ستة أعوام. نصف مليون قتيل. ملايين عدة من اللاجئين والمشردين. وعدد غير معروف من آلاف المعذبين والمقتولين.
تشكل الحرب الأهلية السورية أسوأ كارثة إنسانية عرفها قرننا الجديد، وكانت لتحتل مكاناً علياً في قائمة مآسي القرن الماضي. ولكن، على عكس الحربين العالميتين في الماضي، يبدو هذا الصراع المحلي نسبياً بلا حل يمكن تصوره، دبلوماسياً كان أم عسكرياً. وحتى مع أن نهاية الموطن الأساسي للقلق الأروبي -تدمير “داعش”- أصبحت قريبة، علينا أن نقر بأن ما يأتي بعده ربما يكون أسوأ لسورية والشرق الأوسط وبقية العالم. والشيء الأكيد فقط: قدر أكبر بكثير من التدمير والمعاناة والموت.
مع ذلك، في المواجهات الكبرى، يمكن غالباً تصور المستقبل من خلال الماضي. كانت سورية -مثل باقي دول بلاد الشام والخليج- بناء زائفاً، نتيجة توقع مجموعة كبيرة من واضعي الخرائط البريطانيين والفرنسيين انهيار الإمبراطورية العثمانية، رجل أوروبا المريض. ويأتي الكثير من المشكلة في حقيقة الأمر من ذلك الازدراء -الشرق الأوسط ليس أوروبا، على الرغم من أن بعض أصداء أوروبا قبيل حرب الثلاثين عاماً. إن الدين، والطموح والكفاح من أجل القومية هي خليط قابل للاشتعال. لكن من يدفع الثمن حتماً هم الناس العاديون.
مع ذلك، حتى المشاكل غير القابلة للحل تحتاج إلى تشخيص، ولذلك، تحدثت مع شخص مناسب بشكل خاص لهذا الموضوع؛ أندرو تابلر، الزميل في مؤسسة مارتن جيه غروس في معهد واشنطن للسلام في الشرق الأدنى، والذي يتوافر على سيرة أصيلة وتاريخ نشر يؤهلانه ليكونو مرجعية عليا في شؤون المنطقة المنطقة. والأهم أنه أمضى الجزء الأكبر من سبعة أعوام وهو يعيش في سورية تحت حكم نظام بشار الأسد، وحتى تحت حكم والده الأكثر قسوة، حافظ. وكنا، أندرو وأنا، قد اشتركنا في مؤخراً في ندوة عن الأمن في معهد أسبن، ثم تحدثنا بعد ذلك. وفيما يلي تقرير محرر بشكل خفيف عن ذلك الحوار.
توبين هارشو: حسناً، دعنا نبدأ من البداية. لا أعني تخلي الرئيس باراك أوباما عن “خطه الأحمر” حول الأسلحة الكيميائية، أو الربيع العربي، أو عندما تسلم بشار الأسد الحكم بعد والده. أنا أتحدث عن اتفاقية سايكس بيكو، تقسيم بريطانيا وفرنسا التعسفي للشرق الأوسط قبل قرن. ما الذي يستطيع أن يخبرنا به ذلك التاريخ غير المجيد عن اليوم؟
أندرو تابلر: للإمبراطوريات الكثير من المشاكل -إنها تفرض عليك الضرائب وتجند أبناءك لخوض حروب لا تريد خوضها… إلخ. لكن العثمانيين على الأقل منحوا المواطنين المحليين الكثير من الحكم الذاتي. ونجحت طريقتهم إلى أن صارت الإمبراطورية العثمانية متجهة نحو الانهيار. وعلى سبيل المثال، كانت لديك مناطق حيث تكون قرية شيعية على بعد ميل من قرية مسيحية. ولكن كانت لهما هويات مميزة والقليل من الأمور المشتركة. ومن الصعب جداً أن تأخذ تلك الفسيفساء الحرفية من الطوائف والثقافات وتحولها إلى دولة قومية.
هارشو: كيف تتسبب تلك الحدود الزائفة لنا بالمتاعب اليوم؟
تابلر: لم يكن لسورية وزن أبداً حتى قبل الحرب العالمية الأولى، ولم تكن لتصبح شيئاً. والسبب كان هذه الفسيفساء -لم تكن هناك هوية سورية. وهو ما صنع واحداً من أكثر الانتدابات زعزعة استقرار في العصر الكولونيالي. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أكثر بلد مضطرب في العالم. حدثت فيها سبعة أو ثمانية انقلابات وتوقفت عن الوجود عندما انضمت إلى مصر في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر وشكلتا الجمهورية العربية المتحدة. كانت سورية دائماً غير مستقرة. ولذلك، عندما استولى حافظ الأسد على السلطة في العام 1970، عمد إلى حالة الطوارئ الوطنية من الاضطراب الشعبي وأعلن قانون الطوارئ الذي أتاح له ممارسة دكتاتوريته. ولتبرير ذلك، جعل المعارضة لإسرائيل النقطة المركزية. وتم استغلال هذه الفكرة عن أنهم يقاتلون إسرائيل لتعزيز واحد من أكثر الأنظمة استبداداً في العالم. وقد تسبب ذلك في جعلهم متصلبين وغير قادرين على التفاعل مع الإصلاحات التي لو نفذوها لمكنتهم من تجنب اضطرابات العام 2011.
هارشو: إنهم ليسوا الوحيدين الذين استخدموا إسرائيل كذريعة للحكم القمعي.
تابلر: نعم، المسألة الفلسطينية، كما تدعى، لم تحل. وأحب ناصر أنيقول عنها “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
هارشو: وماذا يعني ذلك؟
تابلر: إنه يعني الكثير في العربية، لأن كلمة “صوت” وكلمة “تصويت” مشتقتان من الجذر نفسه. ولذلك، يعني أننا في حالة حرب، وسوف نعود إلى تلك القرارات الأخرى الخاصة بالحكم لاحقاً. لكننا الآن نقاتل، وهذا يبرر فرض حالة طوارئ.
هارشو: إذن، كيف يختلف بشار الأسد عن والده؟
تابلر: حافظ كان رجلاً وحشياً ويصعب التعامل معه. لكنه بنى نظامه وسيطر عليه وكانت عنده خطة. وكان بشار في كل أنحاء المكان. وهو يعد بالكثير لكنه لا يفي بالوعود. ويشكل اتفاق خفض التصعيد في جنوب غرب سورية الذي توصل إليه الرئيسان فلاديمير بوتين ودونالد ترامب حالة اختبار.
هارشو: بأي طريقة؟
تابلر: بالنسبة للولايات المتحدة، كانت مدفوعة بحاجة إلى حماية الناس الذين إلى جانبنا من الحرب الأهلية وإبقاء القوات الروسية خارج جنوب غرب سورية. كما أنه أيضاً نموذج ممكن للسلام في باقي أرجاء البلد. والآن، في هذا الخضم، أوقفنا تمويل برنامج قوات الثوار في الدول المجاورة. ألن نسمح للثوار بالدفاع عن أنفسهم؟ يبدو أن الأمر يتعلق بالحد من الهجمات المضادة من جانب وكلائنا ضد النظام، لأن هؤلاء المقاتلين لن يكونوا فعالين الآن.
هارشو: هل منطقة خفض التصعيد نموذج للكيفية التي نقوم فيها بتحييد الكل، أم أننا نريد نوعاً من صفقة كبرى؟
تابلر: إنها صيغة للتعامل مع حقيقة أنه لا النظام ولا المعارضة يتوافران على القوات التي تمكن أياً منهما من السيطرة على كل الأراضي السورية. إنها اختبار. وأنا متشكك لأن الروس يستثمرون بقوة في النظام السوري. إنها مشكلة عويصة.
هارشو: يفترض المرء أن قطع الدعم عن الثوار هو جزء من التفاوض مع روسيا التي تريد بقاء الأسد مسيطراً على جزء ضخم من سورية ما بعد الحرب على الأقل. فما هي نهاية لعبة بوتين؟
تابلر: للروس آراء متعددة عن سورية. إذا تحدثت مع وزير خارجيتهم تستمع إلى حديث عن مفاوضات معقولة تدفع في اتجاه حل دبلوماسي من خلال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإذا تحدثت مع وزارة الدفاع، فإنك تتلقى جواباً مختلفاً كثيراً وأكثر حربية. ويلتقي هذان المركزان في الكرملين. وأعتقد أن الروس يعرفون أنهم في نهاية المطاف لا يستطيعون الخروج كلية من سورية. إنهم يريدون التوصل إلى صفقة، لكن الصفقة التي يريدونها ليست حول سورية وحسب. إنها بالنسبة إليهم تتصل بالعقوبات الأميركية وبضمهم لشبه جزيرة القرم على وجه التحديد. إنهم يحبون المفاوضات المصحوبة بمساومات بارعة وتنازلات متبادلة، أما نحن فلا نحبها.
هارشو: هل تعتقد بأن بوتين سوف يفلت حبل الأسد في هذا التبادل للخيول؟
تابلر: ربما، لكن السؤال هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستدفع ثمن السماح لبوتين بقضم الأراضي في أوكرانيا في مقابل ما نريده نحن في سورية.
هارشو: إذن، أصبح “داعش” في مراحله الأخيرة في الرقة، عاصمته المعلنة ذاتياً في سورية. ولكن، حتى مع تدمير “خلافته” فإنه سيبقى على قيد الحياة. ولدينا زيادة من جماعات الثوار بالإضافة إلى حزب الله المدعوم من إيران، في الخليط. فما الذي سيحدث تالياً؟
تابلر: إذا سارت الأمور كما هي راهناً حيث نظام الأسد المدعوم إيرانياً يملأ الفراغ في سورية وحيث تعمل القوات نفسها الشيء ذاته في العراق، هل تستطيع تخيل ما الذي ستبدو عليه الأمور بعد عام؟ سوف يكون مشهداً متحولاً على نحو درامي.
هارشو: حيث إيران هي الكاسب الكبير؟
تابلر: سوف يتشكل الهلال الشيعي الممتد من طهران حتى البحر الأبيض المتوسط، والذي ما نفتأ نتحدث عنه ونخشاه منذ عقود، أمام ناظرينا. ولا أرى جيران سورية وحلفاءنا يتقبلون بذلك بلا قتال. لكن السؤال هو ماذا سيفعلون.
هارشو: وهل هناك شيء يستطيعون عمله؟
تابلر: الشيء الأسهل هو فتح حدودهم والسماح للأسلحة بالذهاب إلى حركة التمرد، لأنه يوجد دائما تمرد في وادي الفرات. وعلينا أن نجعلهم أفضل في لعبة الوكالة -بمعنى أنهم يجب أن ينظروا إلى ما يفعله الإيرانيون ويتعلموا منه. إنهم يحتاجون إلى خلق لاعبين من أشباه الدولة، وليس لاعبين بلا دولة، وهو ما يفسر السبب في أن الإيرانيين ما يزالون قادرين على التحكم بالأمور بشكل كبير.
هارشو: هل تتوفر لديكم تلك القوات بالوكالة؟
تابلر: لا، وهو واحد من التحديات الكبيرة للدول السنية. في هذه الدول المفلسة، فإن الطريقة الوحيدة التي تضمن بها مصالحك تمر عبر وجود قوات تستطيع السيطرة عليها بين الحين والآخر، وهم لا يتوافرون على أي منها. وهو قيد رئيسي على سياستنا حتى الآن.
تذكرني أوضاع السُنية اليوم بعض الشيء بالكنيسة الكاثوليكية قبل اليسوعيين -إنك تحتاج لأن يكون لديك رد على حركة تتحدى أتباعك. وإحدى الطرق لرؤية ذلك هي من خلال التاريخ الأوروبي، حرب الثلاثين عاماً. لكن ذلك كان قبل وقت طويل بالنسبة لنا؛ لكنه في الشرق الأوسط ما يزال يحدث.
هارشو: هل تعتقد أنه على الرغم من أن الروس ابقوا الأسد في السطة، فإن الإيرانيين هم الذين سيجنون الثمار؟
تابلر: صحيح. ما لم تغيير ذلك. أنا متشكك.
توبين هارشو: هل الروس والإيرانيون حلفاء طبيعيون في هذه المرحلة؟
تابلر: نعم، في سورية والشرق الأوسط برمته. ويسمح هذا للإيرانيين بعزل تركيا والعرب من أجل الانقضاض على إسرائيل. وبالنسبة للروس، فهو يدور حول احتواء تركيا أيضاً بالإضافة إلى استعراض قوتهم في المنطقة. إنهم لا يتمتعون بعلاقات جيدة مع العرب.
ولكن، في نهاية المطاف، يتعلق الكثير من هذا باضطراب السياسات الأميركية في الشرق الأوسط.
روبين هارشو
صحيفة الغد