يمكن وصف فوز اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو في الانتخابات المبكرة التي جرت الثلاثاء الماضي بزلزال سياسي. لقد كان فوز نتنياهو مفاجئا ودراماتيكيا، ليس لأنه جاء بعكس كل التوقعات فقط، بل أيضا لأنه لم يحدث في تاريخ إسرائيل أن توحدت النخب الأمنية والثقافية والإعلامية والفنية في جهد منظم وواسع لإفشال رئيس وزراء، كما توحدت ضد نتنياهو عشية هذه الانتخابات.
لقد وجهت هذه النخب المعتبرة قائمة طويلة من الاتهامات ضد نتنياهو تضمن في الأوضاع الطبيعية نزع الشرعية عن حقه في مواصلة قيادة الكيان الصهيوني، سيما وأن الذين لعبوا الدور الأساس في الحملة ضده كانوا تحديدا قادة جيش واستخبارات من أولئك الذين ينظر إليهم كأصحاب “إنجازات عسكرية كبيرة”.
فقد تأطر المئات من الجنرالات المتقاعدين، وعدد كبير من القادة السابقين في جهازي المخابرات الداخلية “الشاباك” و”الموساد” في حملات لـ “توعية” الجمهور الإسرائيلي بـ “مخاطر” بقاء نتنياهو في سدة الحكم، وتصوير حكمه على أنه “خطر مباشر على الأمن القومي الإسرائيلي”.
وقد وصل الأمر برئيس الموساد السابق مئير دغان، الذي يوصف بأنه “بطل إسرائيل” بسبب سجله الإجرامي الضخم ضد الفلسطينيين والعرب، إلى حد الإجهاش بالبكاء خلال إلقائه كلمة في مهرجان نظم في تل أبيب، وهو يحاول إقناع الرأي العام الإسرائيلي بعدم منح نتنياهو الفرصة “لكي لا يقضي على المشروع الصهيوني”، على حد تعبيره.
بماذا اتهموا نتنياهو؟
لقد اتهمت المعارضة والنخب نتنياهو بافتقاده المؤهلات القيادية التي تجعله قادرا على مواجهة التحديات التي تعصف بإسرائيل، وأن كل ما يعنيه هو ضمان مستقبله السياسي وبقاؤه في ديوان رئيس الحكومة.
فقد تم تحميله المسؤولية عن الفشل في الحرب على غزة وعجزه عن “ردع” حركة حماس، مع العلم أن هذا الاتهام تم توجيهه له من قبل شركائه في اليمين، سيما وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان. واتهم نتنياهو بأنه المسؤول المباشر عن تعاظم المشروع النووي الإيراني بشكل كبير، حيث زعمت النخب الأمنية، التي سبق لها أن عملت مع نتنياهو، أنه خلال السنوات الست الأخيرة من حكم الرجل تعاظم المشروع النووي الإيراني خمس مرات.
والأكثر من ذلك، فقد تم تحميل نتنياهو المسؤولية عن الأزمة غير المسبوقة في العلاقات مع الولايات المتحدة، الحليف الرئيس لإسرائيل، مع العلم أن رئيس الوزراء الليكودي الأسبق إسحاق شامير فشل في انتخابات 1992 بعد اتهامه بتخريب العلاقات مع واشنطن.
في الوقت ذاته، فقد زخرت وسائل الإعلام بقصص وروايات حول مظاهر الفساد في بيت نتنياهو، سيما تلاعب زوجته سارة في الأموال العامة المخصصة للمقر الرسمي للعائلة، ناهيك عن إيراد الكثير من الأدلة على تدخلها في شؤون الحكم.
وقد كشف الصحافي بن كاسبيت أن نتنياهو يسمح لزوجته بحضور لقاءاته مع قادة الاستخبارات عندما يتوجهون لبيته لإطلاعه على نتائج عمليات سرية نفذت خلف الحدود للتو. من هنا، فإن الشعار الوحيد الذي رفعته المعارضة والنخب كان “إلا بيبي”، أي كل نتيجة تسفر عنها الانتخابات ستكون في صالح إسرائيل إلا بقاء نتنياهو في الحكم.
لماذا فاز نتنياهو؟
لقد تمكن نتنياهو من الفوز بعكس كل التوقعات ورغم الحملات العاتية التي نظمت ضده، لأن المجتمع الإسرائيلي ببساطة ينجرف نحو اليمين، وهذا ما جعل قطاعات واسعة من هذا المجتمع تتقبل الخط الدعائي الذي عكف عليه نتنياهو، والذي شدد فيه على أن شعار “إلا بيبي” يهدف إلى تتويج حكومة يسارية بدعم فلسطينيي 48، متهما جهات عربية بضخ أموال طائلة من أجل دفع فلسطينيي 48 للتصويت بكثافة.
إن نتنياهو، الذي يدرك الدوافع العنصرية التي تحرك الجمهور الإسرائيلي، فطن لاستثمارها بشكل مكثف. وقد خاطب الجمهور اليهودي قائلا “استيقظوا، العرب (يقصد فلسطينيي 48) يندفعون كالبركان إلى صناديق الاقتراع، هل تقبلون أن يتم إسقاطي لتتشكل حكومة يسار بدعم العرب لتتنازل عن القدس وتفرط بحقنا الوطني في هذه البلاد”.
وقد استغل نتنياهو بعض التصريحات التي صدرت عن بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية الذين أكدوا رغبتهم في فوز اليسار الصهيوني، وصاغ شعارا عنصريا دغدغ مشاعر الأغلبية اليهودية، قائلا “إن ما يخدم الفلسطينيين لا يمكن أن يخدم اليهود”. وقد أوجز الصحافي الإسرائيلي المخضرم يوسي ميلمان عندما كتب على حسابه على تويتر، بعيد ساعات من إعلان النتائج الصادمة له، بأنه يتوجب الإقرار بأن المجتمع الإسرائيلي لن يقبل إلا بحكم اليمين.
وقد برعت حملة نتنياهو في تحويل خلافه مع الإدارة الأميركية بشأن الملف النووي الإيراني إلى ورقة رابحة في مواجهة خصومه، حيث زعم مقربو نتنياهو أكثر من مرة أن أوباما افتعل الأزمة من أجل الإضرار بفرص نتنياهو بالفوز. وقد اتهم فريق نتنياهو يهودا أميركيين أثرياء على علاقة بالحزب الديمقراطي الأميركي بتقديم دعم مالي لتمويل الحملات الانتخابية لخصومه.
ويمكن القول إن نتنياهو اتبع إستراتيجية دعائية مريحة ومؤثرة في الوقت ذاته. فقد تجنب تفنيد الاتهامات التي وجهت له، لأنه يعي أنه من الصعب دحض معظمها، لكنه بدلا من ذلك، اختار أن يشكك في دوافع الذين وجهوا هذه الاتهامات، ونجح في تصويرهم على أنهم “طابور خامس” يتعاون مع أعداء إسرائيل.
من ناحية ثانية، صحيح أن جميع استطلاعات التي أجريت قبل الانتخابات قد منحت “المعسكر الصهيوني” تفوقا على “الليكود”، لكنها في الوقت ذاته دللت على أن أغلبية الجمهور الإسرائيلي ترى في نتنياهو الشخص الأكثر أهلية لرئاسة الحكومة، ولم يحدث أن دلت نتائج استطلاع رأي على غير ذلك. وهذا يعني أن الجمهور الإسرائيلي وحتى وهو مستاء من أداء حكومات الليكود، إلا أنه لم ير أن هناك بديلا أفضل من نتنياهو كمرشح لرئاسة الحكومة.
في الوقت ذاته، لا يمكن إغفال حقيقة أن الجمهور الإسرائيلي يدرك حقيقة تآكل الفروق الأيديولوجية بين الأحزاب الصهيونية سواء اليمينية واليسارية. ويذكر الجمهور الإسرائيلي جيدا أن حزب العمل وشريكه حزب “الحركة” الذي تقوده تسيفي ليفني شاركا في حكومات قادها نتنياهو، ولم يتردد الحزبان في مواءمة مواقفهما مع مواقف نتنياهو، بل إن قادتهما حرصا على توفير الشرعية الدولية لحكم نتنياهو.
لا يمكن أن نعزو فوز اليمين إلى تصويت الجنود والضباط بكثافة لأحزابه. فالجنود والضباط في الخدمة الإلزامية والخدمة الدائمة يصوتون عادة لليمين، بل إن دراسة إسرائيلية صدرت مؤخرا تؤكد أن الضباط والجنود الذين يخدمون في الوحدات القتالية يكونون الأكثر حماسا للتصويت لليمين.
نتنياهو في ولايته الرابعة
إن نجاح نتنياهو المفاجئ لا يشي بالضرورة بقدرته على معالجة الملفات الثقيلة التي يتوجب عليه معالجتها بشكل عاجل في العام الأول من ولايته الرابعة. وسنحاول التعرض لأربع من أهم هذه الملفات:
العلاقة مع واشنطن والتعاطي مع النووي الإيراني: سيسعى نتنياهو للتصالح مع إدارة الرئيس أوباما، سيما وأن إصراره على تحدي أوباما وإلقاء الخطاب المثير للجدل في الكونغرس كان بغرض تحقيق مكاسب سياسية عشية الانتخابات. وسيحاول نتنياهو التوصل لتوافقات جديدة حول الخطوط الحمراء التي يتوجب ألا يتجاوزها الاتفاق النهائي بشأن البرنامج النووي الإيراني.
وعلى الرغم من غضب الإدارة الأميركية من نتنياهو بسبب تجنيده الجمهوريين ضدها، فإن فوز نتنياهو بعكس حسابات واشنطن، لن يدع مجالا للمناورة أمام أوباما إلا التعامل معه، سيما بعد أن تبين التأثير الطاغي لنتنياهو على الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، والتي بإمكانها تعطيل قدرة الإدارة على العمل.
وقد يقبل نتنياهو أن يتم التوصل لاتفاق مؤقت بشأن البرنامج النووي الإيراني وفق شروط مشددة، على ألا يتم التوصل للاتفاق النهائي إلا في عهد الرئيس الأميركي المقبل، الذي يأمل أن يكون جمهوريا مما يحسن من فرص التوصل لموقف مشترك بشأن التعاطي مع هذا الملف.
الموقف من المقاومة في غزة والسلطة الفلسطينية: تدل كل المؤشرات على أن نتنياهو يتجه لتشكيل حكومة يمينية ضيقة ستحرص على تضمين الخطوط العامة لبرنامجها السياسي بنودا تتعلق بسبل التعاطي مع المقاومة في قطاع غزة. لا يمكن لبرنامج الحكومة إغفال هذه المسألة، حيث إن هناك ما يشبه الإجماع داخل إسرائيل على أن الحرب على غزة فشلت في تحقيق أهدافها.
ويمكن الافتراض أن حزبي “البيت اليهودي”، الذي يقوده وزير الاقتصاد نفتالي بنات، و”يسرائيل بيتنا”، الذي يقوده وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، سيضغطان من أجل تضمين البرنامج العمل على إنهاء حكم حماس في غزة في أية مواجهة قادمة، حيث إن بنات وليبرمان يجاهران بهذا الطرح، لكن نتنياهو يدرك أن إسقاط حكم حماس يعني إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، والبقاء فيه فترة طويلة، مما يعني أن مثل هذه الخطوة ستكون مكلفة جدا، على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي.
من هنا، فإن نتنياهو قد يكون مستعدا للتعاطي مع مقترحات تطرحها المستويات العسكرية في تل أبيب، وترمي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع من أجل تقليص محفزات اندلاع مواجهة قادمة، لكن هذه المقترحات لا تتضمن رفع القيود على دخول مواد البناء اللازمة لمشاريع إعادة الإعمار. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدول المانحة لم تف بتعهداتها بشأن إعادة الإعمار، فإن بقاء عشرات الآلاف من الفلسطينيين دون مأوى قد يمهد الطريق أمام مواجهة قادمة بعكس رغبة حماس ونتنياهو معا.
على صعيد آخر، فإن تشكيل حكومة يمينية في تل أبيب يعني تقليص هامش المناورة أمام قيادة السلطة الفلسطينية، ويضع قيادتها أمام خيارات صعبة تجنبت في الماضي التعاطي معها بجدية. فعلى سبيل المثال، سيكون من الصعب على السلطة تبرير تواصل التعاون الأمني مع إسرائيل في ظل تعاظم المشاريع الاستيطانية والتهويد، وعلى وجه الخصوص في أعقاب إعلان نتنياهو خلال الحملة الانتخابية أنه ملتزم بعدم السماح بإقامة دولة فلسطينية.
وهناك جملة من التساؤلات التي يجب طرحها: هل ستواصل السلطة الفلسطينية التعاون الأمني مع إسرائيل في ظل مواقف وسلوك حكومة اليمين المتطرف؟ وكيف سيتأثر مخطط السلطة للتوجه للمحافل الدولية ورفع دعاوى ضد إسرائيل أمام الجنايات الدولية؟ فليس سرا أن السلطة الفلسطينية كانت ترغب في أن تسفر الانتخابات عن “حكومة يسار وسط” تسمح بإجراء مفاوضات لتمنح أبو مازن المبرر لتواصل التعاون الأمني والنكوص عن مواجهة إسرائيل في المحافل الدولية.
قصارى القول، إن كل عربي حُر يشعر بالمرارة وهو يرقب الصهاينة ينعمون بممارسة حقوقهم “الديمقراطية” في اختيار حكامهم، دون خوف من تغول سلطات “دولة عميقة” ولا تدخل قوى خارجية، كما يحدث في العالم العربي. فمع كل أسف لن يتمكن العالم العربي من الوقوف ندا لإسرائيل إلا في حال تمتع المواطن العربي بذات الحقوق التي يتمتع بها المستوطن الصهيوني.
صالح النعامي
الجزيرة نت