أصبح مستقبل الاتفاق [النووي] الإيراني من جديد في موضع تساؤل. فقد حظي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باهتمامٍ كبيرٍ في تموز/يوليو عندما قال إنه لم يعد يريد أن يصادق على امتثال إيران للاتفاق النووي، وهذا ما يقتضيه القانون كل ٩٠ يوماً، وبالتالي سيحين موعد مصادقته مرة أخرى في الشهر المقبل. وفي هذا الإطار، جاء رد الزعماء الأوروبيون بتأكيد دعمهم للاتفاقية المعروفة باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة». وزعمت الحكومة الإيرانية بأنها تمتثل تماماً للاتفاق – ولكنها ستتخذ تدابير لتسريع برنامجها النووي إذا ما قررت واشنطن وقف الامتثال للاتفاق. وفي الوقت نفسه، صادقت “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” على امتثال إيران مجدداً في حزيران/يونيو، مما أضعف قضية الرئيس الأمريكي.
من الواضح أن أولئك الذين يحيطون بترامب يفكرون بالفعل في أفضل طريقة لإعادة صياغة السياسة الأمريكية تجاه إيران. وقد نشرالسفير السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون مؤخراً “خطّة [مفصّلة]” للانسحاب من الاتفاق واعتماد مسار للضغط السياسي على إيران يكاد يصل إلى حد تغيير النظام. وفي الأسبوع الأول من الشهر الحالي، في خطاب ألقته السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هالي في “معهد المؤسسة الأمريكية”، عرضت قضية عدم امتثال إيران للاتفاق من دون تأييد أي إجراء من قبل الإدارة الأمريكية.
وقالت هالي إن إدارة ترامب ترى أن الاتفاق معيب لأنه محدد زمنياً وفي صالح إيران من الأساس ولا ينهي التخصيب. وبالتالي، فإنها لا تستبعد تماماً قيام إيران بتجميع المواد الانشطارية بكمية تكفي لإنتاج قنبلة نووية. وبالإضافة إلى ذلك، لا يعالج هذا الاتفاق بفعالية جهود إيران السابقة للتسلح النووي، التي تُركت لاتفاق جانبي غامض بين “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” وإيران، الأمر الذي يعرقل الآن إجراء عمليات التفتيش على المنشآت العسكرية.
وترى هالي أن المشكلة الرئيسية في الاتفاق تكمن في أنه لا يقف بوجه تطلعات إيران للتوسع الإقليمي العدواني. وهذا السلوك الذي يثير قلق عميق لكل زعيم ودود في الشرق الأوسط وصل إلى أعلى مستوياته بعد أسابيع قليلة من توقيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام ٢٠١٥. ومن الواضح أن الاتفاقات الدولية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل على وجه الخصوص، مهمة في حد ذاتها، ولكن لا ينبغي تجاهل سياقها الاستراتيجي. فعلى سبيل المثال، في حين لم يُثِر برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي انزعاجاً كبيراً، كان القلق الإقليمي والعالمي بشأن الأسلحة النووية الإيرانية عميقاً بسبب سياسات إيران الإقليمية المُزعزِعة للاستقرار.
وتجدر الإشارة إلى أن إدارة أوباما قد أجّجت النهج الإيراني العدواني الإقليمي. فقد غفل المسؤولون الأمريكيّون في الإدارة السابقة عن كشف “الصلة” بين الاتفاق وجدول أعمال إيران الإقليمي المدمّر. وفي بعض الأحيان، على سبيل المثال عندما ألقى نائب الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن، خطابه في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” في نيسان/أبريل ٢٠١٥، جادل المسؤولون بأن الاتفاق كان متعلّقاً فقط بضبط التسلّح النووي، وأنه سيتم التعامل مع سلوك إيران الإقليمي بطرق أخرى. لكنه لم يكن كذلك قط، لا في سوريا أو اليمن أو في أي مكان آخر. وفي هذا الصدد، كشفت مقابلة أجرتها مجلة “أتلانتيك” مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام ٢٠١٥ عن الموقف الضمني للإدارة، حيث قال إن مسار المفاوضات الطويل التي أسفر عنه الاتفاق سيساعد على إعادة احترام إيران وتهدئة المنطقة، وأشار أيضاً إلى أنه لا يشعر بالقلق بشكل مفرط إزاء فساد إيران. ورأى أن على المملكة العربية السعودية أن تجد وسيلة “للتعايش” مع إيران، وأن دعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بشدّة ضد إيران من شأنه أن يُذكي لهيب الصراعات.
ولكن تجاهل سلوك إيران في الوقت الحالي أصبح يشكّل تهديداً خطراً. فقد سهّلت طهران اعتماد بشار الأسد لسياسة الأرض المحروقة، وشجّعت روسيا على التدخل في سوريا، وحرّضت على بروز تنظيم «الدولة الإسلامية» من خلال السماح للأسد وعملائه في العراق بقمع العرب السنّة إلى حد احتضانهم للتنظيم الجهادي. وفي حين أن «خطة العمل الشاملة المشتركة» نفسها لم تجيز سياسات إيران الإقليمية ولم تموّل حملاتها الاستكشافية – التي كانت تحظى بتمويل جيّد قبل عام ٢٠١٥ – إلّا أنّ الاتفاق شجّع إيران على هذا السلوك. ومن المؤكد أنّه لم يكن من الممكن لإيران شراء الأسلحة بكمية هائلة من روسيا في ظل العقوبات المفروضة على تصدير النفط والودائع الأجنبية، إلّا أن هذا الاتفاق جاء ليشكّل “ختم موافقة” يسهّل العدوان الإيراني.
إن استخدام الاتفاق الإيراني كورقة ضغط على طهران أو حتى التفاوض على اتفاق أكثر تقييداً، قد يبدو للوهلة الأولى على أنه مهمّة شبه مستحيلة. وعلى الرغم من جميع القضايا المذكورة أعلاه، لا يوجد حتى الآن أي انتهاك إيراني خطير لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة». وفي ظل هذه الظروف، كما أفاد ريتشارد نيفو وإيلان غولدنبرغ في مجلّة “فورين بوليسي” [السياسة الخارجية]، هناك احتمال ضئيل في أن تستطيع الولايات المتحدة إقناع الموقّعين الآخرين على الاتفاق والأطراف الثالثة بتنفيذ العقوبات الأمريكية على صادرات النفط الإيرانية، التي جلبت إيران إلى طاولة المفاوضات في المرّة الماضية.
وفي حين أن هذا الواقع يدعو إلى ترك الاتفاق وشأنه، يجب على الإدارة الأمريكية أخذ شؤون أخرى في عين الاعتبار، ومنها الأزمة الجديدة التي تلوح في الأفق في منطقة الشرق الأوسط، وتكمن في أن حملة إيران والأسد وروسيا للهيمنة في سوريا، وحملة التحالف بقيادة الولايات المتحدة لتدمير تنظيم «الدولة الإسلامية» هما على وشك الانتهاء. وهذا يترك للولايات المتحدة وشركائها خيار الانسحاب من الجيوب في سوريا وشمال العراق، التي أنشئت لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» والتي تفيد في مواجهة التحالف الإيراني، أو في خلاف ذلك مواجهة صدام عسكري مباشر محتمل مع إيران وأتباعها في كلا البلدين، حيث يرون أن هذه الجيوب تمثّل عقبات أمام الهيمنة الإيرانية على بلاد الشام. وفي ظل ظروف كهذه، يجب إعادة النظر في كل جانب من جوانب العلاقات الإيرانية، بما في ذلك «خطة العمل الشاملة المشتركة».
بإمكان الولايات المتحدة اتخاذ تدابير من دون إبطال «خطة العمل الشاملة المشتركة» كلياً، لأن ذلك سيشكل كارثة دبلوماسية نظراً للصعوبات التي يمكن مواجهتها في فرض عقوبات دولية. وفي هذا الصدد، انضم الحلفاء الأوروبيون إلى الولايات المتحدة في تحدّيها لاختبار صاروخ إيراني على الرغم من قرار مجلس الأمن الدولي رقم ٢٢٣١ الذي أيّد «خطة العمل الشاملة المشتركة». وفي هذا الإطار، ينبغي أيضاً إعادة النظر في مسألة منع وصول “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” إلى المنشآت العسكرية الإيرانية.
لكن المنافع التجارية التي تتوقعها إيران من «خطة العمل الشاملة المشتركة» هي نقطة ضعفها. فقد تحثّ الإدارة الأمريكية الشركات العالمية على عدم التعامل مع إيران، من خلال عدم الإفصاح عن قرارها النهائي حيال الاتفاق، وبذلك تعرّض هذه الشركات أعمالها مع الولايات المتحدة للخطر. وهذا خرق تقني لشروط «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ولكنه انتهاك لأكثر الشروط غير الواقعية وهو الالتزام بدعم التنمية الاقتصادية الإيرانية. وفي حين أن مثل هذه التصرفات قد تخيّب ظنّ إيران، إلّا أنه من غير المحتمل دفع الجمهورية الإسلامية إلى الخروج من هذا الاتفاق النافع بالإجمال.
وفضلاً عن ذلك، وكما أشارت السفيرة هالي في كلماتها في “معهد المؤسسة الأمريكية”، فإن القانون الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي والذي يطالب الرئيس بأن يصادق على التزام إيران بالاتفاق يحدّد “الامتثال” وفق نطاق أوسع من «خطة العمل الشاملة المشتركة». وعلى عكس اتفاق إيران، يتعيّن على الرئيس الأمريكي أن يُقرّ بأن تخفيف العقوبات يصبّ في المصالح الأمنية الوطنية الحيوية للولايات المتحدة. وبالتالي، يمكن للرئيس أن يعتبر إيران في حالة “عدم امتثال” بموجب هذا القانون بدون أن يوقف بالضرورة الامتثال الأمريكي لشروط «خطة العمل الشاملة المشتركة» أو يسمح للكونغرس الأمريكي بوقفه. وبموجب الفقرة ٣٦ من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، يمكن للولايات المتحدة أيضاً إعادة فرض عقوبات رمزية أو جزئية رداً على الإجراءات الإيرانية من دون الانسحاب من الاتفاق.
وهذه الخطوات هي لعنة بالنسبة إلى الكثيرين في المجتمع الدولي، في أوروبا على وجه الخصوص وإلى حد أقل في البلدان الأقرب إلى إيران. لكن الدول التي تعتبر المحافظة على «خطة العمل الشاملة المشتركة» أولويتها العليا قليلة جداً إن وُجدت في الشرق الأوسط. وحتى في أوروبا، فإن ما يؤثر حقاً على الشعوب هي التهديدات الصادرة عن تنظيم «الدولة الإسلامية» وتدفقات اللاجئين غير الخاضعة للسيطرة، وهي تأتي بالإجمال نتيجة سياسات إيران في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، إذا أدّت إيران الجامحة إلى انهيار محتمل لنظام الأمن في الشرق الأوسط الذي تقوده الولايات المتحدة، ستُعرَّض هذه الدول للخطر أكثر ممّا تفعله الولايات المتحدة.
وبغض النظر عمّا يفعله ترامب أو أي رئيس آخر، فإن الاتفاق الإيراني مهيّأ لمواجهة واقع سياسي غير مريح. فبموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة»، يجب على الكونغرس الأمريكي أن ينهي رسمياً العقوبات بحلول كانون الثاني/يناير ٢٠٢٤، تلك العقوبات التي لم تتنازل عنها حتى الآن سوى السلطة التنفيذية. ومن الصعب اليوم التصديق أنه نظراً لسلوك إيران الحالي سيتّخذ أي كونغرس مثل الكونغرس الحالي خطوة كهذه بحلول عام ٢٠٢٤. ولكن عدم الالتزام بذلك من شأنه أن ينتهك «خطة العمل الشاملة المشتركة» وأن يوقف تقيّد إيران الرسمي بـ “البروتوكول الإضافي لمعاهدة عدم الانتشار”. وفي ظل هذه الظروف، قد يصبح بالإمكان الضغط على المجتمع الدولي المؤيد لـ«خطة العمل الشاملة المشتركة»، لإعادة النظر في العلاقات الشاملة مع إيران باعتبارها “السعر” لإنقاذ قيود الاتفاق النووي. ولكن بالنظر إلى التهديد غير الاعتيادي الذي تفرضه إيران على توسعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى، فضلاً عن المراجعة المستمرة التي تقوم بها الإدارة الأمريكية حول سياستها تجاه إيران، لا يمكن اعتبار الحالة الراهنة لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» مصونة عن التغيير.
جيمس جيفري
معهد واشنطن