حالة الأزمة وأزمة الدولة.. المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العالم عميقة ودائمة

حالة الأزمة وأزمة الدولة.. المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العالم عميقة ودائمة

6347313744_28a54b8bd6_b

العالم الغربي مستمر في المعاناة من الأزمة المالية العالمية، يعوقه في معافاته منها النمو الاقتصادي المتدني، وهو أبعد وأبعد عن تحقيق أي تحرك منسق إزاء التغير المناخي، عنه في أي وقت على مدار السنوات الثلاثين السابقة. في “حالة/دولة الأزمة” يطرح زيجمونت باومان وكارلو بوردوني فكرة أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي نواجهها – وخمول رد الفعل الحكومي تجاهها – ليست أزمات مؤقتة إنما هي عميقة ودائمة. يطرحان فرضيتهما هذه مصحوبة بتحليل قوي لفكرة الدولة وفكرة الحداثة وفكرة الديمقراطية في عالم معولم، حيث القوة الحقيقية – التي تكمن في تدفق رأس المال عالميًا – انفصلت عن السياسة، وتستمر في أداءاتها على المستويات الوطنية والمحلية.

في بعض مواطن الكتاب يتجه الكاتبان إلى برج عاجي، وهما المفكران اللذان يقّران بأنهما متورطان في – وليسا منفصليْن عن – الأحداث التي يصفانها ويقيّمانها. فيما يخص فصل القوة عن السياسة يقول باومان: “في اليوم الأخير من أسبوع العمل يلتقي رءوس أقوى الحكومات وأشدها نفوذًا لمناقشة ووضع الحد السليم للتحرك الواجب، ثم ينتظرون ويتعثرون، حتى تعاود البورصات فتح أبوابها بداية الأسبوع الجديد، وهذا لكي يقيِّموا إن كان لقرارهم المتخذ موطئ قدم يستند إليه” (ص98). حظ الفرد ليس أفضل بكثير من القائد الذي كان في العهد الماضي يلتفت إليه هذا الفرد عندما تفارق السياسة القوة. التجمعات السياسية الجماهيرية التي استلهمت فكرتها من وسائط التواصل الاجتماعي، والتي تجمعت احتجاجًا على هذا أو لتبتعد عن ذاك، لم تقدم حلولًا: ما الذي يمكن عمله بدلًا من التدابير الحالية ومن الذي سيتولى قيادة العملية الجديدة المقترحة؟ هذه “أزمة التمكّن” (ص103) التي وبالنسبة لباومان وبوردوني تجعل كل الأزمات الأخرى متصلة متشابكة: تمكن الدولة الذي لم يعد كما كان الناس يفترضونه، وعقمها الحالي المقنّع بتاريخ من القدرة على الحركة بنجاح في مواجهة تحديات كبرى.

يتبنى باومان بشكل مبدع مفهوم “الحداثة السائلة” كأداة تحليلية يمكن من خلالها فهم ما يصفه المؤلفان بمسمى “الحداثة في أزمة”. مثل كل مفهوم أو أداة أو آلية تستخدم كوسيلة لتفسير الوجود الاجتماعي، فهي أداة تحدها حدود، على ذلك، فقد تم استخدامها في الكتاب ببراعة لحل مشكلات أكثر من المشكلات التي تثيرها كوسيلة. أي نقاش حول الحداثة – ناهيك عن أزمة الحداثة – يشتبك لا محيص مع استنتاجه ونتاجه الأوحد الذي كان فيما سبق حديثًا ومقبولًا: ما بعد الحداثة. يتمكن باومان وبوردوني هنا من تفادي السقوط في هوة المعاناة الاصطلاحية، إذ ضخا الكثير من المرونة في فهم الحداثة، ومن ثم “السائلة”، بما يستوعب الالتباس وانعدام اليقين المرتبط بمرور وتوالي الحقب والعهود (إذا كانت الحداثة قد ولّت أصلًا وانتهى عهدها).

مع الدفع بحجج تستند إلى مرجعيات من أعظم وأبقى مفكري التنوير، تتناثر هنا وهناك في الكتاب تفاصيل مبهمة نوعًا. على سبيل المثال، يستعرض بوردوني المشهد السياسي التاريخي من باكون إلى هيجل ثم إلى ماركس (ص118 – 119)، مع استكشاف سعي البشر للسعادة في سياق الصراع والعمل الشاق. من المثير للاهتمام أنه يدمج فكرة ماركس عن السعي للسعادة من خلال العمل في الأرض وسعي البرجوازية للسعادة – “بنت ما بعد الدولة”، في تحية ظاهرة لأفكار ماكس فيبر عن أخلاق العمل البروتيستانتية. ثمة مجال عريض ورحب هنا للقارئ لاستكشاف تداعيات قراءة كهذه. على مستوى، فإن بوردوني دقيق ومقنع فيما يخص دور العمل في السعي للسعادة، في أوروبا على الأقل خلال فترة زمنية محددة. لكن على مستوى آخر، فهناك تناقض: أخلاق العمل البروتيستانتية – روح الرأسمالية عند فيبر – تتناقض مع ماركس. في حين يدافع ماركس عن سعادة “العامل” بشكل جماعي عريض، فإن الأخلاق البروتيستانتية مغروسة في الفردية، حتى عند تجاوز السعي الفردي لمستقبل أخروي إلى أزمنة دنيوية، فالباقي هو الفردية، وهي تتخلل جميع طبقات المعنى، وهو الأمر الذي يرفضه ماركس.

في نقاش الديمقراطية في خضم الأزمة يوفر المؤلفان ربما أهم الأفكار في هذا الزمن الغائب عنه أي يقين. سيولة الديمقراطية مفهوم تم استكشافه بشكل عميق، من طرح توكفيل حول ديكتاتورية الأغلبية، إلى الاحتجاجات التي شهدتها كل من مصر وتركيا والبرازيل. يطرح الكتاب هنا أن الجماهير لم تعد قليلة المعرفة أو سلبية، إنما هي مستنيرة وعليمة ومتصلة ببعضها البعض (من خلال وسائط التواصل الاجتماعي) وتقاوم قوالب السلطوية – بل وحتى قوالب السلطوية الديمقراطية – التي عززت بنى الحُكم في التاريخ المعاصر والقديم. يكمن جوهر تحليل باومان وبوردوني للديمقراطية في طبيعة الأزمة التي تواجهها الآن. الحركات السياسية من قبيل “احتلوا وول ستريت” و”السكان الأصليون” و”الربيع العربي” تُرى لا على أنها أسباب لأزمة الديمقراطية والحُكم، إنما بصفتها تبعات لأزمة الحكم والديمقراطية (ص147).

وفي خضم هذه الأزمات الهائلة الكبيرة – أزمات الدولة، والحداثة، والديمقراطية – يرى باومان “المواطن” في مرتبة أدنى من “المستهلك”، وهدف الأخير هو بالأساس الاستحواذ والتملك. إذا كان باومان محقًا – فمثل بوردوني، فهو يطرح العديد من الحجج القوية والمقنعة في حوارهما هذا – وإذا كان الاستهلاك هو الغاية التي تشكّل التوجهات والسلوك والآمال والمطامح الخاصة بالملايين (المليارات؟) من الناس، فهل من الممكن تحقيق أي درجة من الاستقرار الاجتماعي أو السياسي في مجتمع المستهلكين؟ لأنه ما إن يتم استهلاك السلعة تعود الرغبة في الاستهلاك: الرضا هنا يتأجل بشكل أبدي رغم وعود خبراء التسويق والإعلان.

هذا الكتاب مهم لأي دارس جاد للعلوم السياسية – داخل دائرة الدراسة الأكاديمية وخارجها – عنده استعداد للاشتباك مع حججه العميقة والقوية. الحوار – وهو حوار بناء وليس مناظرة حزبية – يوفر نطاقًا رحبًا للاشتباك مع موضوع الكتاب وأفكاره بشكل مستفز للبعض بقدر ما هو مشجع للبعض الآخر. كما أنه يقدم عدسة أصيلة ومستفزة أحيانًا لرؤية الأزمات السياسية الحالية: من صعود الأحزاب القومية في الاتحاد الأوروبي، إلى عدم قدرة أو عدم استعداد الحكومات لتفعيل قيود مشددة على القطاع المالي، وهي القيود التي صدرت وعودٌ بها عندما بلغت الأزمة المالية العالمية ذروتها.

د. بيتر لي يُحاضر في الأخلاق والنظرية السياسية بجامعة بورتسماوث، ويتناول كيف تتفاعل السياسة والحقيقة والأخلاق في تشكيل الهوية والسلوك، والحرب والتدخلات العسكرية، واستخدام الطائرات بدون طيار في عمليات عسكرية. صدر كتابه الأخير “حروب الحقيقة: سياسة التغير المناخي والتدخل العسكري والأزمة العالمية” في نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

د. بيتر لي على مدونة كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية
ترجمة – عمرو خيري

نقلا عن موقع قراءات

مترجم عنBook Review: State Of Crisis by Zygmunt Bauman and Carlo Bordoni للكاتب Peter Lee