تأتي خطوة قيادة إقليم كردستان العراق نحو إجراء استفتاء عام وأجواء المنطقة وعموم الإقليم مُلبّدة بالغيوم السياسية الكثيفة، وهي تشي بصعوبة تقدير الموقف تقديراً دقيقاً، والى أين ستذهب الأمور في ظل هذا التداخل والتشابك الهائل بين القوى الإقليمية والدولية.
ومع اقتراب تاريخ 25 أيلول (سبتمبر) الحالي، تتحوّل مدينة أربيل شمال العراق إلى مركز استقطاب للعديد من الشخصيات الدولية المؤثرة، التي تزورها بُغية الحديث إلى رئيس الإقليم مسعود البارزاني، والطلب إليه التراجع عن إجراء الاستفتاء المرتقب بقصد الانفصال التام عن بغداد. ولعلّ واشنطن هي أبرز الداعين إلى التأجيل، تحت مبرر أنّ الاستفتاء لا بد أن يؤثر سلباً على الحرب ضد تنظيم الدولة (داعش)، فيما تُجدّد أنقرة طلبها بإلغائه، وتتفق في ذلك مع طهران تمام الاتفاق، حيث تنظران معاً لعملية الاستفتاء باعتبارها تجاوزاً للخطوط الحمر.
ويبدو أن قيادة إقليم كردستان ذهبت بعيداً بقرارها اجراء الاستفتاء من أجل الاستقلال عن العراق، واختارت توقيتاً أثار القلق وعدم الارتياح عند مختلف الأطراف الإقليمية، وحتى الدولية، حيث المعركة مستمرة حتى الآن ضد تنظيم داعش شمال العراق وسوريا، مع استمرار مرحلة تطهير محافظة نينوى (الموصل) من قوات وقدرات التنظيم. فالتوقيت الذي أعلنته قيادة إقليم كردستان للاستفتاء، اعتبره المراقبون وساسة العراق وحتى تركيا وايران، توقيتاً غير مناسب على الإطلاق، حيث يأتي في ظل حالة «إنهاك مؤكد لقوى الدولة العراقية».
من الملاحظاتِ التي يراها الكثيرون لا تُشجع على عملية الاستفتاء في كردستان العراق، أن المنطقة بأسرها، بما فيها مناطق الأكراد شمال العراق، تهتز بفعل المُتغيرات اليومية التي تشهدها تلك المساحة الجغرافية المحصورة بين العراق وسورية وتركيا، حيث الحرب اليومية ضد تنظيم داعش وتنظيم جبهة النصرة المنضوي تحت عنوان «هيئة تحرير الشام» في سورية.
فالعديد من القوى الدولية المؤثرة، وعلى رأسها واشنطن، تتحفظ على موضوع الاستفتاء الكردي في شمالي العراق، بل وتخشى من أن يُشعِلَ الاستفتاء صراعاً جديداً مع بغداد وربما مع دولٍ مجاورةٍ، وفي مقدمها تركيا، ويصرف الانتباه عن الحرب الدائرة ضد الإرهاب في العراق وسورية، حيث تُعتبر الجغرافيا السياسية الحالية لإقليم كردستان العراق، والمواقف السلبية التي تتخذها الدول الإقليمية تجاه استقلال الأكراد في تلك المنطقةِ ضرباتٍ إضافيةً بحق مشروع الاستقلال الكردي، وهو المشروع الذي تَصِفَهُ تلك الدول الإقليمية بمشروع الانفصال عن الحكومة المركزية في بغداد. إن التلاقي التركي الإيراني الآن، بما في ذلك التلاقي العسكري يفسر ما ذهبنا اليه أعلاه. لكن الملاحظ هنا، أن رئيس اقليم كردستان العراق مسعود البارزاني ما زال حتى الآن يحمل مشروع الاستفتاء ويتبناه، ويتجاهل نصائح الدول الكبرى، شرقاً وغرباً، ويمضي قدماً نحو العمل من أجل الانفصال التام عن بغداد، وإعلان قيام الدولة الكردية في مناطق شمال العراق، ومع ذلك هناك مؤشرات تتزايد بشأن احتمال تأجيل استفتاء كردستان المرتقب، إلا أنّ مسؤولين أكراداً يقولون إنّ البديل الوحيد الذي يمكن القبول به يتمثل بضمانات دولية رسمية باحترام نتائج استفتاء آخر يقام في المستقبل، أو ضمان الاعتراف بتطلعات الأكراد.
وتكرر الولايات المتحدة وإيران وتركيا ومعظم الدول العربية انها لن تعترف بها، بل ونصحت القيادة الكردية العراقية بالتراجع عن هذا القرار والقبول بالصيغة المعتمدة حالياً والتي تعطي «الاقليم الكردي» الاستقلال الذاتي في عراقٍ موحد. وبالطبع، نحن هنا لا نستطيع القفز عن الظلم التاريخي الذي أحاق بالقضية الكردية في مناطق تواجد الاكراد. فالشعب الذي قذفته الاقدار إلى الجبال، عند التقاطعات بين دول تاريخية قوية هي إيران وتركيا والعراق، يعاني مشكلة توزعه بين ثلاث دول. فكانت اقداره مثقلة بالتاريخ والجغرافيا والواقع السياسي، وبالتالي فإن الحلول المطروحة التي يفترض بها أن توفر العدالة لقضية الأكراد يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع المحيط بالحالة الكردية تاريخياً وراهناً.
في هذا السياق، تُشير المعطيات المتوافرة، أن سياسات قيادة اقليم كردستان الاقتصادية وفي إدارة الإقليم، لم تكن ناجحة البتة، فقد فشلت المشاريع الاقتصادية، واتبعت سياسة نفطية خاطئة، وعجز قيادة إقليم كردستان عن بناء بنية تحتية استراتيجية، وبالتالي فإن المنطقة الكردية من الشمال العراقي ليست جاهزة للاستقلال أصلاً. فيما قالت مصادر كردية مسؤولة إن «بغداد مستعدة لأن تحقق أي شيء لإقليم كردستان كبديل لتأجيل الاستفتاء، وأن بغداد عليها أن تكون مستعدة لمساعدة الأكراد على تخطي أزمة مالية وتسوية ديون مستحقة على حكومتهم»، حيث يقدر حجم تلك الديون بنحو 10- 12 مليار دولار، اي تقريباً الموازنة السنوية لكردستان، علما أن ديونها مستحقة لمقاولين نفذوا أشغالاً عامة وموظفين حكوميين ومقاتلين من البيشمركة لم تصرف رواتبهم كاملة منذ شهور، بسبب تصرف حكومة الإقليم بالنفط من دون الرجوع إلى بغداد. وكانت بغداد أوقفت دفعات التمويل من الميزانية الاتحادية العراقية لكردستان في عام 2014 بعد أن بدأ الإقليم بتصدير النفط بشكلٍ مستقلٍ عبر خط أنابيب إلى تركيا، علما أن الإقليم كان يحصل على 17 في المئة ميزانية العراق السنوية والتي تعتمد على تصدير النفط من الحقول الجنوبية بشكل أساسي.
خلاصة القول، تُشير المعطيات الواقعية إلى أن الصعوبات الكبرى مازالت تعترض طريق المشروع الكردي للاستقلال عن بغداد في الشمال العراقي، فالمناخ العام لا يساعد على الإطلاق مشروعهم للانفصال عن العراق بكيانٍ تام الاستقلال، والإصرار على السيرِ بهذا الطريق كالسيرِ على جمر النار المُتقد، وهو ما يقتضي التعقّل من القيادات الكردية في الشمال العراقي، والانطلاق نحو خياراتٍ أنجع وأكثر براغماتية من أجل مصلحة اكراد العراق في إطار وطنٍ واحدٍ وموحّد، وحكم ذاتي مُتقدم لهم في الشمال، وتطوير أداء حكومتهم وبرلمانهم الخاص.
علي بدوان
صحيفة الحياة اللندنية