لا تقف التفسيرات في هذه الزيارة عند الخلافات بشأن رؤية الإدارة الأميركية “للعملية السلمية” في المنطقة بين مساعي إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وإدارة خلفه الرئيس دونالد ترامب، بل تمتد إلى الحديث عن تباينٍ في أسلوب إدارة الملفات الخارجية الأميركية بينهما. فالاضطراب الواقع بين الإدارة الرئاسية الحالية والمؤسسات الرسمية ساهم في إعطاء أهمية لدائرة “الثقة والولاء” والتي تتكون من مساعدي الرئيس ترامب ومستشاريه، حتى أضحى بعضهم يتمتع بصلاحيات وزراء، بحكم الأمر الواقع.
أعطى الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أهميةً لوزيري خارجيته، ففي الولاية الرئاسية الثانية حظي جون كيري بدورٍ بارزٍ في إدارة سياسته الخارجية وفي إدارة “العملية السلمية” في الشرق الأوسط تحديدًا، فحافظ على منصب مبعوث السلام في الشرق الأوسط شاغرًا طوال تلك الفترة. وعلى العكس من ذلك، فعلى الرغم من التخبط الذي ساد في منصب مبعوث السلام في الولاية الأولى، بتعيينه الديمقراطي جورج ميتشل، الذي وسمه بأنه “رجل المهمات” وصاحب المهارات “الخارقة” في التفاوض، وخليفته المؤقت ديفيد هيل، مساعد مادلين
أولبرايت السابق، وصولًا إلى مارتن إنديك الباحث السياسي البارز في معهد بروكينغز في واشنطن، إلا أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون حافظت على أهمية دورها في المنطقة. وهذا لا يعني نجاح إدارة إدارة أوباما ملف السلام في المنطقة، فحماسته وإصراره الدبلوماسي في الفترة الأولى، قابلهما انسحابٌ تدريجيٌ من المنطقة، وصولًا إلى انهزامٍ أمام عنادِ بنيامين نتنياهو مع نهاية ولايته الثانية، بتقديمه أكبر هدية أميركية في تاريخ العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، عندما رفع قيمة المساعدات العسكرية من 3.1 مليارات دولار إلى 3.8 مليارات دولار سنويًا، وعلى مدى عشر سنواتٍ تنتهي في العام 2028.
وفي المقابل، بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب البحث عن مقاربةٍ جديدةٍ لإدارة ملفاته الخارجية، وملف عملية السلام تحديدا، خارج صلاحيات وزير خارجيته ولأفرادٍ يشغلون مناصب استشارية، لا يمتلك بعضهم الخبرة والدراية الدبلوماسية. ففي إطار التطورات في المنطقة، عاد الحديث عن إرسال صهره كوشنر فاقد الخبرة السياسية إلى جانب طاقمه للمرة الثانية بعد الزيارة في يونيو/ حزيران الماضي، والذي صرّح أخيرا بشأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بأنه “قد لا يكون له حل، وأن الوضع قابل للانفجار، ولا أعرف ما إذا كان بالإمكان الحفاظ على الهدوء الراهن”، وقال “لا نريد درسا في التاريخ، فقد قرأنا ما يكفي من الكتب”.
وفي سياق متصل خارج إطار المنطقة، أثنى ترامب على ابنته ومساعدته، إيفانكا، خلال لقاء مجموعة العشرين، بعد جلوسها فترة وجيزة جنبًا إلى جنب مع قادة المجموعة لتناقش قضية التنمية الأفريقية، عندما غادر الرئيس القاعة لعقد اجتماعات فردية، وقبل الرئيس الأميركي دعوة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للزوجين المؤثرين داخل البيت الأبيض، إيفانكا وكوشنر لزيارة بكين، بصفة الأخير مُكلفا بإدارة العلاقات مع الصين إلى جانب ملف “العملية السلمية” في المنطقة. وفي مقابل ذلك، تماشى بمبدأ التوازن في العلاقة مع تدخلات المؤسسة الأمنية بصلاحياته، عندما قام بتعيين مستشاره للأمن القومي، هربرت ماكماستر، وأوكل إليه مهمات عديدة، أهمها إدارة العلاقة مع روسيا.
وبالعودة إلى زيارة كوشنر المنطقة، يبقى إرسال ترامب زوج ابنته وطاقمه للحديث حول “العملية السلمية” والتعديلات التي تطلبها الإدارة الإسرائيلية لاتفاق خفض التصعيد وتطورات الوضع في سورية والأزمة الخليجية، والتي عادةً يقوم بها وزير الخارجية، مؤشرًا جديدًا على حجم الاختلاف في المواقف بين الطرفين، بشأن بعض القضايا الخارجية، وإمعانًا جديدًا في تقييد صلاحيات الوزير ريكس تيلرسون، وهذا ما ظهر عندما رفض طلبه بتعيين أفرادٍ في وزارة الخارجية، إما لأنهم ديمقراطيون أو لانتقادهم سياسة ترامب في أثناء حملته الإنتخابية، وقد وصل تحجيم مطالب تيلرسون إلى الطلب عبر البيت الأبيض تقليل ميزانية وزارة الخارجية.
وفي إطار توضيح التضارب في طريقة إدارة الملفات الخارجية بين الإدارتين، فإن ترامب الذي يواجه أزمة داخلية تتعلق بقضية العلاقة مع روسيا خلال الحملة الانتخابية وقانون الرعاية الصحية وتصريحاته حول حادثة تشارلوتسفيل، يسعى إلى تثبيت مستشاريه في إدارة ملفاته الخارجية. وفيما يتعلق بالمنطقة، يسعى إلى تمكين كوشنر من الولاء، حيث يعرف أنه يستطيع أن يثق في صهره ليخدم جدول أعماله، على الرغم من معرفته أيضًا أن كوشنر لا يمكنه أن يقدم شيئًا لوزير خارجيته تيلرسون، إلا الاطلاع ومعرفة تفاصيل سرية في هذه الملفات الخارجية وإجراء مناقشات حسّاسة من دون تأثيرٍ من وزارة الخارجية. وهذا تطورٌ غيرُ مألوفٍ في البيت الأبيض.
لا تشكل عودة كوشنر وطاقمه إلى زيارة الشرق الأوسط اهتمامًا من الرئيس ترامب بإيجاد حلٍ عادلٍ، فشلت في إيجاده الإدارات الأميركية السابقة، ففاقد الإدارة والإرادة يحيط نفسه
بمستشارين ومساعدين يفتقدون ما يجب أن يمتلكوا ويمتلكون ما يجب أن يفقدوا. وتدل تصريحات كوشنر وطاقمه على ضعف المعرفة بالقضية الفلسطينية، والتماهي مع سياسات وممارسات صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يواجه مشكلات قانونية بقضايا فساد، والتقارب العلني المسبوق مع مساعي دول عربية في التطبيع مع إسرائيل، وتجريم حق الفلسطينيين بالمقاومة، والذي بات أمرًا واقعًا منذ أحداث المسجد الأقصى، وعلى لسان مسؤولين سعوديين وبحرينيين وتسريبات إماراتية.
ويأتي ذلك في ظل سلطة فلسطينية مهترئةٍ، ومتماهيةٍ مع مطالب الإدارة الأميركية، وتدور حول نفسها في حلٍ غير مُجدٍ إلا لمن هم داخل أسوار مقاطعة رام الله، وذلك لتحافظ على مصالحها، فقد بات جلّ اهتمامها اتخاذ خطواتٍ عقابية تجاه قطاع غزة، بدأت بحسم ما يزيد عن 30% من الرواتب وتقليص الكهرباء والقرار بإحالة 7000 موظف مدني للتقاعد من وزارتي الصحة والتعليم، وليس انتهاءً بإعادة رواتب أسرى الضفة الغربية واستثناء أسرى غزة.
هنا، يسود اعتقادٌ بأن رؤية ترامب الخارجية بنكهة “المال والأعمال”، والتي تشوبها الفوضى، نظرًا لإقالات عديدة، تسعى إلى تشكيل حكومةٍ خارجيةٍ، تتعدى دور وزير الخارجية، تبدأ من دائرة “الولاء والثقة” لمستشاريه ومساعديه، لذا لن يتوانى ترامب عن الاستغناء عن أي مستشار لا يحقق مصالحه. ويرى الرئيس الأميركي، بخصوص الشرق الأوسط، أن تعظيم مصالحه والاستفادة من ترتيبات “العملية السلمية” يكون عبر عقد صفقةٍ مع الدول العربية الساعية إلى التطبيع، فهذه الدول تعتبر أن التطبيع مع إسرائيل والترويج “للعلمانية السلطوية” ودعم أنظمة الثورات المضادة والتحالف مع ترامب سيُشكل لها طوق النجاة لمواجهة طوفان تحدياتها. هذا يفرض على الشعوب العربية مقاومة هذه المحاولات، واستمرار السعي إلى رفض هذه المساعي، وعلى الفلسطينيين رفض الخنوع لقياداتهم وفصائلهم، والنضال لتغيير الواقع الراهن.