للحظة عابرة يوم 10 آب (غسطس) الحالي، تم اختراق الجدار العالي لتعاطف الإعلام مع الحرب في شرقي سورية وارتباطه بمصالح الأمن القومي الأميركي. فقد سأل مراسل صحفي ناطقاً عسكرياً أميركياً عن التداعيات على جهد محاربة الإرهاب من وراء السماح للمقاتلين الأجانب الشيعة وعناصر مسلحة تابعة لنظام الأسد تحت القيادة الإيرانية بالدخول إلى شرق سورية السني لتخليصه من “داعش” في أماكن مثل دير الزور، وهل من احتمال لانبعاث “داعش” من جديد في مناطق يستولي عليها لاعبون أشرار مثل إيران والأسد؟ وكان جواب الناطق: “ليس هذا مكمن قلق مباشر بالنسبة لنا الآن، لكنني لا أعرف ما إذا كنا قد درسنا الأمر بقدر أكبر من العمق. مرة أخرى، قلت لك أين ينصب تركيزنا الآن وأين تتكثف جهودنا”. وينصب ذلك التركيز وتلك الجهود على استعادة مدينة الرقة وقتل عناصر “داعش”: نقطة.
يستطيع المرء أن يفهم بسهولة من هذا الحوار أن الولايات المتحدة غير عابئة بوضع شرق سورية في مرحلة ما بعد “داعش”. ومتى تم استئصال “داعش”، لا تهتم الولايات المتحدة بما إذا أعيد تأسيس الظروف التي كانت قد أفضت إلى صعود الإرهاب العابر للحدود الوطنية في الجوار؛ وهذه المرة من خلال الإضافة السريعة لمقاتلين أجانب غير منضبطين ينطوون على أجندة طائفية قاتلة. وإذا كان الانطباع عن وجود اللامبالاة غير دقيق، يتساءل المرء عن الطرف الذي يقف وراء تخويل الإدلاء بهذه التصريحات.
منذ أواخر العام 2014، عندما حاصرت قوات خلافة “داعش” المعلنة ذاتياً بلدة كوباني الكردية السورية، سعت القوات المسلحة الأميركية إلى إضعاف وتدمير المنظمة الإرهابية. وقد حاولت القيام بذلك عبر شن الهجمات الجوية، بينما كان رجال المليشيات تحت القيادة الكردية (مع مستشارين أميركيين) يعملون على الأرض. وكانت الحملة الكردية الأميركية البرية-الجوية بطيئة ومحدودة من حيث مدى الوصول الجغرافي.
لعل إحدى الملامح الجديرة بالملاحظة لصراع السنوات الست في سورية هو أن تداعياته الخطيرة غير قابلة للاحتواء. وقد سعى نظام الأسد -مع الدعم الكامل من إيران وروسيا- إلى الحفاظ على بقائه من خلال عسكرة الانتفاضة وجعلها طائفية، ومن خلال جعل المدنيين أهدافاً لعقاب جماعي وإبادة جماعية. وأفضى هذا الوضع إلى خلق كارثة إنسانية تدفقت نتائجها حتى وصلت إلى السويد وما وراءها. ومن خلال تفريغ سجونه من المتطرفين الإسلاميين، تمكن النظام على نحو قاتم –وإنما ناجح- من تلويث صفوف أولئك الذين يعارضونه. ويشكل ظهور فرع سوري لتظيم القاعدة، بالإضافة إلى “داعش” -الابن المشاكس لتنظيم “القاعدة في العراق”، الذي كان نظام الأسد قد دعمه لعدة أعوام- التداعيات الإرهابية العابرة للحدود التي أنتجها إرهاب الدولة الذي مارسه النظام.
لذلك، من العادل والنزيه والمهم أن يسأل المرء عن تبعات السماح لجهد بقيادة أميركية ضد “داعش” -واحد يقترب من عامه الثالث- بأن ينتهي مع سقوط شرقي سورية في الجزء الضخم منه في أيدي متطرفين طائفيين وقتلة جماعيين. وفي الأثناء، يبدو أن موقف القيادة الوسطى للولايات المتحدة (سنتكوم) التي تتخذ من تامبا مركزاً لها، هو شيء من قبيل: “سؤال مثير للاهتمام، لكنه ليس شأننا. إننا هنا لنساعد قوات سورية الديمقراطية على ضرب داعش. ومتى ما فعلنا ذلك، فإن المهمة قد أُنجزت”.
لا شك أن إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش” في سورية أمر مهم. وكان من الواجب عمل ذلك منذ وقت طويل حتى من قبل أن تشرع الخلافة المصطنعة بتنفيذ هجماتها العدوانية الجماعية في تركيا وفرنسا وبلجيكا. وكان من الواجب أن تكون المهمة قد أنجزت على يد ائتلاف من قوات برية محترفة، بمشاركة الراغبين وبقيادة الولايات المتحدة. وكان من الواجب تكليف المعارضة السورية التي اعترفت واشنطن بها على أنها “الممثل الشرعي للشعب السوري في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2012، بالإعداد للحكم في مرحلة ما بعد “داعش” ومساعدتها على تحقيق تلك الغاية بجهد منظم أميركياً ومتعدد الجنسيات. وكان من الواجب بناء قوة استقرار سورية بالكامل في شرق سورية المتمتع بالحماية، من أجل تهدئة المنطقة وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية والبدء بإعادة الإعمار.
لكن البديل الذي تم اختياره كان شن حملة جوية-برية مفككة أو متقطعة، والتي تعول بشكل كبير على رجال مليشيات من تنظيم مرتبط بحزب العمال الكردستاني الإرهابي. وقد حد الاعتماد على الأكراد من الوصول البري للقتال ضد “داعش” في سورية. وصب الوقود على نار نزاع ثنائي بين حليفين في الناتو (تركيا والولايات المتحدة). كما أنه وضع مسألة تحرير المدنيين السوريين في أيدي رجال المليشيات. والآن، فتح الباب أمام عناصر غير قانونية لاحتلال شرق سورية، والتي سوف تلهم بالتأكيد المقاومة التي سوف يسعى متطرفون آخرون استغلالها.
من الواضح أن إدارة ترامب والإدارة التي سبقتها على حد سواء اعترفتا بالرابط بين أداء نظام الأسد ووضع سورية كمضيف للإرهابيين. وكانت إدارة ترامب أكثر مباشرة من سابقتها في ما يتعلق بدور إيران في تدمير الدولة السورية من أجل الحفاظ على نظام مفترس، لكنه خانع. وكان وزير الخارجية الأميركية، ريكس تلرسون، مباشراً جداً فيما يتعلق بعدم قبول بشار الأسد وحاشيته كجزء من مستقبل سورية السياسي. لكن أياً من هذا يبدو وأنه موضع “قلق” أولئك الذين عُهد إليهم بمهمة محو “داعش” من الوجود.
قبل أسابيع، حاول هذا الكاتب جلب الانتباه إلى الدعوة التي وجهتها القيادة الأميركية الوسطى إلى إيران ونظام الأسد لزج قوات مسلحة في داخل شرق سورية شريطة تركيز نارهم على “داعش”. وقد بدت هذه الدعوة مناقضة للسياسة المعلنة لواشنطن. ويبدو التصريح الأحدث وأنه يؤكد وجهة نظر القيادة العسكرية المرحبة بأي جهة تطلق النار على “داعش” ليفتح حانوتاً له، حتى لو كان من المؤكد أن طبيعة النشاط الذي يمارسه تجتذب الأنواع الخطأ من العملاء.
من المؤكد أن لإدارة ترامب الحق في مضاعفة الرهان على سياسات الإدارة السابقة والمساعدة في تنصيب إيران مسيطرة على سورية وحيث تجول حاشية الأسد بين أطلال البلد بحثاً عن الغنائم وتهيئة المسرح لموجات ونويعات من التطرف الذي سوف ينشأ نتيجة لذلك. وهي تستطيع المصادقة على السياسة التي تفضي إلى خلق قيادة قتال موحدة عبر تخويل القيادة العسكرية الوسطى صراحة بالترحيب بإيران وبالنظام للحلول محل “داعش” كمجرمين مقيمين في المنطقة. أو أنها تستطيع محاولة التوصل إلى كيفية منع إيران والأسد من ارتكاب أسوأ ما لديهما ضد أمن الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها. وقد تتضمن الخطوة الأولى انضباطاً في الإعلام العام.
في الحقيقة، يجب على الإدارة ممارسة القيادة السياسية مهما كان اختيارها لما تريد أن تفعله. ولا يجب وضع أحد يرتدي زياً عسكرياً أميركياً في موقع يبدو معه وكأنه يصادق على إخضاع السوريين لإيران والأسد، بينما يحاول تفسير محدوديات مهمة عسكرية ضيقة. إن قتل وتدمير “داعش” هو هدف محمود. لكن فعل ذلك من دون التفكير العميق في التبعات الإرهابية جراء استيلاء إيران والأسد على شرق سورية يشكل توطئة لفشل سياسي. وإذا كان الناطق بلسان القيادة العسكرية الأميركية الوسطى يتحدث نيابة عن الولايات المتحدة، فإن هذا بالضبط هو ما نتجه إليه.
فردريك سي.هوف
صحيفة الغد