الآن بعد أن تم طرد “داعش” من الموصل، يبدو أن سُنة العراق وقادته التاريخيين شرعوا في الخروج من الظلال. فقد عقد قادة العراق السنيين مؤتمراً في 15 تموز (يوليو) في بغداد لمناقشة مستقبل مجتمعهم. وكانت من بين الحضور كتل سياسية، وزعماء قبائل، ونواب في البرلمان، ووزراء وحُكام إداريون. وكما كان متوقعاً، شعرت القوى السياسية الشيعية التي تسيطر على الحكومة بالقلق من الاجتماع. ومع ذلك، كان الأمر الأكثر أهمية بكثير هو أن الاجتماع كشف عن الانقسامات الموجودة في داخل المجتمع العراقي السني نفسه.
يقع عدم الانسجام القائم في أوساط العرب السنة الذين يشكلون غالبية سكان الشرق الأوسط، في قلب الفوضى التي تعم المنطقة. وقد اتسعت الشقوق بينهم فقط منذ انتفاضات العام 2011 في المنطقة، وأفسحت مجالاً لصعود الجماعات المتطرفة مثل “داعش”. وطالما بقي العرب السنة مختلفين ومتعارضين، فإن الشرق الأوسط سوف يظل في حالة صراع وأزمة.
أغلبية تم إضعافها
منذ خلق البريطانيون العراق كدولة سيادية في العام 1920، هيمن العرب السنة عليه. أولاً جاء النظام الملكي الهاشمي، الذي حل محله في العام 1958 نظام جمهوري هيمن عليه حزب البعث والجيش. وحتى مع أن الشيعة يشكلون أغلبية سكان العراق، تمكن النظام الذي يقوده السنة من البقاء على قيد الحياة لأنه قمع السياسة الدينية من جميع الأنواع حتى العام 2003. وانهار النظام القديم عندما أطاحت الولايات المتحدة بحزب البعث وصدام حسين.
نهض شيعة العراق وأكراده ليحلوا محل نظام صدام حسين المنصرف، وتولي السيطرة على النظام الديمقراطي الجديد الذي سعت واشنطن إلى بنائه. وفي البداية، قاوم السنة الجمهورية الجديدة، لكن مقاومتهم انقسمت وانهارت على نفسها. وبعدما لم يعودوا موحَّدين في ظل حزب البعث، انقسم السنة على أساس خطوط قبَلية وأيديولوجية وحزبية. وسمح ذلك الخلاف للشيعة بتعزيز سلطتهم، لكن جماعة أخرى استفادت من الانقسام السني بالمقدار نفسه: الجهاديون. ومع مرور الوقت، نما الجهاديون في القوة والعدد ليصبحوا القوة الكبرى بين السُنة العراقيين.
تلقى الجهاديون المساعدة فعلياً من استغلال الشيعة لانقسامات السنة العراقيين الداخلية. وقد انضم بعض السنة إلى النظام السياسي الذي يهيمن عليه الشيعة، في حين عارضه آخرون. وأدّت جهود الشيعة لتهميش السنة إلى تقويض القوى الرئيسية داخل المجتمع السني. وقد ملأ أسلاف تنظيم “داعش” الفراغ، وكسب مشروع الخلافة العابرة للحدود الوطنية القبول في أوساط السُنة، ودفع خارجاً بالقوى السياسية التقليدية التي كانت ما تزال تأمل في أن تكون جزءاً من الحكومة الوطنية العراقية.
وكانت الظروف مشابهة في سورية، عندما قادت الانتفاضة الشعبية إلى نشوب حرب أهلية. كان الثوار في معظمهم من السنة، لكنهم كانوا منقسمين بعمق بكل طريقة وعلى كل شيء سوى رغبتهم في إسقاط حكومة بشار الأسد. لكن ثمة عنصراً في الانقسام السني السوري والذي لا يتلقى الكثير من الاهتمام، وهو أن عدداً كبيراً من السنة لم يكتفوا برفض الانضمام إلى الثورة فحسب، وإنما ما يزالون يؤيدون نظام بشار الأسد. وتهيمن على هذا النظام طائفة الأقلية العلوية، وهي جماعة شيعية.
كان الجهاديون في العراق في وضع جيد لاستغلال الانقسامات بين الأغلبية السنية في سورية. وبالنظر إلى أن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” (كما كان تنظيم “داعش” معروفاً في ذلك الوقت) كان أكثر خبرة وتنظيماً بكثير من أي فصائل للثوار السوريين، فإنه سرعان ما سيطر على مناطق في شرق سورية. وبحلول العام 2013، حول تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” البلدين الجارين إلى ساحة معركة واحدة؛ ثم غير اسمه إلى “الدولة الإسلامية في العراق وسورية” لكي يعكس الواقع الجديد. وفي العام التالي، وباستخدام عمقه الاستراتيجي على جانبي الحدود والفوضى السائدة داخل الطائفة السنية العراقية، استولى التنظيم على الموصل، وأعلن إعادة إقامة الخلافة، وغير اسمه ليصبح “الدولة الإسلامية”.
مَن سيتولى القيادة
بعد ثلاث سنوات لاحقاً، تم طرد تنظيم “داعش” من الموصل ليعود إلى موطنه الصحراوي الريفي. وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إضعاف الجهاديين في العراق، لكنهم يواصلون العودة مع ذلك -وعادة أكثر قوة. وهو ما يحدث لأن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سمحت لتنظيم “الدولة الإسلامية” بالظهور في المقام الأول لم تتحسن.
في واقع الأمر، تبدو هذه الظروف مهيأة للذهاب إلى مزيد من السوء. فالطوائف الدينية والعرقية في الشرق الأوسط تصبح أكثر استقطاباً باطراد. وكانت كلفة تحرير الموصل هي أن تصبح المدينة ذات الأغلبية السنية، للمرة الأولى في تاريخ العراق، تحت سيطرة قوة عسكرية شيعية في أغلبيتها. وهي مسألة وقت فقط قبل أن يعود ازدراء السنة لتنظيم “داعش” ليتحول مرة أخرى في اتجاه الشيعة الذين يحتلون الآن منطقة كانت للسُنة تاريخياً.
تفسر العداوة السنية-الشيعية جيداً السبب في أن لدى العراق وسورية والمنطقة الأوسع مشكلة مع “داعش”. لكن الصراع السني-الشيعي في حد ذاته هو النتيجة المباشرة لانقسامات السُنة الخاصة. وبعد كل شيء، يشكل الشيعة أقلية في العالم العربي. والطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الشيعة -بقيادة قوة فارسية عرقياً، إيران- تحسين حظوظهم الجيوسياسية هي أن يكون العرب السُنة ضعفاء ومنقسمين. وهم كذلك منذ وقت طويل الآن، ويقترب الوضع من نقطة الانهيار.
ليس هناك مركز جاذبية عربي سني. وتحاول السعودية، اللاعب الأكثر ثراء بين العرب السنة، أن تعرض القيادة. لكن مصدر قوتها يتعرض للتجفيف كل يوم مع انخفاض سعر البترول الذي يشكل شريان الحياة لاقتصادها. وحتى لو لم يكن هذا واقع الحال، فإن السعوديين اعتمدوا تاريخياً على الولايات المتحدة لضمان أمنهم القومي. فكيف يستطيعون توفير الأمن الإقليمي وحماية المصالح العربية إذا كانوا غير قادرين على حماية أنفسهم؟ وتشكل الحرب التي تقودها السعودية في اليمن مثالاً واضحاً على عدم قدرة الرياض على فرض النظام في فنائها الخلفي الخاص. ولكن، ربما يكون المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو قطر، الدولة العربية الخليجية الصغيرة التي ترفض إخضاع نفسها للاستراتيجية التي تضعها السعودية للمنطقة.
تشكل مصر قوة عربية سنية رئيسية أخرى. ولديها دولة أكثر قوة من السعودية وجيش هائل. لكن اقتصادها ضعيف، وهي تعتمد فعلياً على السعوديين وحلفائها الأغنياء الآخرين في الخليج العربي.
مع ذلك، فإن المشكلة الكبرى هي أن هذه الدول لا تعرض نموذجاً سياسياً-اقتصادياً قابلاً للحياة للعالم العربي السني. وكان هذا الجدب في الأفكار هو الذي سمح لتنظيم “داعش” بتسويق نموذج خلافته على الكثير من العرب السنة في المنطقة، والذين تتكون أغلبية واضحة منهم من الشباب. ومع أن القوة القتالية للتنظيم أصبحت على الجانب الدفاعي الآن، فإن “داعش” سوف يعيد بعث نفسه في شكل أو آخر. وفي الأثناء، سوف يفشل العالم العربي السني –القاعدة الرئيسية التي يعتمد عليها “داعش” لكسب المقاتلين والدعم، والقوة الوحيدة التي يمكن أن تطغى على أيديولوجية المجموعة- في التغلب على هيمنة الأنظمة المتدينة القديمة والأنظمة الجمهورية العلمانية.
كامران بخاري
صحيفة الغد