جلبت وفاة الملك «عبد الله بن عبدالعزيز» في أواخر يناير/كانون الثاني 2015 انتقالا سلسلا للسلطة داخل المملكة العربية السعودية. لقد أصبح ولي العهد الأمير «سلمان» هو حاكم المملكة،
وأصبح الأمير «مقرن بن عبدالعزيز» وليا للعهد، في حين أصبح الأمير «محمد بن نايف» – وزير الداخلية في عهد الملك الراحل – نائبا ثانيا لرئيس الوزراء وأول حفيد لـ«بن سعود» في ترتيب العرش.
وعلى الرغم من تكهنات بحدوث العكس، فقد كان الانتقال السلس دليلا قويا على وجود اتفاق وترتيب مُسبق بشأن ترتيب البيت السعودي مع جلوس «سلمان» على العرش ليبدو وكأن ما يتردد طيلة مرض الملك الراحل مُجرد قصص من بنات أفكار كُتّابها. السرعة التي وضع بها الملك «سلمان» المناصب ذات المستوى الأعلى ومجموعته الخاصة من الوزراء والمستشارين في مواقعهم التي نراهم عليها اليوم بدت أيضا أنها تفند التخمينات السابقة بأن كبر السن واعتلال الصحة قد تجعل من فترة حكم «سلمان» مجرد فترة انتقالية.
ويبدو أن الملك الجديد كان على دراية بكل صغيرة وكبيرة مع وصوله للعرش. وتباينت التفسيرات بشأن خطواته وقراراته الحاسمة. فقد استشفّ بعض المحللين أن نفوذ عشيرة السديري يتزايد، في حين رأى آخرون أن «سلمان» يسعى لخدمة وتطوير مصالح أسرته. ويرتبط الواقع – المُعقد عن ذلك بكثير – بسجل الملك «سلمان» بصفته وكيلا للتغيير في العائلة المالكة العنيدة والبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحافظة للغاية.
فمنذ خمسة عقود، عمل الملك «سلمان» حاكما لمنطقة الرياض. لقد أشرف على نقل الرياض من بلدة مُحافظة – بكل ما تحمله الكلمة من معنى – إلى عاصمة من أكثر المدن تطورا في القرن الحادي والعشرين يقطنها أكثر من سبعة ملايين شخص. ونجحت جهود «سلمان» في العبور بالرياض إلى تلك المكانة العالمية، بينما تعثرت مدن سعودية أخرى – مثل جدة – في تنميتها، ويتردد أن حداثة الرياض ستكون نموذجا للمملكة.
وبصفته أميرا، صار «سلمان» مُلمّا بكل أمور العائلة المالكة والمؤسسة الدينية وديناميكيات المجتمع النجدي التقليدي. ولعب دورا لا غنى عنه في الحفاظ على وحدة العائلة المالكة، وأصبح خبيرا في بناء توافق في الآراء، وتعلّم كيفية حلّ القضايا القبلية والدينية الحساسة والتعامل معها حتى تنتهي بهدوء.
ويمثل «سلمان» البراجماتي «جيل الوسط» الذي عمل على تضييق هوة الخلافات بين القادة الأكبر سنا والأصغر سنا. وحافظ على علاقات جيدة مع المحافظين المتدينين (بما في ذلك المطاوعة، أو الشرطة الدينية) والمثقفين من مختلف الانتماءات السياسية، والعناصر التقدمية. وخلال هذه العملية، اكتسب سمعة بالنزاهة، وامتلاكه قناعات قوية حول ما يشكل الفساد في مجتمع قائم على المحسوبية. كما أن دوره كوسيط في الأسرة وفارض للنظام داخلها أعطاه فهما دقيقا لديناميكيات أسرة «آل سعود».
ولذلك، عندما جاء الملك «سلمان» إلى العرش، كان قادرا على الاعتماد على 50 عاما من الخبرة في الموازنة بين احترام القيم التقليدية والسعي لتحقيق الحداثة. وبعد نجاحه في تطوير وتحديث الرياض – التي تمثل تقريبا ثلث سكان البلاد – فمن المنطقي أن يطبق استراتيجيات مُماثلة في محاولته لصبغ المملكة بأكملها بنفس الصبغة. يعلم «سلمان» جيدا أن التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا مفر منه، ولكن يجب أن يُدار بشكل دقيق وعن قُرب.
السياسات
وبالفعل هناك دلائل قوية على أن الملك «سلمان» يسعى لتطبيق نموذج الرياض على باقي المملكة في كلا الاتجاهين، العملي والإيديولوجي. وبصفته حاكما للرياض، فقد أسس هيئة تطوير مدينة الرياض التي مُثلت فيها جميع إدارات المحافظة ووزاراتها. وعملت السلطة من خلالها على تبسيط وتحديث طرق عمل الحكومة المحلية وخلق نظام أكثر كفاءة. وفي الوقت الحالي، عمل «سلمان» – على المستوى الوطني – على الانتقال بسرعة إلى تبسيط صياغة سياسة الحكومة وصنع القرار. فلم يكد يمر على حكمه عشرة أيام حتى حلّ «سلمان» أربعة عشر مجلسا ملكيا حملت مسؤولية جوانب مختلفة من الحكم السعودي، واستبدل ذلك بهيكل مُكوّنٍ من هيئتين فقط: مجلس الشؤون السياسية والأمنية برئاسة الأمير «محمد بن نايف» (وزير الداخلية و صاحب المركز الثاني في ترتيب ولاية العرش)، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ابنه الأمير «محمد بن سلمان» (وزير الدفاع الجديد ورئيس الديوان الملكي).
ويعطي هذا الدمج – المُقترن مع ترقية وتصعيد للقيادات الشابة محل الثقة – الملك الجديد الرقابة الضرورية لمتابعة جدول أعماله. ويبدو أن إعادة الهيكلة التي قام بها الملك «سلمان» على وشك أن تجعل عمليات وقرارات الحكومة أكثر كفاءة، في الوقت الذي لفتت الأنظار فيه اختيار شخصيات محددة بعينها. وجاءت العديد من الوجوه الجديدة في الحكومة من الشركات والمؤسسات الإعلامية والجمعيات الخيرية الإسلامية التي غالبا ما خضعت لسيطرة «سلمان» أو ابنه «مُحمد» إبان توليه منصب حاكم الرياض.
الاقتصاد
تأتي عملية تطوير بديل للاقتصاد القائم على النفط على رأس الأولويات، تماما مثل افتتاح سوق الأسهم السعودي أمام الاستثمار الأجنبي. وخلال فترة حكمه للرياض وعمله كولي للعهد، شجع «سلمان» النمو الاقتصادي للقطاع الخاص بالإضافة إلى إنشاء مناطق صناعية وتجارية لتنويع الاقتصاد. وسوف يشكل ذلك جزءً لا يتجزأ من التنمية بهدف حماية القاعدة الاقتصادية من السياسات النفطية التي تهدف إلى زيادة حصتها في السوق وتوفير النفوذ وجها لوجه مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
وتتحدى السياسات الحالية إيران وروسيا ومنتجي الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، ومن المرجح أن تستمر تلك السياسة في المستقبل المنظور. وسوف يكون الترشيد الاقتصادي تحديا، ولكن لا شك أن الاحتياطيات المالية الضخمة التي تُقدّر بأكثر من 750 مليار دولار أمريكي سوف توفر الوقت وتعمل كمصداتٍ وقائية، وتمثل المكافآت الضخمة التي دُفعت للمواطنين خلال الربيع العربي وعقب جلوس «سلمان» على العرش مثالا واحدا فقط من بين أمثلة كثيرة.
المجتمع
يتطلب التحول الاقتصادي والتنمية حدوث عملية تغيير اجتماعي. ويرى «سلمان» أن التعليم هو اللبنة الأساسية لأي تنمية، وهو ما يفسر جمعه ودمجه مسؤولية ومهمام التعليم لتصبح في وزارة واحدة.
وجمعت «سلمان» علاقات جيدة مع مجتمع الأعمال خلال فترة عمله كحاكم للرياض، وكان هذا المجتمع دائم الحديث بحسرة وضيق عن عجز النظام التعليمي السعودي عن إنتاج مواطنين قادرين على العمل. ومنذ فترة طويلة، كان تجديد نشاط النظام التعليمي في المملكة العربية السعودية على رأس الأولويات الحكومية، ولكن يبدو أنه لا شيء تغيّر. ويرى البعض أن المشكلة في المناهج الدراسية، بينما يشير البعض الآخر إلى نوعية المعلمين.
واختار الملك «سلمان» لوزارة التعليم بعد توحيدها «عزام بن محمد الدخيل» – الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس أحد الجمعيات الخيرية لأسرة «سلمان» – بهدف التركيز على محاولات خاصة لتحسين الفرص التعليمية. وهذا يمكن أن يُبشر بتغيير اجتماعي عميق على المدى الطويل. وعلاوة على ذلك، فإن النساء هن الأغلبية في الجامعات، وتُظهر الأرقام والإحصائيات الخاصة بالعمالة أن المملكة لا تستغل هذه الموارد البشرية ذات القيمة بالقدر الكافي. ويدرك الملك الآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية الناجمة عن القيود المفروضة على المرأة، مثل حظر قيادة السيارات، لكنه يدرك أيضًا أنه لابد أن يكون هذا التغيير مدروسا بعناية ومُنفذا بحنكة حتى لا يستغلها المتشددون الإسلاميون المعارضون للنظام لإثارة الشعب ضده.
وبالتالي، فإن التغيير الاجتماعي المدروس والمُدار بعناية يتطلب احتواء المؤسسة الدينية أو السيطرة عليها. لذا ركزت المملكة بشكل متزايد على وضع معايير دينية تتوافق مع أهداف التنمية. ولهذه الجهود آثار أمنية أيضا، فعلى سبيل المثال وصف رجال الدين السعوديين ممارسة الشعائر الدينية التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا بأنها غير إسلامية، وأن عناصر التنظيم خوارج. وفي إدانته للدولة الإسلامية وتحذيره من تعاليمها المُضللة، طالب المفتي العام للمملكة – الشيخ «عبد العزيز الشيخ» – مُؤخرا بتعديل مناهج التعليم الإسلامي، وبمزيد من الفرص الاقتصادية للشباب السعودي كمصدات عازلة ضد «الأفكار المنحرفة». ويوجد هنا رسالتان تتفقان مع توجه السياسات العامة للملك «سلمان»: المطالبة بالمعايير الدينية وفرص العمل.
وأزال «سلمان» بالفعل رئيس لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان ينتمي لعائلة «آل شيخ» الوهابية، وعيّن بدلاً منه الدكتور «عبد الرحمن السند». ويُعرف عن «السند» وجهة نظره القائلة بأن التفسيرات المُتطرفة إنما تصدر عن «دعاة شر»، كما يطالب بتحسين المعايير التعليمية الإسلامية.
الأمن والدفاع
وكان الملك «سلمان» أقرب شخص إلى أخيه الشقيق الأمير «سلطان» الذي ترأس وزارة الدفاع لفترة طويلة، وبصفته كان أميرا، فقد كان على دراية بالقضايا الأمنية وعمق أسرارها. ولهذه الأسباب، اختاره الملك «عبد الله» وزيرا للدفاع في عام 2011. واليوم، يعيد «سلمان» هيكلة فريقه الأمني لتبسيط عملية سياسة الأمن القومي وترسيخ سيطرته.
واستمرارا للنهج التي تعلمه عندما كان أميرا ووزيرا، فقد قام «سلمان» بالتخلص من عدد من الموظفين الذين عليهم علامات استفهام فيما يتعلق بآدائهم، بما في ذلك أقارب رفيعي المستوى، واستبدلهم بأصحاب كفاءة وثقة. وفي عام 2013، حينما كان وزيرا للدفاع، أزال «سلمان» نائبه الأمير «خالد بن سلطان»، وفور وصوله إلى الحكم أطاح أيضا بالأمير «بندر بن سلطان»، رئيس مجلس الأمن الوطني والسفير السابق لدى واشنطن. وكان كل من «خالد» و«بندر» قد تعرضا لانتقادات بشأن تعاملهما مع قضيتي اليمن وسوريا، كما وُجهت اتهامات بالفساد لكليهما.
وفي عهد الملك «سلمان»، هناك مبشرات بأن الأمن السعودي والسياسة الخارجية سيكونان أفضل تنسيقا وأكثر تركيزا على المصالح السعودية، ومن المحتمل أن تبادر المملكة بأخذ خطوات وسياسات في المنطقة تسبق نظيرات حليفتها الولايات المتحدة. ودعا «سلمان» مؤخرا لـما أسماه بـ«رابطة سنية» تقف في وجه «الدولة الإسلامية» وإيران. وهذا يدل على أنه في الوقت الذي تركز فيه الولايات المتحدة على الناحية التكتيكية فيما يتعلق بـ«الدولة الإسلامية»، يفكر الملك السعودي فيما هو أعمق، متوقعا اليوم الذي يتراجع فيه تهديد «الدولة الإسلامية»، وتصبح إيران ووكلاؤها مرة أخرى محور التركيز الرئيسي للسياسة الأمنية السعودية والخليج العربي.
وسوف يستمر التعاون الأمني والدفاعي مع القوى الغربية في ظل حكم الملك الجديد، إلا أنه من المرجح أن تكون المملكة أكثر عدوانية في تأكيد وجهة نظرها الخاصة ومتابعة مصالحها مما كانت عليه في الماضي. وفي أعقاب خلافات حادة بين الرياض وواشنطن بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه «نظام الأسد» في سوريا، فقد احتفظ وزير الخارجية السعودي «سعود الفيصل» بمنصبه تحت قيادة «سلمان»، وهو الذي قال بلهجة حادة «تقوم العلاقة الحقيقية بين الأصدقاء على الصدق والصراحة أكثر منها على المجاملات. وضمن هذا المنظور، فإنه من الطبيعي أن سياساتنا ووجهات نظرنا ربما تتفق وتختلف على حسب المواقف».
خاتمة
لا شك في أن الملك «سلمان» يواجه حاليا تحديات سياسية واقتصادية راهنة بنهج مُحافظ مدروس. ومع ذلك، فإن سجله كأمير لمنطقة الرياض يشير أنه على المدى الطويل سوف يحاول خلق إطار مؤسسي لإدارة التحديث والتغيير. وفي الوقت الذي يبقى أن نرى فيه إمكانية نجاح استراتيجيات الحوكمة – التي ساعدت على تحويل الرياض – في المملكة ككل بنفس المستوى، يمكننا أن نقول إن «سلمان» لديه المعرفة والخبرة الإدارية، وأخلاقيات العمل والمكانة التي تجعل ذلك ممكنا وقابلاً للتطبيق. ولعل الأهم من ذلك ما عُرف عنه من السنوات التي قضاها في الرياض أن التجربة المحافظة الموضوعة تحت السيطرة عبارة عن هدف متحرك رئيسي.
والسؤال الأهم الآن هو صحة الملك. ولإضفاء الطابع المُؤسسي على نهجه في عملية التغيير، يحتاج «سلمان» من ثلاث إلى خمس سنوات من الحكم العملي الذي يشارك فيه بكل تفاصيله. وعلى فرض أن ذلك لم يحدث، فإن السلطة ستنتقل إلى الأمير «مقرن بن عبدالعزيز» – على افتراض أنه لا يزال في منصبه كولي للعهد – أو «محمد بن نايف» أو «محمد بن سلمان» والأحفاد لترسيخ تغييرات تُوصف بأنها الأكثر صعوبة,
الخليج الجديد