يُذكّرنا رحيل الفنانة فدوى سليمان بالتناقض بين دور المرأة السورية في الثورة، الاستثنائي بجميع المعايير، وتغييبها عن مؤسساتها. ويذكّرنا أيضاً بأنهن ذلك القطاع من المجتمع السوري الذي تخطت أدواره النضال في سبيل التحرّر السياسي من الاستبداد إلى النضال من أجل تحرّر المجتمع والإنسان، كما يتجسّد رمزياً وواقعياً في نساءٍ حملن معناه الشامل والعميق في وعيهن وأفعالهن، ووضعن حياتهن وإبداعاتهن في خدمته، بما هو جوهر ثورة تحرر إنساني لن تفيد منه النساء وحدهن، وإنما يحمل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية إلى كل سوري وسورية، بجهود نساء كثيرات، مثل فدوى ورزان زيتونة وسميرة الخليل وميه الرحبي وسمر يزبك ومي سكاف وسعاد خبيه وفاتن رجب وحسنه الحريري، ومئات آلاف النساء اللواتي غدون رموز تمرد تاريخي، أسهمن في إنضاج أجوائه، وشاركن فيه بكل فدائية وحب للإنسان، وتماهين معه، حتى صارت أسماؤهن تذكّر به، وأضفت ريادتهن له طابعاً سلمياً ومجتمعياً، قاومت أغانيه وأهازيجه ودبكاته رصاص الاستبداد، ونشرت فوقه روحاً إنسانية حملته إلى كل شبر من أرض سورية، وأضفت عليه هوية من طبعنه بطابع حبهن الحميم والحنون للوطن والناس، جميع الناس، فلم يكن ما فعلنه أقل مما فعلته مثيلاتهن ممن أسهمن في صنع ثوراتٍ اكتسبت دلالات كونية كالفرنسية والروسية.
وضعت فدوى الثورة في قلبها وعقلها، فاحتلت قلوب وعقول سوريين بلا عدد، أطلقوا شهقة حزن مؤلمة هزّت كيانهم، عندما أعلن نبأ رحيلها عنهم، فكانت ردة فعلهم الحزينة دليلاً إضافياً على الأثر العميق الذي تركته أمثولتها من عاطفةٍ لازمت ضمائرهم، وعبرت عما بلغته رمزيتها عندهم. آمنت أن الحرية لا تكون لأحد إذا لم تكن لكل سورية وسوري، وأنها بغير ذلك تفقد هويتها. وقاتلت، ليس لتنال حرّيتها بما هي شأن فردي أو شخصي، بل لإيمانها أنها لن تكون حرة إن لم تكرّس وجودها لحرية الآخرين، وأن ثورتها لن تستحق اسمها إذا لم تكن زلزالاً يتجاوز إسقاط الاستبداد السياسي إلى اقتلاع جذره: مجتمع الامتيازات والإقصاء والأحكام المسبقة والتمييز بين المرأة والرجل وبين الطبقات والأديان والمذاهب.. إلخ. ولم يحصّن نفسه بتحرّر الفرد وحمايته من سقوط جديد في عالمٍ ستضيع تضحيات السوريين، إن هم انتصروا على الأسدية ولم يهزموه هو أيضاً. وفي منظور فدوى للثورة، كان أي سوري يساوي أي سوري آخر، وكان الجميع يتعرّفون بمطلبهم: الحرية بمعناها الأشمل والأعمق الذي ينقل المجتمع من واقع موروث مخالف للطبيعة الإنسانية إلى واقع طبيعي/ إنساني من صنع بشر أحرار، مثلها.
رحلت فدوى، لكن أفكارها التي تخطت المألوف لم ولن ترحل، ومثلها أمثولتها الشخصية، وفكرة الحرية التي ألهمتها وتلهم السوريات مطلباً ينبع من فطرتهن التي تدفعهن إلى المطالبة بحريةٍ شاملةٍ تتخطى السياسة، هي وحدها التي تحميهن من مجتمعٍ أمعن في اضطهادهن على مر السنين، وجعل من المحال بالنسبة لهن القبول بحرية مجتزأة أو بنصف حرية، وكيف يقبلن إن كانت أمثولة فدوى وحياتها تخبرهن أن حريتهن ستكون في متناول أيديهن، بقدر ما تكون رهان حياتهن، وتجسيداً لإرادتهن التي لا يجوز أن يسمحن، بعد الثورة، بتغييبها وراء إراداتٍ حجبتها، كتمت أنفاس النساء، وقوّضت وجودهن الإنساني النبيل وحساسيتهن الروحية المفعمة بفيض من الإنسانية.
رحلت فدوى، بعد أن أثبتت بالقول والفعل أن الحرية والمرأة صنوان، وأنها تستطيع أن تتقدّم صفوف من يضحون لأجلهما، كما ضحت هي، وينشطون كما نشطت هي، ويثقون، كما وثقت، بدورها في نيلها باعتبارها حقاً من حقوقها. أبعد هذا، تغيب المرأة السورية عن حريتها، وتغيب فدوى من حياة المرأة السورية ووجدانها؟ وهل يستطيع الموت تغييب من جعلت حياتها شأناً عاماً، يتداخل ويتفاعل مع حياة الملايين من نساء منحت فدوى قضيتهن، قضيتها، عمرها، وجعلتها معنى وجودها واختبار جدارتها، وتعاملت معها بنكران ذاتٍ وسخاء إنساني سيبقي سيرتها في أنصع صفحات تاريخ الحرية.
لم تكن فدوى طيفاً عبر حياتنا ثم غاب عن أعيننا، بل كانت شجرة سنديان سورية ضربت جذورها بعمق في وطنها ووعي ناسه. لذلك سيتفيأ زماننا الآتي ظلها، لكونها من صنّاعه، ولكونه كان وسيبقى زمانها.
ميشيل كيلو
صحيفة العربي الجديد