تربطني بمدينة باريس علاقة خاصة، امتدت لما يقرب من نصف قرن من الزمان، واختلط فيها العام بالخاص والشخصي بالسياسي والفكري والاجتماعي. ولأن زيارتي الأخيرة لها أثارت لديَّ خواطر كثيرة، أستأذن القارئ في أن أشركه معي فيها.
حين وطئت قدماي أرض العاصمة الفرنسية للمرة الأولى، كان ذلك في بداية آب (أغسطس) 1970، وكنت وقتها أبحث عن فرصة لاستكمال دراستي العليا ولم يكن عمري حينئذ قد تجاوز الثالثة والعشرين ربيعاً. أما حين غادرتها عائداً إلى أرض الوطن، وكان ذلك في نهاية صيف 1977، فكنت رجلاً تجاوز الثلاثين من عمره، يحمل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة السوربون وديبلوم العلاقات الدولية من معهد الدراسات السياسية في باريس. ولأن إقامتي في هذه المدينة الفريدة طالت سبع سنوات، هي بالقطع أهم سنوات تكويني على مختلف الصُّعد العلمية والفكرية والسياسية والإنسانية، فقد كان من الطبيعي أن تترك آثاراً وجدانية عميقة.
لم أتوجه إلى باريس للدراسة موفداً من الحكومة، أو من أي جهة أخرى. ولأن أسرتي لم تكن ميسورة الحال بما يكفي لتدبير نفقات إقامتي ودراستي في بلد أوروبي، فقد كان عليَّ أن أتولى تدبير نفقاتي بنفسي، بشغل وظائف والقيام بأعمال موقتة لا تعوق القدرة على مواصلة الدراسة أو تعرقل تقدمها، وهو الأمر الذي استغرق مني عامين، تمكنت في نهايتهما من تدبير منحة فرنسية أهلَّني لها نجاحي في ديبلوم الدراسات العليا الممهد للتسجيل في البرنامج الدراسي لدكتوراة الدولة. ولا شك في أن تجربة الجمع بين العمل، على رغم قسوتها، والدراسة أتاحت أمامي فرصة ثمينة للاحتكاك بمختلف فئات المجتمع الفرنسي، بدءاً بالطبقة العاملة عند أدنى درجات السُّلم الاجتماعي وحتى أعلى الشرائح المستقرة عند قمته الأرستقراطية، وسهَّلت عليَّ في الوقت نفسه مهمة استيعاب وإتقان اللغة الفرنسية التي لم أكن ملماً إلا بالنذر اليسير منها. أذكر أن رحلتي الأولى نحو باريس انطلقت من مدينة الإسكندرية، وفي ذكرى ثورة 1952، أي يوم 23 تموز (يوليو) عام 1970.
أخيراً، تملَّكني حنينٌ جارف لزيارة باريس هذا العام، ورحت أترقب فرصة لم تتأخر كثيراً لإشباع هذه الرغبة. ففي أيار (مايو) الماضي، تلقيتُ دعوة إلى المشاركة في ورشة عمل حول الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط تعقد في مدينة أمستردام، غير أن موعد انعقادها راح يتأجل إلى أن وقع الاختيار نهائياً على 12 تموز (يوليو). حينئذ لمعت في ذهني على الفور فكرة الجمع بين الرغبة في زيارة باريس وحضور احتفالات فرنسا بعيدها الوطني (كاتورز جوييه)، وهي احتفالات توقعت أن يكون لها مذاق مختلف هذا العام، وذلك لأسباب عدة؛ أولها: أنها تحل بعد أسابيع قليلة من انتخاب إيمانويل ماكرون، أصغر رئيس للدولة في تاريخ الجمهورية الفرنسية، وأكثر الرؤساء الفرنسيين إثارة للاهتمام وقدرة على تغيير الواقع منذ رحيل الجنرال ديغول، بسبب ما يمتلكه من سمات الزعامة والنبوغ، وثانيها: أنها تتواكب مع الذكرى الأولى لحادث نيس الإرهابي، والذي أدى إلى إزهاق أرواح العشرات بالدهس أثناء احتفالهم بالمناسبة ذاتها خلال العام الماضي، تاركاً جرحاً غائراً لم يندمل بعد في نفوس الفرنسيين بسبب بشاعته ودرجة انحطاطه الأخلاقي.
وثالثها: حضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو شخصية عنصرية مثيرة للجدل وتشكل النقيض لكل ما يمثله ماكرون، للمشاركة في هذه المناسبة وللاحتفال في الوقت نفسه بالعيد المئوي لقرار الولايات المتحدة دخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب فرنسا وغيرها من الحلفاء. كانت هذه أسباباً كافية لإقناع نفسي بأن تواجدي في باريس إبان هذه المناسبة سيتيح لي فهماً أفضل للمزاج الفرنسي العام في لحظة مفصلية دقيقة وحساسة من لحظات تطور النظام الفرنسي وأيضاً النظامين الأوروبي والعالمي في الوقت نفسه. ولأن من رأى ليس كمن سمع أو قرأ، أعتقد أن ظني لم يخب ولم يخالجني قط أي شعور بالندم على مد رحلتي لقضاء ثلاثة أيام إضافية في باريس. فخلال زيارتي الأخيرة تمكنتُ من القيام بالجولة التي اعتدت عليها سيراً على الأقدام، استمرت لما يقرب من الساعتين، بدأت من حيث أقيم في فندق ملاصق لجامعة السوربون في قلب الحي اللاتيني، وانتهت عند قوس النصر في نهاية شارع الشانزليزيه الشهير، مروراً بميدان الكونكورد الذي تقف فيه المسلة المصرية شامخة. فمن المؤكد أنه حين يكون بوسع المرء أن يقف وسط قوس النصر ليمد بصره نحو الأفق الممتد أمامه بلا حواجز حتى موقع المسلة المصرية الواقفة في شموخ الفراعنة، يصبح بمقدوره حينئذ أن يستمتع بأجمل مشهد يمكن أن يقع عليه البصر في أي مدينة في العالم.
لم أتمكن اثناء العرض العسكري من الاقتراب من المنصة التي يتصدرها الرئيس الفرنسي ونظيره الأميركي، بسبب وجود أمني لم أشهد لكثافته مثيلاً من قبل. ومع ذلك لم أستطع أن أمنع نفسي من طرح سؤال: ماذا لو كانت مارين لوبن هي التي تجلس الآن بدلاً من ماكرون؟ حينئذ فقط أحسستُ بوطأة الكابوس المحتمل الذي انزاح من فوق صدر فرنسا والعالم. لقد ساعدني التجوال في شوارع باريس ومتابعة العرض العسكري من صفوف المتفرجين والأحاديث التي تبادلتها مع بعض الأصدقاء على أن أتعرف على نبض الجمهور الفرنسي في شكل مباشر، ولا أظن أنني أبالغ إن قلتُ أن هذا الجمهور بدا لي في تلك اللحظة تحديداً أقل عصبية وأكثر هدوءاً وتفاؤلاً بالمستقبل من أي وقت مضى. فهل يرتفع ماكرون إلى مستوى التوقعات والتحديات؟ هذا ما ستجيب عنه الشهور والسنوات المقبلة.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية