يعد الهدوء النسبي السائد في جنوب غرب سورية بدءاً من يوم الأحد 9 تموز (يوليو) الحالي شيئاً جيداً. فقد توقفت قنابل البراميل التي يستخدمها نظام الأسد عن السقوط على المناطق السكنية المدنية. وتضاءل احتمال زيادة اللجوء السوري في اتجاه الأردن. فهل يكون وقف إطلاق النار هذا مختلفاً عن سابقه الفاشل، اتفاق “وقف الأعمال العدائية” الذي أبرم في أوائل العام 2016؟ أم أنه مجرد توطئة للمزيد من القتل الجماعي؟
الفرق بين شباط (فبراير) 2016، عندما تم إعلان الاتفاق على وقف الأعمال العدائية سيئ المصير والآن هو فرق كبير من حيث الإمكان. أما إذا كان باستطاعة هذا الإمكان إنتاج وقف لإطلاق النار يصمد أو حتى يتوسع، فهو ما ستكشفه الأيام. وكما أوضح المسؤولون الأميركيون، فإن كل ما هو متاح الآن حول آلية وقف إطلاق النار هو إعلان.
قبل سبعة عشر شهراً، كانت منطقة شرق حلب ما تزال في أيدي الثوار. ولذلك كان من الضروري لنظام الأسد وروسيا النهاية استبدال وقف الأعمال العدائية بحملة جوية تركز بشكل موسع على المدنيين، وخاصة المرافق الطبية. وشكل المقاتلون الأجانب بقيادة إيرانية جزءاً أساسياً من الحملة العسكرية من أجل تأمين كل حلب للنظام.
في منتصف العام 2017 شكلت منطقة جنوب غرب سورية، من وجهة نظر موسكو، مكاناً سياسياً جذاباً لإضفاء الاستقرار عليه. نعم، فالكرملين يفضل رؤية هذه المنطقة وكل سورية وهي تصبح اسمياً تحت سيطرة نظامها العميل في دمشق. لكنها تحترم القوة العسكرية للقوات المعادية للنظام في الجنوب الغربي، وتخشى من أن إمكانية إغراق الأردن في أزمة لجوء محتملة ومزعزعة للاستقرار يمكن أن تزيد من شهية إسرائيل لتوجيه ضربات جوية ضد قوات النظام ورجال المليشيات التي تقودها إيران. ولذلك، فإن إضفاء الاستقرار على الجنوب الغربي يمكن أن يساعد على حماية النظام.
في العام 2016 تعامل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف بازدراء تام مع نظيريهما الأميركيين. وكان الرئيس لأوباما قد أعلن عن أن العد التنازلي لـ”خطه الأحمر” في العام 2013 يشكل لحظته الأكثر فخراً. وجمعت دبلوماسية وزير الخارجية الأميركية جون كيري السورية طاقة لا حدود له، وإنما بتأثير يعاد الصفر. وبالنسبة لساكني الكرملين، أصبحت الولايات المتحدة في سياق سورية، وربما أبعد من ذلك، مادة للضحك.
صباح يوم 7 نيسان (أبريل) الماضي، خفَت الضحك عندما هبطت صواريخ أميركية على القاعدة الجوية السورية التي كان انطلق منها قبل أيام هجوم كيميائي مميت على المدنيين (في خان شيخون). ولاحقاً، أوضحت واشنطن لموسكو، بالإضافة إلى النظام السوري وإيران، أن أي هجمات كيميائية أخرى سوف تستجلب ردوداً مشابهة، وأن القوات المدربة والمجهزة أميركياً والتي تقاتل “داعش” سوف تكون محمية من أي هجمات تشنها عليها قوات النظام وداعموه. ويحسب لمعظم المسؤولين الكبار السابقين في إدارة أوباما أنهم كانوا إما داعمين لاستعادة المصداقية الأميركية، أو معتصمين بالصمت.
الفوارق بين ذلك الحين والآن مدهشة، لكنها بالكاد مهمة. وتأتي حقيقة أن أهميتها ليست محددة حتى الآن من واقع أن وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية وترجمته إلى شيء إيجابي من الناحية السياسية هو شيء كله بيد روسيا. وكما كان الحال في أوائل العام 2016، ليس هناك أي أميركي أو غربي أو “غيرهم” لو اختارت توليفة من قوات نظام الأسد وإيران وروسيا استئناف حملة عسكرية تركز على المدنيين. أما إذا كانت هناك أي قيمة فعلية في هذه المبادرة غير وقف القصف الإرهابي للنظام، فهو مرهون كلية برغبة وقدرة موسكو على منع سورية من أن تكون مشروعاً إجرامياً مشتركاً لعائلة الأسد والإيرانيين؛ دولة فاشلة جاذبة للإرهابيين العابرين للقوميات.
في الحقيقة، قد ينطوي جزء من حسابات روسيا على وضع جنوب غرب سورية على الثلج بحيث يأخذ النظام وروسيا وإيران الفائدة الكاملة من وراء دعوة القيادة الوسطى الأميركية لنظام الأسد لإعادة تأسيس نفسه في شرقي سورية، شريطة تركيز نيرانه ونيران رجال المليشيات الشيعية الأجنبية المدعومة إيرانياً على “داعش” بدلاً من الذين يحاولون القضاء على الخلافة. وقد توجت دعوة القيادة الأميركية الوسطى سياسة استقرار ما بعد داعش وفشل التخطيط بمقدار ملحمي، والذي لا يخضع شرق سورية لنوع حكم الأسد الذي كان قد فتح الفراغ الذي ملأه “داعش” أولاً فقط، وإنما يتيح المزيد من الفوضى التي تحدثها الميليشيات الشيعية سيئة الانضباط، والتي تعيث فساداً بشكل مسعور في منطقة سنية في أغلبيتها. ومن خلال تجميد جنوب غرب سورية، قد تمكِّن موسكو النظام وإيران من حشد القوات البرية المطلوبة للاستفادة إلى الحد الأقصى من دعوة القيادة الوسطى الأميركية.
إذا كان سيناريو “قم بتجميد الجنوب الغربي لتأخذ الشرق” يدفع استراتيجية روسيا، فإن المرء قد يجنح إلى افتراض أن وقف إطلاق النار اليوم سيسلك في نهاية المطاف الطريق نفسه التي سلكها من قبله اتفاق وقف الأعمال العدائية بالأمس. ومن الممكن التخفيف من هذه الاحتمالية في جزء منها إذا قالت واشنطن لموسكو في حديث خاص بأنها تحتفظ لنفسها بحق الرد عسكرياً على أي عمل إبادة جماعية للمدنيين يرتكبه نظام الأسد، وليس فقط على الأعمال التي تنفذ بأسلحة كيميائية. وفي الحقيقة، من الممكن تطبيق هذا النوع من “وإلا” بشكل مفيد على وقف إطلاق النار الراهن إذا استخدم النظام -كما سبق وأن فعل في أوائل العام 2016– تواجد عناصر القاعدة كتبرير لإرهاب وقتل وتشويه المدنيين.
ليس من اللباقة ببساطة اعتبار مبادرة وقف إطلاق النار نسخة مكررة من تلك التي فشلت في العام 2016. ومن الممكن أن تشي رغبة روسيا الظاهرية في نشر شرطة عسكرية على الأرض كمراقبين بأنها حصلت على موافقة النظام وإيران على شيء قد يدوم أكثر من عشرة أيام.
مع ذلك، سيكون ترك الولايات المتحدة كل الأوراق بيد الكرملين خطأ. وقد يكون الوقت متأخراً جداً لمساعدة حكم محترم لغير الأسد بتأسيس نفسه في مناطق شرق سورية المحررة من “داعش”. ولكن تبقى ثمة حقيقة واحدة غير قابلة للتغيير في سورية: ليس هناك شيء واحد إيجابي يحدث سياسياً إذا ظل المدنيون نقطة الهدف الرئيسية -عين الثور- عند النظام. وهو على وجه التحديد السبب في أن القتل الجمعي والعقاب الجماعي يشكلان محور استراتيجية الاستدامة السياسية لعائلة الأسد. وإذا كانت واشنطن ترغب في تعقيد وقمع قدرة النظام على ارتكاب جرائم جماعية -وليس فقط في جنوب غرب سورية باستخدام الأسلحة الكيميائية- فإنها ستحصل على ورقة دبلوماسية قوية للعبها من أجل مستقبل لسورية، بحيث لا تكون جثة نازفة تتغذى عليها عائلة الأسد وإيران والمتطرفون الذين يفرخونهم ليهددوا الغرب لأجيال مقبلة.
فريدريك سي. هوف
صحيفة الغد