابية لنفسه على أنه شخص ودود وذلك قبل أشهر فقط من الانتخابات.
وفي العاشر من مايو الماضي استدعى صحافيين غربيين لمشاهدته وهو يلعب الهوكي على الجليد. ومنح قناة سي.بي.اس الإخبارية لقاء صحافيا نادرا جدا، وضحك من الاتهامات بالتدخل في الانتخابات والمشاركة في طرد مدير أف.بي.آي جيمس كومي.
وجاءت هذه الومضة الإعلامية المرتجلة في الوقت نفسه الذي كان فيه وزير الخارجية سيرجي لافروف وسفير روسيا للولايات المتحدة سرغي كيسلياك يجتمعان مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض على الرغم من وابل الاتهامات بتدخل الروس في الانتخابات الأميركية. وكانت الابتسامة تعلو محيي الدبلوماسيين الروسيين اللذين كانا يتصرفان بود.
إضافة إلى ذلك كان الإعلام الحكومي الروسي هو الوحيد الذي يملك مصورا فوتوغرافيا في القاعة، وهو ما يعني أن روسيا يمكنها تشكيل طريقة النظر.
وتواصلت جولة بوتين الإعلامية الغربية بعد بضعة أسابيع، ففي أعقاب أكبر منتدى اقتصادي روسي في سان بيترسبورغ في مطلع يونيو، خص مغين كلي بمقابلة تلفزيونية نادرة. وعند الكثير من الناس كان بوتين جذابا وهو يعرض الأسباب لما لم تكن روسيا الطرف “السيء” مثلما تظهرها الصحافة الأميركية.
لكن أكبر إخراج كان عبارة عن وثائقي من أربعة أجزاء من إنجاز المخرج الأميركي أوليفر ستون يعرض عدة مقابلات مع بوتين على فترة تمتد لأكثر من ثلاث سنوات. قدمت حلقات “مقابلات بوتين” التي بثت في الولايات المتحدة وفي روسيا نظرة نادرة عن حياته الشخصية والمهنية.
تمكن ستون من النفاذ بعمق إلى بوتين، وإن كان ذلك وفقا لشروط الرئيس. واستعرض بوتين باقتضاب تاريخ الحرب الباردة من وجهة نظر موسكو ملمحا إلى حصول اعتداء أميركي ضد السوفييت. وعند الإشارة إلى الولايات المتحدة يستعمل كلمة “شريك” مبينا رغبة موسكو في العمل مع واشنطن غير الراغبة.
وتخلل الوثائقي لقطات عن بوتين وهو يقود السيارة ويلعب الهوكي ويركب الخيل ويتكلم عن أحفاده ويمازح ستون. كما ألقى الوثائقي نظرة على مكاتب بوتين (أحدها كان ينتمي إلى جوزيف ستالين) وغرفة العمليات. وأثناء النقاشات حاول بوتين وضع روسيا في التاريخ العالمي وإظهار أن لبلده وشعبه دورا ضروريا في العالم.
التاريخ يعيد نفسه
عن طريق الموازنة بين رسالة الزعيم القوي وخطاب ساحر ومنفتح يهدف بوتين إلى إطالة مدة إدارته وسيطرتها على البلاد. فهو غير مستعد للتخلي عن السلطة في أي وقت قريب، وليست هناك أي خطة خلافة في الأفق، لكن الرسائل المزدوجة تعطي أيضا الكرملين مساحة للمناورة لتغيير التكتيكات عند الحاجة. ثم إن الكرملين ليس غافلا عن التحديات التي تظهر فجأة من حوله، وهي بالتحديد: تغير الأجيال وحركة احتجاجية متنامية والصراع داخل النخبة في الكرملين والركود الاقتصادي والضغوط الغربية.
لقد مرت روسيا بمشاكل مشابهة في سنة 1905 في حكم القيصر نيكولا الثاني وأثناء حكم الأمين العام ليونيد برجنيف في الفترة بين 1964- 1982. وكلا الحكومتان تمسكتا بالحكم لعقد من الزمن بعد أزمتيهما، وراوحتا بين عمليات القمع والتنازلات، لكن في كلا الحالتين نفذت الخيارات عند الكرملين مما فرض القيام بإصلاحات كسرت المنظومة. والى حد الآن لا تكفي هذه التحديات لكسر إدارة بوتين، لكن خبراء مركز ستراتفور رصدوا غبار عاصفة تتشكل.