من مفارقات الأزمة الراهنة في المسجد الأقصى المبارك ذلك القلق الإسرائيلي من انتفاضة فلسطينية تأخذ بعداً دينياً، خصوصاً عندما يأتي هذا القلق من دولة تأسست على ادعاءات توراتية لم يَثبت لها أساس، لا في ما توصلت إليه الاكتشافات الأثرية القديمة أو الحديثة، ولا في كتابات باحثين يهود معاصرين شككوا في أساسيات الرواية اليهودية، فكيف إن كان عصب الحكومة الإسرائيلية الحالية عقائدياً دينياً ممثلاً بوزراء اليمين المتطرف والمستوطنين؟
ليس هذا للقول إنه لا يوجد في إسرائيل من يعي عواقب استعداء بليوني مسلم واستثارة العقيدة الدينية للفلسطينيين، خصوصاً في ما له علاقة بأحد أقدس مساجدهم، المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، على رغم كل ما تبدى من تآكل التضامن الإسلامي في «جمعة الغضب» أخيراً، بل المقصود أن هناك من لا يرغب في خلط الأوراق في هذا التوقيت بالذات حين تستعد الدولة العبرية لسلام إقليمي تتوقع أن يفتح أمامها أبوابَ العالميْن العربي والإسلامي، وأن تحجزَ لها موقعاً متقدماً في جبهة محاربة إيران والإرهاب. فهل تغامر حكومة بنيامين نتانياهو بكل ذلك الآن بتحويل المعركة إلى حرب مع المسلمين؟
من منطلقات مختلفة، تحذر القيادة الفلسطينية وبعض الفصائل الوطنية والجامعة العربية أيضاً من تحويل الصراع من سياسي إلى ديني، أقله خوفاً من وصم النضال الفلسطيني بالإرهاب ووضعه في سلة واحدة مع تنظيمات إرهابية مثل «داعش» وأخواته.
لكن المشكلة ليست هنا. مشكلتنا هي أن أي صراع ديني سينحصر حتماً بالحرم القدسي الشريف أو ما تُطلق عليه إسرائيل «الحوض المقدس». وهذا خطير على رغم قدسية الحرم وأهميته، ففلسطين كلها محتلة، بقدسها ومدنها، وبمقدساتها الإسلامية والمسيحية.
هذا الفهم الديني للصراع ربما يُفسر لماذا هبّ الفلسطينيون لنصرة الأقصى، لكن صمتوا ولم يتحركوا أمام مئات الإجراءات والقوانين الإسرائيلية لتهويد القدس، مثل قانون التسوية، والسرطان الاستيطاني، وتقطيع أوصال الأحياء العربية، وبيع أملاك الكنيسة الأرثوذكسية، وتشريع القدس الموحدة، ومنع غير المقدسيين من دخول المدينة، وسحب هويات سكانها، والقيود على البناء فيها وحصره في «غيتوات»، وإخراج المناطق الكثيفة سكانياً من العرب خارج الجدار الفاصل.
ليس هذا فحسب، بل إن هذا الفهم الديني نفسه قد يُفسر أيضاً موجة الاحتفاء بتضامن المسيحيين ونصرتهم للأقصى، وكأنهم ليسوا فلسطينيين أو وطنيين، أو كأنهم لا يرون في الأقصى رمزاً وطنياً تماماً مثل كنيسة القيامة.
ثم لنفترض أن الصراع دينيٌ، ألا يعني صراعاً بين ديانتين، الإسلام واليهودية، وبالتالي بين روايتين تتنازعان المكان نفسه والحق فيه. فإذا كانت هذه هي الحال، فما الذي سيمنع الضغط الدولي باتجاه حل وسط إما بتقسيم الحرم القدسي الشريف زمانياً أو مكانياً، أو أفقياً أو عمودياً، بحيث يكون السطح للمسلمين وما تحت الحرم والحفريات لليهود؟
الصراع الفلسطيني صراع وجود ضد احتلال استيطاني كولونيالي، وهو صراعٌ سياسي بالدرجة الأولى تحميه قرارات دولية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات والمؤسسات الدولية الأخرى، بما يحفظ تراكم المسيرة النضالية للفلسطينيين، ويوفر مخزوناً قانونياً وسياسياً في أي تحكيم مستقبلي لإنهاء الاحتلال.
والخطأ الأساسي الذي وقعت فيه السلطة الفلسطينية هو الموافقة على تأجيل البحث في القضايا الأساسية إلى المرحلة النهائية من المفاوضات مع إسرائيل، ومنها قضية القدس، لتستغل إسرائيل الفرصة لفصل المدينة عن شمولية الحل وعن بقية الأراضي الفلسطينية، وبالتالي عن زخم الحركة الفلسطينية العامة.
معركة القدس ليست دينية بل سياسية. هي معركة تحرر وطني وحق تاريخي. والحل هو الحل الشامل بحيث يُبحث مستقبل القدس في إطار الانسحاب الإسرائيلي من كل الأرض الفلسطينية المحتلة، ومن دون حلولٍ مجتزأة، لئلا تُختزل قضية القدس بـ «الحوض المقدس».
فاتنة الدجاني
صحيفة الحياة اللندنية