تكمن الأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط في موقعه الجغرافي؛ فهو ملتقى قارات العالم القديم ويشرف على أهم البحار العالمية (بحر قزوين، البحر الأسود، البحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر، الخليج العربي، وبحر العرب)، كما يتحكم في أهم الممرات المائية (مضيق جبل طارق، قناة السويس، مضيق البسفور، مضيق الدردنيل، ومضيق باب المندب، ومضيق هرمز).
فيما تكمن أهمية الشرق الأوسط الاقتصادية في مخزوناته من النفط والغاز التي تقدر بـ40% من الاحتياطي العالمي من النفط، و39% من الاحتياطي العالمي من الغاز، وذلك قبل الاكتشافات الأخيرة في قطر.
“تكمن أهمية الشرق الأوسط الاقتصادية في مخزوناته من النفط والغاز التي تقدر بـ40% من الاحتياطي العالمي من النفط، و39% من الاحتياطي العالمي من الغاز، وذلك قبل الاكتشافات الأخيرة في قطر”
وقد فرضت ضغوط الجغرافيا على روسيا الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط، وبما أن روسيا تشغل الحيّز الأكبر من منطقة أوراسيا؛ فإن الشرق الأوسط يشكل البوابة الجنوبية لها، والفاصل الجغرافي بينها وبين المياه الدافئة.
ولذا سعت روسيا القيصرية لفرض وجودها الفاعل في المنطقة والوصول إلى المياه الدافئة، ومن أجل ذلك شنت حروبا عدّة ضد الدولتين الفارسية (1809 و1813 و1826) والعثمانية (1828 و1829 و1853).
وبعد ذلك سعى الاتحاد السوفياتي للمحافظة على تحقيق ذلك الحلم؛ فحقق في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين وجوداً عسكرياً في كل من مصر وإثيوبيا والصومال واليمن الجنوبي والجمهورية العربية اليمنية والسودان وليبيا والجزائر والعراق، بالإضافة إلى سوريا التي توجد فيها القاعدة البحرية الروسية الأهم في طرطوس على ساحل البحر الأبيض.
بدأ النفوذ السوفياتي يتقلص تدريجياً مع بداية أزمته الاقتصادية التي كانت أحد أسباب انحلال الاتحاد، حيث خسر معظم مناطق نفوذه، وعندما ورثته روسيا لم يكن تبقى من نفوذه إلا سوريا بصفة رئيسية والجزائر بدرجة ثانوية.
محددات أهمية المنطقة لروسيا
لم تتخلّ روسيا -تحت قيادة فلاديمير بوتين– عن السعي لتحقيق حلم موسكو المستمر بالحضور العسكري الدائم في الشرق الأوسط؛ الذي يمكن تحديد أهميته بالنسبة لروسيا بوتين بعناوين: الأهمية السياسية والأهمية الاقتصادية والأهمية الإستراتيجية.
“تأتي الأهمية السياسية على قمة المصالح الروسية في الشرق الأوسط، فمن أهداف روسيا مزاحمة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة رغم معرفتها بأن المعادلة الاقتصادية ليست في صالحها، ولكنها استفادت من تردد إدارة أوباما في اتخاذ قرارات حاسمة في الأزمات التي تعصف بالمنطقة؛ فسارعت إلى ملء الفراغ الناشئ في البعدين السياسي والعسكري”
تأتي الأهمية السياسية على قمة المصالح الروسية في الشرق الأوسط، فمن أهداف روسيا مزاحمة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة رغم معرفتها بأن المعادلة الاقتصادية ليست في صالحها، ولكنها استفادت من تردد إدارة أوباما في اتخاذ قرارات حاسمة في الأزمات التي تعصف بالمنطقة؛ فسارعت إلى ملء الفراغ الناشئ في البعدين السياسي والعسكري.
وقد جعل ذلك أميركا تجلس في المقعد الخلفي تاركة مقود القيادة لروسيا، وهذا سيمكن روسيا من توظيف نجاحاتها في الشرق الأوسط -وفي سوريا تحديداً- للمقايضة على ملفات قد تكون أكثر أهمية لروسيا، ومنها الأزمة الأوكرانية وجزيرة القرم، والدرع الصاروخي، وتمدد حلف شمال الأطلسي باتجاه الحدود الروسية.
وفي مجال الأهمية الاقتصادية للشرق الأوسط؛ تسعى روسيا لمنع أميركا والاتحاد الأوروبي من الاتصال مع أنابيب الشرق بصورة مباشرة، لأن حدوث ذلك سيقلل من أهمية الغاز والنفط الروسييْن، وسيؤدي لانخفاض الأسعار في السوق العالمية مما سيُلحق الضرر بالاقتصاد الروسي.
كما أن روسيا تعمل على تنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية وإيران وتركيا، والحصول على معاملة تفضيلية وجذب الاستثمارات العربية إليها، خاصة الخليجية منها التي ستساعد على إنعاش الاقتصاد الروسي الذي يعاني من بعض الأزمات جراء انخفاض أسعار النفط والغاز.
وأما الأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط؛ فإنها تتجلى في مواصلة روسيا تحركاتها لاستعادة تأثيرها ونفوذها هناك، في إطار إستراتجية طويلة الأمد لاستعادة مكانتها عالمياً عبر تشكيل تحالفات إقليمية ودولية جديدة، وزيادة وجودها العسكري وتدعيم علاقاتها الاقتصادية في أكثر من موقع بهذه المنطقة الحيوية.
فمنذ مطلع عام 2005، زادت روسيا بشكل ملحوظ اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، وتوجت ذلك بزيارة الرئيس بوتين للمنطقة 2007 التي اُعتبِرت بداية لتحسين العلاقات مع دولها، وقد أشارت دراسات إلى وجود مبادئ توجه سياسة بوتين مع هذه الدول، ومنها المكانة الدولية والعلاقات التجارية والاستقرار الإقليمي.
كما يجب أن يكون لروسيا دور فاعل بصفتها قوة عالمية، مع ضرورة عدم السماح للولايات المتحدة بمطلق الهيمنة على المنطقة بمفردها، ولذا نجدها سعت في إنشاء تحالفات صُلبة مع عدد من الفاعلين الإقليميين البعيدين عن الفلك الأميركي مثل إيران وسوريا، وعقد اتفاقات الضرورة لتنحية الخلافات التاريخية مع الدول التي تدور في الفلك الأميركي مثل دول الخليج العربي.
دلالات صفقات السلاح الروسي
تجسد التقارب الروسي مع دول الفلك الأميركي في البعدين الاقتصادي والعسكري من خلال عقد العديد من صفقات الأسلحة، وساعدها على ذلك أن الدول العربية تحتل المركز الأول عالمياً في عقد صفقات التسليح وشراء الأسلحة، وكذلك الترددُ الأميركي في تلبية بعض طلبات تلك الدول.
استحوذت أميركا تاريخياً على حصة الأسد في تلك التجارة الرابحة، إلا أن روسيا استطاعت أن تكسر تلك القاعدة خاصة في الفترة ما بين عاميْ 2006 و2010، حيث بلغت الحصة الأميركية 34% فيما احتلت روسيا المرتبة الثانية بحصة بلغت 25% من التجارة العالمية في السلاح.
“سيبقى النفوذ الروسي محدوداً في منطقة الشرق الأوسط التي لا تمثل -رغم أهميتها الإسترتيجية- الأولوية القصوى لروسيا، وستبقى التساؤلات قائمة بشأن استطاعة روسيا ترجمة نجاحاتها إلى مكتسبات، وهل روسيا قادرة على تحمل كلفتها في كافة الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية لحماية حلفائها مثلما تفعل الولايات المتحدة الأميركية؟”
كما تمكنت روسيا من عقد العديد من الصفقات العسكرية مع الدول العربية (السعودية، الإمارات، قطر، سلطنة عُمان، الكويت، الجزائر، ومصر) بلغت عشرات المليارات من الدولارات. ورغم أهمية البعد المادي لهذه الصفات التسليحية فإن أهميتها العظمى قد تتجاوز ذلك إلى نوع من التعاون العسكري، ووجود الخبراء العسكريون الروس في تلك الدول ولو لفترات محدودة.
كما أن استخدام أسلحة جديدة سيُجبر المخططين العسكريين على إجراء تعديلات هامة على العقيدة القتالية للجيش، بما يتناسب مع خصائص ومميزات تلك الأسلحة والمهام القتالية التي ستستخدم فيها، وستكون مستنبطةً من العقيدة القتالية للجيش الروسي، وذلك يعني أن صفقات الأسلحة المكثفة ليست عملية تجارية ربحية فقط، بل هي عملية تعاون قد تمتد آثاره إلى أبعاد أُخرى.
ومن هنا نجد أن التوجه الروسي نحو الشرق الأوسط يتعلق بالشأن الروسي الداخلي، كما يتعلق برؤية موسكو للمنطقةومنظومة مصالحها فيها، إذ تتوجس روسيا خيفةً من صعود الحركات الإسلامية التي قد تنتقل إلى المناطق الانفصالية في شمال القوقاز.
هذا فضلاً عن أن استقرار الشرق الأوسط يضمن استقرار حدود روسيا الجنوبية، وكل ذلك يساعدها في فكّ العزلة الدولية التي فُرضت عليها بعد الأزمة الأوكرانية، ويمكّنها من تقديم أوراق اعتمادها كقوة فاعلة وقادرة على حل الأزمات الأكثر تعقيداً.
ويبقى الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط ليس ذا أهمية حصرية من الناحية الجيوسياسية، وحتى التدخل العسكري الروسي في المنطقة لن يغير مسار اللعبة على المدى الطويل، ولن يشكل تحدياً إستراتيجياً للولايات المتحدة التي لا تزال تتحكم في قواعد النظام الإقليمي بالشرق الأوسط، وهذا ما خلص إليه ميكاييل نايتس الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط.
ولذلك سيبقى النفوذ الروسي محدوداً في منطقة الشرق الأوسط التي لا تمثل -رغم أهميتها الإسترتيجية لديها- الأولوية القصوى لروسيا، وستبقى التساؤلات قائمة بشأن استطاعة روسيا ترجمة نجاحاتها إلى مكتسبات، وهل روسيا قادرة على تحمل كلفتها في كافة الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية لحماية حلفائها مثلما تفعل الولايات المتحدة الأميركية؟
فايز الدويري
الجزيرة