رغم تهديدات الرئيس الإيراني حسن روحاني بالانسحاب من الاتفاق النووي والعودة إلى تطوير البرنامج النووي، إلا أن ذلك لا يعني أن هذا الخيار أصبح الوحيد المتاح أمام طهران، وأنها لا ترغب في استمرار العمل بالاتفاق الذي توصلت إليه مع مجموعة “5+1” في 14 يوليو عام 2015.
وكان روحاني، خلال مشاركته في جلسة لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) لمناقشة برنامج حكومته الجديدة في 15 أغسطس الجاري، قد أشار إلى عودة الإدارة الأميركية إلى فرض العقوبات وإطلاق التهديدات، ملمحا إلى أن “إيران يمكن أن تعود إلى المربع الأول قبل المفاوضات النووية في غضون ساعات في ظروف أكثر تطورا”.
يطرح هذا النوع من التحذيرات دلالتين رئيسيتين: الأولى، أن إيران لديها نية لإعادة تطوير برنامجها النووي، خاصة أنها أصرت خلال المفاوضات التي أجريت مع القوى الدولية على الاحتفاظ بمختلف مكوّنات هذا البرنامج، بما يعني أن الاتفاق ساهم فقط في إبطاء تقدمه ولم يصل إلى درجة تفكيكه أو تجميده.
وقضى الاتفاق بمواصلة إيران عمليات تخصيب اليورانيوم حتى مستوى 3.5 بالمئة باستخدام أجهزة الطرد المركزي من الطراز الأول، وتخزينها الأجهزة الأكثر تطورا، وإجراء عمليات التخصيب في منشأة “ناتانز”، وإزالة قلب مفاعل “آراك” الذي ينتج المياه الثقيلة بدلا من إغلاقه، بالتوازي مع رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها من مجلس الأمن.
وعبّر علي أكبر صالحي، رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية وأحد أعضاء فريق التفاوض النووي عن هذه السياسة الإيرانية بقوله إن “إيران لم تهدم الجسور خلفها عندما توصلت إلى الاتفاق”، بما يعني أنها حرصت على الاحتفاظ بالبنية التحتية لبرنامجها النووي لحين استشراف ما سوف يؤول إليه الاتفاق في النهاية.
كما أن طهران تضع في اعتبارها أيضا أنها سوف تواصل تطوير برنامجها بشكل أكثر بعد 8 سنوات، ورفع البعض من القيود الي يفرضها الاتفاق في المرحلة الحالية.
أما الدلالة الثانية المهمة، فهي أن تطوير البرنامج النووي سوف يكون بشكل أكبر مما كان عليه قبل المفاوضات، ما يعني أن إيران لن تكتفي في هذه الحالة برفع مستوى التخصيب إلى نحو 20 بالمئة واستخدام أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورا، بل ربما تحاول الوصول إلى مستوى أعلى، وهو ما كلف به المرشد الأعلى علي خامنئي الحكومة في حالة ما إذا لم تلتزم الدول الأخرى بالاتفاق.
روحاني يسعى من خلال هذه التهديدات إلى توجيه رسائل لخصومه السياسيين في الداخل ولقوى دولية التي شاركت في المفاوضات النووية مع إيران
رسائل مزدوجة
يسعى روحاني من خلال هذه التهديدات إلى توجيه رسائل لخصومه السياسيين في الداخل ولقوى دولية التي شاركت في المفاوضات النووية مع إيران.
وكان لافتا خلال الفترة الأخيرة وتحديدا مع بداية ولايته الرئاسية الجديدة أنه حرص على التماهي نسبيا مع المواقف المتشددة للمحافظين الأصوليين، خاصة في ما يتعلق بالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة بسبب الصواريخ الباليستية والأدوار الخارجية التي تقوم بها إيران، من أجل تأكيد أنه لا يبتعد كثيرا عن تلك المواقف.
وانعكست مؤشرات ذلك في لقاءاته المتعددة مع قادة الحرس الثوري في الآونة الأخيرة وتأكيده أن حكومته تتولى دعم البرنامج الصاروخي، وتجنّبه اختيار شخصيات من تيار الإصلاحيين ضمن تشكيلته الحكومية، والذين يتهمهم المحافظون بالانضمام إلى ما يسمى بـ”تيار الفتنة” في إشارة إلى احتجاجات عام 2009.
ومن الملاحظ أن تهديدات روحاني جاءت بعد يومين فقط من إقرار البرلمان الإيراني قانونا لزيادة المخصصات المالية للبرنامج الصاروخي والعمليات الخارجية للحرس الثوري بمبلغ 520 مليون دولار.
لا يعود ذلك إلى رغبة الرئيس في تمرير تشكيلته الحكومية دون ضجيج فحسب، وإنما يرتبط أيضا بحرصه على تجنّب الصدام مبكرا مع المرشد والمحافظين حول الملفات الخلافية المتعددة، والذي يمكن أن يدفعهم إلى عرقلة برامجه السياسية والاقتصادية في ولايته الثانية والأخيرة.
لكن أدى ذلك إلى استياء حلفاء الرئيس الذي اعتبروه مؤشرا إلى تراجعه عن وعوده وعزوفه عن فتح من تلك الملفات، التي يحظى بعضها باهتمام خاص من جانبهم على غرار رفع الإقامة الجبرية عن قادة احتجاجات 2009، مير حسين موسوى ومهدي كروبي، الذي تصاعد الجدل مؤخرا حول وضعهما الصحي.
مخاطر الفشل
تكمن المفارقة في أن روحاني يحاول بتهديداته إقناع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدم الإقدام على رفع مستوى العقوبات المفروضة على إيران أو اتخاذ خطوات تصعيدية أكبر من خلال محاولة عرقلة الدور الإيراني في المنطقة، وهو التوجه الجديد الذي تتبناه إدارة ترامب، التي لا تحصر مشكلاتها مع إيران في الاتفاق النووي وإنما تشمل دعم إيران للإرهاب في المنطقة.
بعبارة أخرى، فإن روحاني يحاول توجيه رسالة لواشنطن تشي بأن مخاطر فشل الاتفاق سوف تكون وخيمة على مصالحها، باعتبار أن طهران سوف تتجه فورا إلى إعادة تشغيل عجلة برنامجها النووي من جديد، بعد أن نجحت في الحصول على نحو 40 مليار دولار من أموالها المجمدة في الخارج منذ الوصول للاتفاق.
روحاني يحاول توجيه رسالة تشي بأن مخاطر فشل الاتفاق النووي سوف تكون وخيمة على مصالح الولايات المتحدة
يحاول روحاني بالتوازي مع ذلك ممارسة ضغوط قوية على القوى الدولية الأخرى التي تدعم استمرار العمل بالاتفاق، خاصة الدول الأوروبية وروسيا والصين، من أجل التدخل لدى الإدارة الأميركية لإقناعها بعدم اتخاذ المزيد من الخطوات التي يمكن أن تؤثر على مواصلة تطبيقه.
يعوّل الرئيس في هذا السياق على المصالح الاقتصادية لتلك الدول التي لن تخاطر بخسارتها بعدم الضغط على واشنطن من أجل تغيير سياستها، مع ذلك، فإن هذه التهديدات لا تعني أن إيران في وارد التراجع عن العمل بالاتفاق النووي.
ومع التحفظات العديدة التي تبديها القيادة الإيرانية والمؤسسة العسكرية تجاهه، غير أنها ترى أن الاتفاق أنقذها من مواجهة عسكرية كانت محتملة مع واشنطن وأزمة اقتصادية خانقة، وحفظ لها برنامجها النووي في الوقت نفسه.
بالطبع، فإن إيران لن تغامر باتخاذ الخطوة الأولى في طريق الانسحاب من الاتفاق، على الرغم من تهديدات روحاني المعنوية، لأن ذلك يفرض عليها تداعيات سلبية عديدة، أهمها تحمّل المسؤولية الدولية عن فشل الصفقة، بشكل ربما يؤدي إلى إعادة فرض عقوبات دولية عليها بصورة أقوى من السابق، ويزيد من احتمالات تعرضها لضربة عسكرية تبدو في أمسّ الحاجة لتجنبها.
بعبارة أخرى، فإن إيران حريصة على إبقاء خيار الانسحاب على الطاولة وتأجيله إلى اللحظة الأخيرة التي لن يكون أمامها خيار سواه، وهى اللحظة التي تنسحب فيها الولايات المتحدة من الاتفاق أو تتخذ المزيد من الخطوات التصعيدية بشكل يصعب بعده استمرار العمل به.
وبذلك فان خيار الانسحاب من الاتفاق ليس قرارا سهلا بالنسبة إلى إدارة الرئيس دونالد ترامب، على غرار القرارات المشابهة الأخرى التي اتخذتها مثل الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، في ظل الدعم الذي تبديه الدول الأوروبية وروسيا والصين للاتفاق النووي مع إيران.
وترى الإدارة الأميركية الحالية أن خطوة من هذا النوع سوف تحمّلها مسؤولية دولية كبيرة بشأن فشل الصفقة، وربما يدفع ذلك بعض القوى إلى عرقلة فرض عقوبات أشد على إيران من داخل مجلس الأمن، بشكل يوجّه رسالة خاطئة لإيران، التي قد تتجه في تلك اللحظة نحو رفع مستوى قدراتها النووية من جديد، ودخول مرحلة تعيد طرح الهواجس الخاصة بوجود أغراض عسكرية لبرنامجها النووي، بل تأكيدها بجلاء.
الواضح أن سياسة عضّ الأصابع ستكون عنوانا رئيسيا للمواجهة السياسية المقبلة بين واشنطن وطهران، وسط حرص كل طرف على الاحتفاظ بأوراق ضغط حتى اللحظة الأخيرة التي ستكون فيها الساحة مفتوحة على أكثر من مسار، بما فيها الدخول في مواجهة أشد صعوبة بالمعنى الواسع لها.
محمد عباس ناجي
صحيفة العرب اللندنية