كان من الواضح لعين كل متابع، ومنذ العام الأول، فشل الإطار الفلسفي الذي قام عليه الاتفاق النووي. فمن ناحية نظرية تقديم «الجزر» من أجل تحسين سلوك نظام سيئ، فإن سلوك النظام الإيراني لم يتغير، بل على العكس سمح له هذا الاتفاق بالتمدد أكثر وتكريس سلطته في أكثر من مكان.
أما من ناحية السلم العالمي ونزع السلاح النووي، فقد كان واضحاً كذلك عدم وجود أي ضمانات يمكنها تأكيد ما تمت الدعاية له في مرحلة ما قبل الاتفاق، ولو حتى على صعيد مجرد تأجيل حصول إيران على السلاح النووي. في الواقع فإن الأمر لم يكن يحتاج لكثير من العبقرية والذكاء من أجل التيقن، حتى قبل توقيع الاتفاق، من أن جمهورية الولي الفقيه صاحبة المشروع العالمي، لن تكتفي بمجرد الانخراط في المنظومة الدولية، والاستفادة من إيجابيات هذا الانفتاح الجديد، بما يخدم رفاه الشعب الذي عانى لعقود من عقوبات متنوعة وحصار.
حتى الآن لا نعرف السر خلف حماس الرئيس السابق باراك أوباما وبعض المقربين منه لتوقيع الاتفاق، وهو حماس جعلهم يرفضون قراءة الواقع، ويعلّقون آمالاً كبيرة على نجاحه وإن تسبب بتوتر علاقة بلادهم مع شركاء تاريخيين في المنطقة. أما عهد دونالد ترامب فقد بدا بداية مختلفة، حيث أعلن منذ أيام الحملة الانتخابية رفضه لهذا الاتفاق «الأغبى على الإطلاق»، متوعداً بتمزيقه بمجرد استلامه الرئاسة، وهو الأمر الذي أكد عليه بمجرد دخوله البيت الأبيض رئيساً، ولعلنا نذكر كيف كانت الأسابيع الأولى لحكمه فترة لتبادل التصريحات العدائية بين واشنطن وطهران. على عكس فترة الحملات الانتخابية، بدأ المراقبون بأخذ تصريحات الرئيس ترامب ضد الاتفاق وضد النظام الإيراني نفسه بشكل جاد ومختلف، فالأمر الآن لم يعد مجرد تصريحات لكسب أصوات بقدر ما هو قناعة وسياسة أمريكية جديدة في طريقها لأن تكون قيد التنفيذ.
بالنسبة لإيران فقد كان الوضع ملتبساً، حيث اعتاد النظام هناك على التصريحات الغربية، خاصة الأمريكية الناقدة لسلوكها، بل إن فترة الرئيس أوباما نفسه، وهو الذي كان يعتبر قريباً من المسؤولين الإيرانيين، لم تكن تخلو من تصريحات لاذعة تقابلها ردود ساخطة من الجانب الإيراني، إلا أن كل ذلك لم ينجح في تعطيل النظام، سواء على صعيد مشاريع تطوير السلاح في الداخل، أو كان على مستوى التدخلات الخارجية، خاصة في العراق وسوريا واليمن، مستندة إلى تجربتها مع الإدارة الأمريكية السابقة، وعلى وجهة نظر مفادها أن من الصعب على الولايات المتحدة إلغاء الاتفاق. قامت إيران بفعل ما سيعتبره الرئيس الجديد استفزازاً، بتجربة علنية لصاروخ باليستي متوسط المدى، ما يتنافى مع أهم بنود الاتفاق القاضية بتجميد مثل هذه العمليات. تزامن ذلك مع استهداف مجموعة الحوثي المدعومة من نظام الملالي لقطعة بحرية سعودية. لم يكن الغضب الذي ظهرت به الإدارة الأمريكية الجديدة مفتعلاً أو مسرحياً، على غرار الغضب والاستياء الذي كان يعبر عنه الرئيس السابق من حين لآخر، بدون اتخاذ إجراءات فعلية. ترامب الذي قال إن إيران « لم تقدّر» ما منحه لها باراك أوباما، عمد إلى تفعيل عقوبات اقتصادية قاسية طالت الكثير من الكيانات الإيرانية. من النقاط الفارقة في مسار قضية الاتفاق النووي والعلاقات الأمريكية الإيرانية بشكل عام، كان تعيين ريكس تيلرسون وزيراً للخارجية. كان الرجل يمثل الصوت الدبلوماسي للسياسة الأمريكية. صوت يسعى لأن يكون مقبولاً وواقعياً في مقابل الصوت الاستفزازي و الصادم أحياناً للرئيس الأمريكي. ومقابل الرئيس الذي كان يتحدث عن تمزيق الاتفاق ورميه، وهي العبارات التي كانت تلقى قبولاً كبيراً عند منتقدي الاتفاق، كان تيلرسون يقول إن ذلك غير واقعي وأنه من الواجب العودة مرة أخرى إلى الحوار حول الاتفاق. فسّر كثيرون رأي تيلرسون هذا بأنه انحياز جديد لإيران، لكن تصريحات الرجل ومواقفه المتعددة كانت تؤكد إيمانه بدور إيران التخريبي في المنطقة وإن كان، وبحكم الكثير من الخبرة، ينظر للأمور بعين مختلفة.
حاول تيلرسون على سبيل المثال أن يشرح للمتحمسين أن هذا الاتفاق ليس اتفاقاً ثنائياً بين الولايات المتحدة وإيران، وإن كانت الأولى هي الطرف الأعلى صوتاً في الحديث عنه، بل هو في حقيقته اتفاق بين إيران ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي. يتوجب على الولايات المتحدة بحسب ذلك أن تتعامل وفق حجمها الطبيعي كأحد أطراف الاتفاق. بهذا المنطق يكون الحديث عن إلغاء الاتفاق أو تمزيقه، مجرد حديث للاستهلاك الشعبوي، أما واقعياً، فلا يملك الأمريكيون أي تفويض للحديث عن ذلك نيابة عن الآخرين. استناداً إلى ذلك دعمت الدبلوماسية الأمريكية مقاربة عملية ومختلفة فيما يتعلق بالمسألة الإيرانية، وهي مقاربة تستند إلى محورين: المحور الأول، هو محور المواجهة الذي تعمل فيه الولايات المتحدة بشكل لصيق مع جيران إيران المتضررين من سياساتها ونواياها من أجل إجبارها على التراجع عن ميادينها ومكتسباتها الاستراتيجية على الأرض، وهو ما مثله بشكل واضح تجمع الرياض الذي ضم عدداً كبيراً من الدول العربية والخليجية والإسلامية. أما المحور الثاني فهو محور تصعيد العقوبات، بإضافة أفراد ومجموعات جديدة وبحجز الملايين من الدولارات التي كانت في طريقها لإنعاش الاقتصاد ورد العافية إليه. هذه المقاربة المزدوجة لم تلبث أن اصطدمت بثلاثة عراقيل مهمة:
ـ أول هذه العراقيل هو الأزمة الخليجية التي خلقت شرخاً مهماً في نسيج المعسكر المناهض للنفوذ الإيراني، والتي أظهرت الجانب العربي وكأنه ينطلق من سياسات ارتجالية وحالات مزاجية متقلبة، ما يجعل من الرهان المطلق عليه صعباً، وافتقاد الاستراتيجية جعل الكثير من الدول تبدأ في إعادة حساباتها محافظة على شعرة معاوية مع حكام طهران، برفض الانخراط في أي مشروع للتصعيد الجاد أو المواجهة المباشرة معها، وهو ما بدأته بالفعل دول مهمة ومؤثرة حتى قبل اندلاع الأزمة الخليجية الحالية.
ـ وثاني العراقيل المتعلق بمسألة العقوبات، من الناحية القانونية فإن الجهة الوحيدة التي بإمكانها معاقبة إيران على سلوكها هي مجلس الأمن، بعد توصية من وكالة الطاقة الذرية، وهي مسألة فنية معقدة وتأخذ وقتاً طويلاً. صحيح أن الولايات المتحدة استطاعت فرض عقوبات أحادية على طهران وهي عقوبات موجعة بلا شك، إلا أنها تظل عقوبات بلا سند قانوني واضح، وهو الأمر الذي ظل النظام الإيراني يكرره ضمن تحركات دبلوماسية كان آخرها بداية هذا الشهر حين تقدمت طهران بشكوى رسمية لمجلس الأمن، المكلف بمراقبة تنفيذ الاتفاق، ضد الولايات المتحدة. اعتبرت طهران في شكواها أن العقوبات المفروضة التي تستهدف الحرس الثوري والبرنامج الصاروخي، تنتهك الاتفاق النووي. من المهم أن نذكر هنا أن هذا التحرك الإيراني ليس منفرداً، وإنما يستند إلى دعم كثير من الدول التي يمكن أن يضرها نقض الاتفاق، وهو ما يشكل مزيداً من الضغط على الإدارة الأمريكية.
أما ثالث العراقيل فهو المتعلق بالبيت الداخلي الأمريكي نفسه، حيث يلاحظ كل مراقب أن الإدارة الأمريكية تتكلم بأصوات مختلفة وتمتلك رؤى متباينة للكثير من القضايا التي من بينها موضوع الاتفاق النووي والعلاقة مع إيران. هناك تغييرات كثيرة طالت، وما تزال تطال، شخصيات مهمة داخل البيت الأبيض ومؤسسات الحكم الأخرى، ما خلق حالة فريدة وغير مسبوقة من الارتباك وضباب الرؤية، بل إن مصادر إعلامية أمريكية كانت تتحدث قبل أيام عن نية وزير الخارجية نفسه تقديم استقالته بسبب اختلافه مع الرئيس ترامب حول عدد من المقاربات.
السيناريو الأسوأ بعد ذلك كله يبقى عودة الولايات المتحدة للمراهنة على النظام الإيراني كحليف وشريك في المنطقة على حساب الآخرين، وهو سيناريو غير مستبعد في ظل العمل الدؤوب الذي يقوم به ما بات يعرف باللوبي الإيراني في واشنطن، الذي لا يقابله من الجانب الآخر سوى الكثير من السلبية والتشرذم وفوضى الأولويات.
د. مدى الفاتح
صحيفة القدس العربي