أثناء التجوال في الوطن الأسير تسمع عشرات القصص عن معاناة عائلات دمرت بيوتها وشردت في العراء، وعن قرى تحاصر وعن أمهات ودعن الشهداء بالزغاريد وعن عائلات يقبع ثلاثة أفراد منها في سجون الاحتلال.
تود لو أن الوقت يسمح لنقل معاناة العديد من الأفراد والأسر والمجتمعات. ولكثرة ما وصل إلى مسامعي مثل هذه الحكايات الموجعة، اخترت أن أطل بنفسي على حكايتين واحدة تتعلق بأم شجاعة فقدت أولادها الثلاثة والرابع يعيش ومعه إصابته الدائمة. والثانية لبلدة كوبر غربي رام الله التي تعرضت لحصار دام أكثر من ثلاثة أسابيع بسبب عمل فردي، في ما نسميه في القانون الدولي عقوبات جماعية، تعتبر جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. هذان نموذجان من المعاناة التي يعيشها هذا الشعب الصامد الذي يدافع عن شرف الأمة من محيطها إلى خليجها ضد عدو لخص محمود درويش عقيدته في التعامل مع العرب: «أقتل كي تكون».
خنساء فلسطين
هل من ظلم أشد من هذا الظلم؟ كيف لي أن أصدق أن للعدل مكانا في هذا الكون عندما تجلس مع أم فقدت أولادها الثلاثة والرابع بقرت بطنه عدة رصاصات بعضها ما زال مستقرا في جسمه. ومع هذا بقيت أم تامر، فاطمة الكسبة، واقفة على رجليها شامخة كنخلة، قوية كالفولاذ. أمام العدو تضع حزنها وقهرها تحت أخمصيها، ولكنها تذرف الدمع المدرار عندما تبدأ بسرد قصص استشهاد أولادها الثلاثة، الذين ارتقوا جميعا وأعمارهم دون سن الثامنة عشرة، أي أنهم أطفال، وقتل الطفل جريمة في كل دساتير الدنيا إلا في الدولة التي لا يوجد فيها دستور أصلا.
بعد المرور في عدد من أزقة المخيم المطلية بالشعارات الثورية وصور الشهداء وأعلام الفصائل جميعها، تصل إلى بيت متواضع تسكنه فاطمة، اللاجئة أصلا من بلدة برفيليا قضاء الرملة هي وزوجها سامي الكسبة، وابنها المصاب تامر وابنتها الصغيرة. في صحن البيت يوجد ملصق كبير يضم صورتها وصور أولادها الشهداء الثلاثة وكتب عليه: «خنساء فلسطين – أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهدا».
وتبدأ الرواية كما ترجمتها دموع الوالدة الصابرة وزوجها سامي، الذي كان يساعدها في ملء بعض الفراغات: ياسر استشهد في شهر رمضان بتاريخ 16 ديسمبر 2001 وكان عمره 11 سنة فقط، وسامر لحق به بعد أربعين يوما فقط بتاريخ 25 يناير 2002 وكان عمره 15 سنة والثالث محمد استشهد في رمضان أيضا بتاريخ 3 يوليو 2015 وكان عمره 17 سنة. استشهد ياسر وسامر أثناء المظاهرات الاحتجاجية العادية على حصار الرئيس المرحوم ياسر عرفات. صلى ياسر صلاة العصر وامتشق روح التحدي التي يعرفها أبناء هذا المخيم، الأكثر عطاء وصمودا ومواجهات وشهداء، ونزلوا إلى حاجز قلنديا اللعين، الذي أذاق المخيم عذابات لا تحصر. أطلقت النار على ياسر من مسافة صفر وكانت إصابته في الرأس مباشرة، وبقي في المستشفى ثمانية أيام أسلم بعدها الروح لخالقها. أحتسبه عند الله شهيدا مع الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن ذلك رفيقا. سامر خرج أيضا للمشاركة في مظاهرة احتجاج سلمية ضد حصار الرئيس. أطلق الجندي عليه النار من داخل سيارة الجيب. وكان هناك تصوير لعملية إطلاق النار المتعمد على طفل دون السادسة عشرة. وهل يمكن لمثل هذا الطفل أن يشكل خطرا على جيب مسلح مصفح مليء بالجنود المدججين بالسلاح؟ أطلقت عليه زخة من الكريات المعدنية على الرأس مثل أخيه فاستشهد بعد أربعين يوما كان في غيبوبة دائمة. أما محمد الذي كان لا يزيد عن الثلاث سنوات عند استشهاد أخويه فقد تسلل في رمضان 2014 إلى الأقصى وصلى فيه وأصيب بعيار في قدمه. وفي رمضان 2015 خرج بعد صلاة الجمعة للمشاركة في مظاهرة ضد اقتحامات المسجد الأقصى. كان واحدا من مجموعة الكشافة لتنظيم حركة السير في الشارع الرئيسي المكتظ دائما. كان متأثرا بما شاهده من حقارة الضابط الذي كان يدفع الناس ويهينهم ويهددهم بسلاحه. التقط حجرا صغيرا وألقاه على الضابط، لكنه لم يصبه ولم يؤذ أحدا. فترجل الضابط ومعه جنديان فاطلق ثلاثتهم زخات من الرصاص عليه من الأمام والخلف من نقطة الصفر. ورغم أنه استشهد فورا تقدم الضابط الحاقد من جثته وركله برجله وداس عليه. وللعلم فكل ذلك موثق بالصور التي التقطت لعملية الإعدام المتعمد. رواية الضابط في المحكمة أن الشاب حاول أن يقفز من فوق الجدار لكن الصور كذبته بطريقة لا مجال للتشكيك فيها. لكن هذا لا يعني شيئا عند حكومة تقف مع جنودها القتلة مهما فعلوا.
وأما تامر أكبر أولاد أم تامر فقد أطلقت عليه النار في 2 يونيو 2007 وكان يعمل في سوبر ماركت. شاهدوا الجيش يقتحم المخيم. قرر صاحب المحل أن يغلقه ويبقى جميع العمال في الداخل حتى ينتهي الاقتحام. انتظروا عدة ساعات فظنوا أن الاقتحام انتهى. فتح صاحب السوبر ماركت الأبواب. وبدون مقدمات أطلقوا النار على تامر وهو أمام المحل فاخترقت الرصاصات بطنه فحمل إلى المستشفى وخضع للعديد من العمليات، كان آخرها قبل أيام فقد قطعت أجزاء من أمعائه وما زال يعيش على الأدوية والمسكنات ومتابعة العلاج بعد عشر سنوات من الحادثة. تقدم والد تامر بشكوى للمحاكم الإسرائيلية ولم يستفد شيئا، بل على العكس وجهوا له تهما أصلا غير موجودة وغرموه 20 ألف شيقل. «اللهم إمنحنا الصبر يا الله» أنهت الخنساء روايتها الموجعة والدموع لم تجف من عينيها. اكتشفت أنا ومرافقيّ أننا أيضا غرقنا في الدموع دون أن ندري.
كوبر والعقوبات الجماعية
يوم الخميس العاشر من أغسطس ذهبت مع وفد صغير مكون من الدكتور مصطفى البرغوثي، رئيس المبادرة الفلسطيني واثنين آخرين إلى بلدة كوبر غربي رام الله للاطلاع على أحوال البلدة بعد ثلاثة أسابيع متواصلة من الحصار والاقتحامات. فقد قام الشاب عمر عبد الجليل العبد (19 سنة) يوم 21 يوليو، متأثرا بأحداث الأقصى وتسلل إلى مستوطنة حلميش التي تبعد نحو 5 كيلومترات عن بيت المنفذ، وقتل ثلاثة مستوطنين. العملية هزت الكيان الصهيوني من جذوره ولقيت إدانة دولية من أكثر دول العالم. ولكن ليس هذا هو الجانب الذي يعنيني، بل ما حصل لأبناء البلدة الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما فعل شاب ليس له في السياسة نصيب، ولم يكن منتميا لأي تنظيم، ولم يكن مشاركا في أي نشاط كما أخبرني بذلك أخوه خالد الذي قال إنه عرف عن الحادث من الأخبار، وفوجئ مثله مثل كافة أبناء البلدة وقال إن أخاه بعد صلاة العصر قال لأخيه إنه ذاهب للقاء أصدقائه.
والدة عمر عندما عرفت أن ابنها ما زال حيا وأن إصاباته خفيفة زغردت ووزعت الحلوى، فتم اعتقالها فورا وغرمت مبلغ عشرة آلاف شيقل (تقريبا 2770 دولارا أمريكيا). ووقعت على تعهد بألا تكلم أي صحافي وإلا ستدفع عشرة آلاف شيقل أخرى. اعتقل الوالد والأخ الأكبر منذ البداية ثم عادوا بعد أيام واعتقلوا الوالدة مرة أخرى وابنها وعم عمر الصحافي الفلسطيني إبراهيم العبد. يوم 15 أغسطس رجعوا للبيت الذي كانوا يفتشونه أحيانا ثلاث مرات في اليوم، ومعهم جرافتان ورتل من الجنود يقدرون بخمسين فردا وفجروا البيت. شرح لنا رئيس المجلس البلدي السيد أبو العز كيف تقوم يوميا قوات الاحتلال بتجريف الطريق الرئيس وإغلاق كافة منافذ البلدة والبالغ عدد سكانها نحو 6000 مواطن «لكن الشباب في البلدة وعددا من المتطوعين الأجانب يشمرون عن سواعدهم، وما هي إلا ساعة أو ساعتان وإذا بالطريق تفتح. تعود قوات الاحتلال ومعها الجرافات فيسدون الشارع بالصخور الكبيرة وما يلبث تجمع الشباب إلا أن يفتحها مرة ثانية». وقال أبو العز إن القرية تتعرض منذ الحادث إلى الاقتحامات الليلية والمداهمات والاعتقالات، ووصل عدد الجرحى ستة. لقد وقف ابناء البلدة وقفة رجل واحد تماشيا مع تراثهم النضالي العظيم، الذي أفرز إلى الساحة الفلسطينية قادة كبارا من أمثال مروان البرغوثي، الذي يحظى بإجماع وطني قل نظيره، والأسير الأقدم في السجون الإسرائيلية الشيخ نائل البرغوثي ومئات المناضلين والأسرى والمحررين والشهداء والجرحى.
التقينا أثناء التجول في القرية بعدد من المتطوعين الأجانب من أيرلندا وكندا وأستراليا والولايات المتحدة. قال واحد منهم يدعى جون من أيرلندا: «هناك حادث نفذ عن طريق شخص واحد. لكن تمت معاقبة بلدة بكامل سكانها الستة آلاف، من بينهم 2000 طفل وهذا شيء غير مقبول، ويجب ألا يتم التسامح معه من قبل أية منظمة دولية. على الحكومات أن تدين العقوبات الجماعية التي تعتبر انتهاكا للقانون الدولي الإنساني، فليس من حق أحد أن يعاقب السكان جميعهم لفعلة شخص واحد. نحن هنا كجزء من حركة تضامن عالمية مع الشعب الفلسطيني جاءت تقدم نموذحا عمليا للوقوف مع الشعب الفلسطيني».
لعل صوت هذا الأيرلندي يصل إلى مسامع الشباب العربي في كل مكان ويشعرهم على الأقل بالتقصير والذنب، إن لم يدفعهم للعمل والتضامن مع هذا الشعب المظلوم والعيي على الكسر والاستسلام.
د.عبدالحميد صيام
صحيفة القدس العربي