انطلقت المعركة لتحرير الموصل من قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية» من سهل نينوى، وهو عبارة عن قرى زراعية متعددة الأعراق والطوائف تنتشر في الأراضي الشمالية الشرقية المحيطة بالمدينة. وكان هذا هو الاتجاه الذي بدأت منه قوات الأمن العراقية والتحالف المدعوم من الولايات المتحدة عملية تحرير المدينة في تشرين الأول/أكتوبر 2016. فقد كانت مناطق سهل نينوى مثل قرقوش وتللسقف وتلكيف وبعشيقة وبرطلة خاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» طيلة 27 شهراً، أي لفترة توازي تقريباً سيطرته على الموصل نفسها. والآن، بعد سبعة أشهر على تحرير سهل نينوى، لا تزال أجزاء كبيرة منه خالية من السكان، كما أنه مقسّم بين قوات الحكومة العراقية والقوات الكردية، إلى جانب ميليشياتهما التي تعمل بالوكالة والمكوّنة من المجتمعات المحلية للمسيحيين والشبك.
إن المنطقة الآن بحاجة ماسة إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة للمساعدة في تطوير تدابير بناء الثقة- والأمن التي من شأنها الحدّ من خطر اندلاع اشتباكات بين القوات وتحسين التنسيق الأمني ودعم إعادة الإعمار، وبالتالي تمهيد الطريق أمام إعادة المشردين داخلياً من المخيمات التي يقيمون فيها في «إقليم كردستان» إلى ديارهم. وتعني الطبيعة المسالمة نسبياً التي تطغي على العلاقات السائدة بين الطوائف في سهل نينوى أن التدخل ينطوي على فرصة جيدة للنجاح إذا ما حصل قبل أن تسمّم الميليشيات العلاقات بين المجتمعات المحلية.
السيطرة المتنازع عليها على سهل نينوى
هناك فارق ضئيل بين سهل نينوى و “الحدود الداخلية المتنازع عليها” في العراق، المنطقة التي كانت تخضع للعراق أثناء حكم صدام حسين حتى عام 2003، والتي يدّعي «إقليم كردستان» أنه يجب توحيدها إدارياً مع «كردستان العراق». وتنتشر البلدات المسيحية اوالمجتمعات الزراعية القديمة في السهل حيث تمتزج مع المستوطنات العربية القديمة والمجتمعات اليزيدية والكردية. وتعيش أقليات صغيرة مثل الكاكائيين والشبك في سهل نينوى، وهو المكان الوحيد في العالم الذي يقطنه الشبك. وعلى الرغم من أن السهل هو بمعظمه جزء من محافظة نينوى الخاضعة لإدارة اتحادية ومقرها الموصل، إلّا أن الأكراد لطالما أعربوا عن رغبتهم في تقديم الحماية لأي مجتمعات تعيش في السهل وترغب في الانضمام إلى «إقليم كردستان».
وعندما هاجم تنظيم «الدولة الإسلامية» الموصل في حزيران/يونيو 2014، كان سهل نينوى خاضعاً لسيطرة مزيج متعدد اللغات والجنسيات من قوات الأمن. (في آب/أغسطس من ذلك العام، نجح التنظيم في بسط سيطرته الكاملة على سهل نينوى). وقد تمكنت قوات الأمن الكردية من إحكام قبضتها الفعالة على المناطق المسيحية بواسطة عناصر الاستخبارات الكردية والميليشيات المسيحية التي تلقت الأموال من الأكراد وحامية جيش عراقي تتألف إلى حد كبير من جنود أكراد يتلقون الأوامر من قيادة «إقليم كردستان». وقد وفر العراق الاتحادي قوات الشرطة، وبدأت بغداد في اختبار رعاية ميليشيات الشبك، مستغلة مخاوف المجتمع الشبكي المسلم الشيعي، الذي استُبعد بشكل عام من ترتيبات الحماية الكردية وتعرض لهجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل متكرر. ورغم أن سهل نينوى بدا هادئاً للغرباء، إلا أن المنطقة ضمت قطبة خفية مظلمة: فقد شعر الشبك بأنه قد تم التخلي عنهم، وخشي المسيحيون من معدلات المواليد المرتفعة في أوساط المسلمين المحليين فضلاً عن تدفق الأكراد.
واليوم ليست الترتيبات الأمنية سوى نسخة مضخمة للوضع الذي كان سائداً قبل عام 2014، مع بعض التقلبات الجديدة غير السارة. وفي الواقع، تتشارك العديد من قوات الأمن حالياً في عمليات المراقبة وفرض النظام في مدن الأشباح المهجورة في سهل نينوى:
- تفرض قوات “البيشمركة” الكردية و”الزيرفاني” سيطرتها على خط محصن يشمل مدناً مثل تلكيف وبعشيقة وبرطلة.
- تسيطر قوات الفرقة 16 في الجيش العراقي على نقاط التفتيش على الطريق السريع بين الموصل وأربيل وعلى ضواحي الموصل.
- تتولى الشرطة العراقية بشكل اسمي المسؤولية عن مراكز الشرطة في سهل نينوى.
- تُعتبر “كتائب بابليون” [“لواء بابل”] البالغ قوامها 1,000 عنصر جزءاً من «وحدات الحشد الشعبي»، القوات المتطوعة التي تتقاضى رواتبها من بغداد. وهذا اللواء الذي يقوده الزعيم المسيحي ريان الكلداني ويتمركز شمال منطقة تلكيف ليس محلياً في الواقع بل يشمل أفراداً من الشبك والعرب الشيعة الذين جلبتهم «منظمة بدر» المدعومة من إيران من خارج نينوى عند انتهاء المعركة على سهل نينوى.
- تعمل “وحدات حماية سهل نينوى” ذات الغالبية المسيحية والتي يبلغ عدد أفرادها حوالي 500 عنصر، اسمياً تحت مظلة «وحدات الحشد الشعبي»، لكنها تنفذ عملياتها بشكل مستقل عن قيادة «قوات الحشد الشعبي» في بغداد. وقد تلقت عناصر “وحدات حماية سهل نينوى” تدريباً أمريكياً وحصل أفرادها على عتاد غير فتاك من منظمة غير ربحية مقرها في الولايات المتحدة تحمل اسم “صندوق دعم سهل نينوى”. وقد قاتلت هذه الوحدات إلى جانب قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة والقوات العراقية في المعركة لاسترداد سهل نينوى، وتقيم الآن نقاط تفتيش في المناطق الشرقية المسيحية مثل قرقوش وبرطلة.
- “حرس سهل نينوى” البالغ قوامه 1500 عنصر هو قوة كردية تعمل بالوكالة وترتبط بـ”المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري”، وهو حزب سياسي أسسه عضو «الحزب الديمقراطي الكردستاني» سركيس أغاجان. ويركز “حرس سهل نينوى” على المنطقة الشمالية من بعشيقة إلى ألقوش، قرب بحيرة الموصل.
- تشكّل “قوات سهل نينوى” التي تضمّ نحو 500 عنصر مجموعة كردية أخرى تعمل بالوكالة وترتبط بـ”حزب بيت نهرين الديمقراطي”، وتركز أيضاً على المنطقة الشمالية.
- ترتبط “دويخ نوشا” (“الذين يضحون بأنفسهم” بالسريانية) بـ”الحزب الوطني الآشوري”، وكلاهما يتركزان في الجزء الشمالي من سهل نينوى.
ونظراً إلى عدم وجود آلية تنسيق، من المرجّح أن تحتدم التوترات بين قوات الأمن خلال الأشهر المقبلة، مما قد يسفر عن اشتباكات مسلحة ويعيق على أقلّ تقدير اتخاذ إجراءات فعالة لمنع تشتت مسلحي تنظيم «الدولة الإسلامية» من الموصل المحررة وانتشارهم في المنطقة.
التعمير وإعادة التوطين
لا تشكّل الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الأساس المنطقي الوحيد لإعداد هيكل أمني أفضل تنظيماً في سهل نينوى. فقد كان العديد من اللاجئين في «إقليم كردستان» يترقبون الانتهاء من امتحانات أبنائهم في حزيران/يونيو قبل التفكير في العودة إلى نينوى، لكن الآن تزداد ضغوط العودة. ووفقا للقادة المحليين الذين استطلعهما كاتبيْ هذه المقالة، لا يزال90,000 شخص من أصل سكان سهل نينوى الذين بلغ عددهم120,000 شخص قبل عام 2014 مشردين. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 41 في المائة من المسيحيين المشردين من سهل نينوى يرغبون في العودة، ولكن لم يعد حتى الآن سوى3,365 مسيحياً إلى منازلهم. وأحد الأسباب هو أضرار الحرب: وكانت “مساعدة الكنيسة المحتاجة”، وهي منظمة غير ربحية ملتزمة بإعادة بناء سهل نينوى، قد قدّرت وجود12,970 منزلاً بحاجة إلى إعادة بناء بتكلفة محتملة تتجاوز 200 مليون دولار. غير أنه لغاية الآن، لم يتمّ تجديد سوى 232 منزلاً. وحتى إذا كان بالإمكان البدء بإعادة البناء، لن تشهد المنطقة إعادة توطين جماعية من دون ثقة الشعب بقدرة قوات الأمن على حماية العائدين، وعدم مقاتلة هذه القوات بعضها البعض. ولا يزال الخوف يسيطر بشكل كبير على الشعب من نهوض تنظيم «الدولة الإسلامية» مجدداً، كما أنهم لا يؤمنون كثيراً بأن قوات الأمن الكردية أو العراقية ستنجح الآن حيث فشلت في عام 2014.
دور الائتلاف في إعادة بناء الثقة والاستقرار
يقدّم سهل نينوى أرضاً خصبة لتطوير تدابير بناء الثقة والأمن بدعم من الولايات المتحدة. ويعود السبب في ذلك إلى أنه رغم سوء العلاقات بين قوات الأمن في المنطقة، إلا أنها ليست “سيئة للغاية” إلى درجة تمنع التعاون. وإذا كان تمكين الجهات الفاعلة المحلية أمراً ممكناً، فمن المرجّح أن تختار التنسيق فيما بينها نظراً لأن سهل نينوى مكاناً صغيراً جداً وأن مصير عائلاتهم ومنازلهم ومجتمعاتهم المحلية على المحك. وإذا أقدمت جهات فاعلة خارجية مثل «منظمة بدر» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» على فرض وتيرة سير الأحداث، قد تصبح المنطقة ببساطة ساحة معركة بالوكالة تسكنها القوات الوطنية التي لا تحتاج إلى تحمّل تكاليف الصراع. لذلك، يجب استثناء القوات الخارجية (مثل الميليشيات التي جُلبت من وراء سهول نينوى) من ترتيبات الأمن المحلية حيثما أمكن ذلك، وربما استبدالها برجال محليين. وفي كركوك، تمّ تخفيف حدة التوترات جزئياً بين «وحدات الحشد الشعبي» والقوات المحلية من خلال إقامة تفاهمات بأنه يٌرحب بالرجال المحليين للانضمام إلى «وحدات الحشد الشعبي»، غير أنه لن يُسمح للغرباء – سواء كأفراد أو وحدات كاملة – بالخدمة في المنطقة.
يجب أن يكون هذا المبدأ، الذي يشدّد على تجنيد السكان المحليين، حجر الزاوية في الهندسة الأمنية في سهل نينوى وقد يحظى بتأييد شعبي. إنه أفضل طريقة للحد من رد الفعل السلبي لدى الأكراد تجاه «وحدات الحشد الشعبي» في المنطقة، حتى أنّه قد يمهّد الطريق أمام اندماج قوات كردية تعمل بالوكالة مثل “حرس سهل نينوى” و”قوات سهل نينوى” و”دويخ نوشا” ضمن «وحدات الحشد الشعبي» بالطريقة نفسها كما حصل مع “وحدات حماية سهل نينوى”. وعلى غرار العديد من «قوات الحشد الشعبي» القبلية السنّية، تتلقى “وحدات حماية سهل نينوى” أجورها من بغداد، لكنها تتمتع بقيادة وسلطة محلية تجعلها تعمل بطريقة شبه مستقلة عن قادة «وحدات الحشد الشعبي» المدعومين من إيران مثل أبو مهدي المهندس، نائب رئيس «وحدات الحشد الشعبي» الذي أدرجته الولايات المتحدة على لائحتها الخاصة بالإرهاب.
ومن شأن سهل نينوى أن يكون موقعاً مثالياً لنظام مماثل لـ”الآلية الأمنية المشتركة” التي طبقها الجيش الأمريكي بين 2009 و2011 من أجل إنشاء مجموعة ثلاثية الأطراف – أمريكية-عراقية-كردية- من الدوريات ونقاط التفتيش ومراكز القيادة. وقبل عام 2014، تمثّلت إحدى نقاط ضعف الترتيبات الأمنية المحلية في التصوّر المحدود الذي كان لدى القوات المؤيدة للأكراد والقوات الموالية لبغداد إزاء تحركات وأنشطة بعضها البعض. فضلاً عن ذلك، لم تدخل القوات الكردية القادرة إلى مناطق الشبك أو تقدّم لهم الحماية. ويمكن أن تشعر مجتمعات الشبك باطمئنان كبير من الدوريات ونقاط التفتيش ومراكز القيادة المشتركة التي تضمّ ضباط مخابرات “الأسايش” الكردية وقوات «وحدات الحشد الشعبي» المحلية بالإضافةً إلى الجيش العراقي أو وحدات الشرطة العراقية. وقد يساهم ذلك في الحدّ من الميل المتنامي للشبك نحو الحصول على الدعم من الجماعات المدعومة من إيران مثل «منظمة بدر».
مايكل نايتس ويوسف كليان
معهد واشنطن