وغاري كوهن، يظهر فقط عندما تتطابق المصالح الذاتية الضيقة تماماً.
في تجسيد لهذا المبدأ، وفي يومه الرابع في البيت الأبيض، وقع ترامب أمراً تنفيذياً سحب بموجبه الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي التجارية. وقد فعل ذلك بعد إعرابه عن سلسلة من تعبيرات سوء الفهم العميق للتأثير المحتمل للشراكة عبر الأطلسي على الوظائف والأجور، وسلطتها على صنع القرار الأميركي، وعدم قدرتها على التعامل مع التلاعب الصيني والياباني بالعملات. وبدلاً منها، وعد ترامب بـ “تصحيح” علاقات أميركا التجارية مع كل شركائها التجاريين من خلال صفقات ثنائية. وتفاخر ترامب مؤخراً لصحيفة نيويورك تايمز من دون عرض أي تفصيلات داعمة (كعادته دائماً) بقوله: “انتظروا حتى تروا ماذا سنفعل بخصوص التجارة”. وفي الأثناء، تجري حالياً إعادة صياغة نص اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي -الذي عكس على نحو جامح التفضيلات الأميركية- من دون مشاركة أميركية؛ ومن جهتها، تقدم الصين أجندتها التجارية الخاصة من خلال مشروع “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”.
بل إن منظور نهج محصلة الصفر يمتد ليصل إلى حلفاء الولايات المتحدة الذين ينظر إليهم الرئيس على أنهم منافسون أكثر من كونهم شركاء استراتيجيين دائمين. فعلى الرغم من دور سول الحيوي في التعمل مع الأزمة النووية الكورية الشمالية –التي تشكل بلا شك موضوع الأمن القومي الأعلى على أجندة ترامب- هدد الرئيس بإنهاء الاتفاقية التجارية الثنائية الأميركية مع كوريا الجنوبية، وحاول الخروج على الالتزام الأميركي بالدفع للبرنامج الدفاعي المضاد للصواريخ “ثاد”.
بتجاهلها الطبيعة متعددة الأبعاد للسياسة الدولية وإنكار قيمة التبادلية، فإن هذه النزعة أحادية الجانب تحرم الولايات المتحدة من آليات تعاونية حساسة في التصدي للتهديدات واغتنام الفرص.
وأخيراً، يتسم نهج الإدارة التكتيكية بكونه مجرداً من الاعتبارات الأخلاقية. وقد أظهر الرئيس ترامب إعجاباً بدهياً بالقادة المستبدين. في نيسان (أبريل) امتدح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المسيء بشكل اعتيادي لحقوق الإنسان لإنجازه “عملاً رائعاً في كل وضع صعب”؛ ولاحقاً في الشهر نفسه، اتصل بالرئيس الفلبيني رودريغو دتيرتو لتهنئته وقال للرئيس الذي كان السبب في موت الآلاف من مواطنيه: “أنا أسمع عن العمل المدعش على مشكلة المخدرات… استمر في القيام بالعمل الجيد. إنك تنجز عملاً رائعاً”. وربما كان الأكثر درامية هو وصفه الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بأنه “كعكة ذكية جداً”، وأنه “يشرفني” الاجتماع به.
مع أنها قد تعزز عدم إمكانية التنبؤ التي يقدّرها ترامب كثيراً، فإن سياسة خارجية متحررة من القيم تسفر عن سياسة خارجية موجهة حصرياً و-عدمياً- حول السعي إلى “أفضل صفقة”.
على مدار الأشهر الستة الماضية، وفي أعقاب ضربة صواريخ الكروز التي أمر بها ترامب في سورية، ومرة أخرى في الخطابات المحلقة في السعودية وبولندا، حاول محللو السياسة الخارجية نسج أعمال الإدارة وتحويلها إلى عقيدة استراتيجية متساوقة. كما أن مسؤولين رفيعين في الإدارة ينخرطون في هذا النشاط أيضاً؛ حيث تتنافس الفصائل المختفة على فرض رؤيتها الاستراتيجية لفكرة “أميركا أولاً” في مراهنة اليوم الأخير الغرائبية. ونظير كل الحبر الذي تم هدره في كل المقالات الافتتاحية، فإن هذه المحاولات لم تتجاوز كونها مسعى أحمق.
حتى لو استطاع المحللون والمستشارون فرض تماسك فكري على مجموعة غرائز وميول ترامب، فإن نهج إدارة المواقف التكتيكية إنما يضمن الترجمة غير المتساوقة فقط لهذه التفضيلات إلى سياسة.
لا يشكل حتى عدم تعاطف ترامب الموثق جيداً مع حلفاء أميركا دليلاً إرشادياً موثوقاً لسلوكه الفعلي في العلاقات الخارجية؛ فعلى الرغم من عقود من تعنيف اليابان وألمانيا على حد سواء، احتضن ترامب على مدار الأشهر الستة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي -الذي حضر بذكاء حاملاً قفازات غولف ذهبية إلى برج ترامب في نيويورك في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي- بينما يعبر عن الازدراء تجاه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
بالإضافة إلى ذلك، تفتقر الإدارة إلى القدر على تنفيذ أي رؤية استراتيجية -خاصة تلك التي تتطلب استخدام أدوات قوة غير صلبة. وقد شدد مسؤولون عسكريون بحكمة على أن التوصل إلى حلول دائمة للحروب في أفغانستان وسورية، وحتى اليمن، هي بشكل رئيسي مسؤولية ودور وزارة الخارجية. لكن وزارة الخارجية نفسها استنزفت واحبطت معنوياتها. وكان البيت الأبيض قد طلب في موازنة السنة المالية 2018 مبلغ 37.6 مليار دولار لوزارة الخارجية ولوكالة التنمية الدولية الأميركية (33 في المائة أقل من الموازنة السابقة)، ومبلغ 369 مليار دولار لوزارة الدفاع (يمثل زيادة بنسبة 10 في المائة). كما رفض تيلرسون شغل عدد غير مسبوق من المناصب الدبلوماسية الرفيعة والسفارات، مدعياً أن ذلك سوف يكون بلا معنى إلى أن يعاد تنظيم وزارة الخارجية تماماً.
إلى حد ما، أفضى عجز إدارة ترامب عن تطوير وتنفيذ استراتيجية كبرى إلى درجة مذهلة من مواصلة السياسة الخارجية من حقبة أوباما. وعلى الرغم من إعلان ترامب بأن “الصبر الاستراتيجي” الذي مارسه أوباما مع كوريا الشمالية قد انتهى وولى، فإن سياسة “الضغط السلمي” ليست مختلفة بشكل محسوس. وعلى نحو مشابه، فإن استراتيجية الإدارة التي ما تزال سرية لهزيمة “داعش” تنطوي بوضوح على تكثيف تكتيكي، لكنها تظل مشابهة من الناحية الاستراتيجية لطريقة أوباما.
بينما يبقى الاستقرار مرغوباً بكل تأكيد في بعض الحالات، فإنه لا يشكل بالضرورة أفضل رد على عالم ديناميكي. ومن دون استراتيجية كبرى، لا تستطيع الولايات المتحدة أخذ زمام المبادرة المسرح العالمي، وسوف تتخلى بحكم الأمر الواقع ببساطة عن الأرضية لصالح قوى عدوانية، بينما تتراكم آثار السياسة الخارجية وتتضاعف مع مرور الوقت. كما أن عدم القابلية للتنبؤ التي يحبها ترامب زرعت عدم الثقة في تحالفات أميركا مسبقاً، بينما يتساءل الشركاء الدوليون عما إذا كان من الممكن الثقة بأن واشنطن ستحافظ على التزاماتها الأمنية. وقد بدأ الرأي العام حول العالم يتحول ضد الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تعيد العواصم الأجنبية توجيه سياساتها الخارجية تبعاً لذلك.
مع حلول الخريف، يرجح أن تنشر الإدارة على الأرجح موجة من الوثائق الاستراتيجية، بدءاً من استراتيجية الأمن القومي الرئيسية، وصولاً إلى أخريات أكثر تحديداً مثل مراجعة الموقف النووي. وربما تقدم هذه الوثائق الوهم المتلاشي لاستراتيجية، لكنها لن تستطيع التهرب من حقيقة أساسية: طالما ظلت طريقة ترامب في التعامل الآني مع المواقف تتحكم في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية، فإن الولايات المتحدة سوف تكون المفعول فيه وليس صانعة التاريخ.
ريبيكا فريدمان ليسنير؛ وميكا زينكو
صحيفة الغد