ملخص مباشرة بعد إعلان رحيل الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، توالت القرارات التي طالت مواقع رئيسية في بنية النظام السياسي؛ وبدا وكأن الملك سلمان يعيد تشكيل السلطة بالكامل. وكان طبيعيًّا أن تثار أسئلة عديدة حول ما إن كان التغيير الكبير في بنية الحكم والدولة سيواكبه تغيير مواز في سياسات المملكة الخارجية. إن كان ثمة حدث قرع أجراس الخطر في السعودية خلال الشهور القليلة الماضية فليس ثمة شك في أنه اليمن، وسيطرة الحوثيين على معظم الشمال اليمني، وفتحهم أبواب البلاد على مصراعيها للنفوذ الإيراني. لا يجب أن يكون ثمة شك في أن سُلَّم الأولويات السعودية أخذ في التغيير، ولكن من الضروري تجنب الذهاب بعيدًا في توقع أثر هذا التغيير على الملفات والسياسات التفصيلية العربية والإقليمية.. |
مقدمة
أُعلنت وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز في وقت متأخر من مساء 22 يناير/كانون الثاني الماضي 2015، وأُعلن مباشرة في الرياض عن بيعة ولي العهد، الأمير سلمان بن عبد العزيز، ملكًا جديدًا على المملكة العربية السعودية. خلال ساعات، وفي صباح اليوم التالي، الجمعة، 23 يناير/كانون الثاني، وبالرغم من أن اليوم هو العطلة الأسبوعية الرسمية للمملكة، أعلن مذيع محطة التلفاز الحكومية 34 مرسومًا ملكيًّا وقرارًا وزاريًّا، تضمنت ما وُصف حينها بالانقلاب الكامل في بنية الحكم السعودية. تضمنت القرارات، والتي لابد أنها كانت قد أُعدَّت خلال الأيام القليلة السابقة، منذ تأكد تدهور صحة الملك الراحل، تعيين الأمير محمد بن نايف، وزير الداخلية، وليًّا لولي العهد، والأمير محمد بن سلمان، وزيرًا للدفاع ورئيسًا للبلاط الملكي، إضافة إلى تغييرات واسعة في عضوية مجلس الوزراء، وفي إدارة إمارات البلاد.
ولكن التغيير الأبرز الذي أُعلن عنه كان حلَّ المجالس المتخصصة، التي أُنشئت في العهد السابق، وأصبحت بمثابة مجلس وزراء مواز، وإنشاء مجلسين رئيسيين لرسم السياسات الاستراتيجية والإشراف على تنفيذها، هما: مجلس السياسة والأمن، الذي يرأسه محمد بن نايف، ويضم وزراء الشؤون الأمنية والعسكرية والخارجية ورئيس المخابرات؛ ومجلس الاقتصاد والتنمية، الذي يرأسه محمد بن سلمان، ويضم كافة الوزراء الآخرين. ما فُهم من هذا القرار أن هذين المجلسين سيلعبان دورًا رئيسًا، تحت إشراف، وبتوجيه من الملك، في إدارة شؤون الحكم في المرحلة المقبلة.
خلال الأسابيع القليلة التالية، توالت القرارات التي طالت الصف الثاني من مواقع ورجال الحكم؛ وبدا وكأن الملك سلمان تشكيل السلطة بالكامل. وكان طبيعيًّا أن تثار أسئلة عديدة حول ما إن كان التغيير الكبير في بنية الحكم والدولة سيواكبه تغيير مواز في سياسات المملكة الخارجية. إن كان الملك سلمان غيَّر معظم رجال الإدارة السابقة، فهل سيتخلص أيضًا من سياسات الإدارة السابقة الخارجية؟ ما أثار هذه الأسئلة كان عددًا من الخطوات غير المسبوقة، وغير المعهودة في تقاليد سياسة المملكة الخارجية، التي اتخذتها إدارة الملك الراحل، سيما في حقل السياسة العربية. هذه قراءة أولية لتحولات السياسة الخارجية في عهد الملك سلمان، ومحاولة لاستطلاع الملامح الرئيسة لهذه السياسة.
الثقل المضاعف لموقع المملكة ودورها الإقليمي
وُلدت المملكة العربية السعودية رسميًّا في سبتمبر/أيلول 1932، بالرغم من أن معظم بلادها كانت قد أصبحت تحت سيطرة الرياض وحكم الملك عبد العزيز آل سعود قبل ذلك. وليس ثمة شك في أن المملكة الوليدة لعبت من البداية دورًا رئيسًا في محيطها العربي، حتى قبل اكتشاف النفط وتوفر الفائض المالي لحكامها. وظلَّت المملكة منذ استقلال الدول العربية، إلى جانب مصر والعراق وسوريا، في المشرق، والجزائر والمغرب، في المغرب، تعتبر من دول الثقل والقرار العربيين، سواء في فترات التفاهم والتضامن بين الدول العربية، أو فترات الانقسام والمحاور المتصارعة. خلال السنوات الأربعة الماضية، وبعد اندلاع الثورات العربية، تضاعف تأثير المملكة ودورها، وذلك بفعل ما تسببت به حركة الثورة العربية من الاضطراب الداخلي الهائل في سوريا واليمن والعراق، والتراجع المتفاقم في دور مصر وقدرتها على الفعل.
وظَّفت إدارة الملك عبد الله هذا التأثير المتزايد للمملكة بصورة جديدة مختلفة كليًّا عن الطريقة التي أدارت بها المملكة سياستها العربية في السابق. اتسمت السياسات السعودية العربية خلال معظم تاريخ المملكة، بخلاف فترة قصيرة من عهد الملك فيصل، بقدر كبير من البراغماتية، والحرص على عدم التدخل في خيارات الشعوب العربية، والعمل من أجل الحفاظ على استقرار الدول العربية وتضامنها، ودعم الحقوق الفلسطينية. ولكن إدارة الملك الراحل ابتعدت عن هذه البراغماتية خاصة في التعامل مع ملف الإخوان المسلمين، سيما بعد أن أفسحت الثورات العربية لصعود ملموس لقوى التيار الإسلامي السياسي. أظهرت المملكة، رغم تعاملها ببراغماتية مع الثورة الليبية واليمنية والسورية، خشية لا تَخفى من مسارات التحول الديمقراطي في المجال العربي عمومًا، فاختطَّت سياسة مناهضة للثورة والإخوان المسلمين في مصر.
التزمت إدارة الملك الراحل موقفًا داعمًا لقوى الثورة العربية المضادة مناهضًا لصعود الإسلاميين لسدة الحكم في مصر، وإن استند إلى أصوات الناخبين، بل ولأنه استند إلى أصوات الناخبين؛ وكان غريبًا على التقاليد السعودية أن تتخذ الرياض موقفًا مؤيدًا لنظام انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 في مصر، بالرغم من الانقسام الواضح في مصر، وللإجراءات الدموية التي اتخذها النظام لفض الاعتصامات في ميداني رابعة العدوية والنهضة في أغسطس/آب 2013. وحتى في الساحة السورية، تجنبت السعودية تقديم أي دعم ملموس لجماعات الثوار السوريين ذات التوجه الإسلامي. وصل الموقف المناهض للإسلاميين ذروته بإعلان الإخوان المسلمين، الذين تمتعوا دائمًا بعلاقات دافئة مع المملكة، إلى جانب قوى وجماعات أخرى، تنظيمًا إرهابيًّا في القائمة السعودية المعلنة في 6 مارس/آذار 2014. وفي الآن نفسه، لم تعترض الرياض على مواقف حكومة رام الله ضد حركة حماس، وسياسة الحصار التي فرضها النظام المصري على قطاع غزة؛ فابتعدت عن تقليدها المعهود في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
أدى إعطاء المملكة الأولوية، بعد الانقلاب في مصر، لهدف مواجهة حركة الثورة والتغيير في المحيط العربي ومناهضة القوى الإسلامية السياسية إلى صناعة مناخ من التوتر والانقسام في مجلس التعاون الخليجي؛ وفقدان المملكة لحلفائها في التيار الإسلامي السياسي السُّني؛ فاستغلت إيران هذا الارتباك في السياسة السعودية ووسعت نفوذها بشكل غير مسبوق، ليس في سوريا ولبنان والعراق وحسب، بل وفي اليمن أيضًا؛ فاضطرت المملكة إلى تحمل أعباء مالية هائلة لدعم الأنظمة العربية الحليفة، سيما مصر؛ وإلى انتقادات في المملكة ذاتها لتلك السياسات التي وجد كثير من السعوديين أنها ابتعدت عن تقاليد بلادهم وميراثها. ولكن، ومنذ تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، بدا وكأن التوجهات الإقليمية والعربية للإدارة الجديدة ستختلف بصورة ملموسة عن توجهات إدارة الملك الراحل.
مؤشرات جديد في السياسة الخارجية
كان أول المؤشرات على توجهات إدارة الملك سلمان قيام ولي ولي عهده ورئيس مجلس الأمن والسياسة، وزير الداخلية، محمد بن نايف، بزيارة الدوحة (11 فبراير/شباط 2015)، في أول خطوة له خارج البلاد منذ توليه مسؤولياته. اتسمت علاقات الدوحة مع الرياض في السنوات القليلة الماضية بقدر من التوتر، خصوصًا حول الموقف من نظام الانقلاب في مصر، ومارست الرياض ضغوطًا متزايدة من أجل أن تدفع الدوحة لتتغير رؤيتها للنظام المصري. ولذا، فقد اعتُبرت زيارة ابن نايف مؤشرًا على إعطاء إدارة الملك سلمان الأولوية لتعزيز التضامن الخليجي، بغضِّ النظر عن الخلافات حول الموقف من مسائل عربية أخرى، وعلى أن دعم النظام المصري لم يعد يحتل موقعًا متقدمًا في أولويات الرياض. في الأيام القليلة التالية، استقبلت الرياض الزعماء الخليجيين أو ممثلين لهم، بداية من أمير الكويت في 15 فبراير/شباط. وكان لافتًا أن الشيخ تميم بن حمد، أمير قطر، تلقى استقبالًا مميزًا، وقضى يومًا حافلًا باللقاءات الرسمية وغير الرسمية، عند وصوله للرياض في 17 فبراير/شباط.
بعد الزيارة الرسمية التي قام بها الشيخ تميم للرياض بيومين، 19 فبراير/ شباط، أصدر الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، من مقر الأمانة العامة في الرياض، بيانًا شديد اللهجة، في الرد على الاتهامات التي وجهها دبلوماسي مصري لقطر بدعم الإرهاب. وبالنظر للدور المرجعي الذي تقوم به الرياض لأمانة المجلس، قدَّر كثيرون أن بيان الزيَّاني ما كان ليصدر لولا موافقة السعودية. في وقت متأخر من مساء اليوم نفسه، نشر الزياني بيانًا آخر، أكد فيه على علاقات المجلس الوثيقة بمصر، بدون أن يشير إلى البيان السابق، ويُعتقد أن البيان الثاني صدر لاحتواء ردود الفعل الإماراتية الغاضبة على البيان الأول.
منذ بداية الشهر التالي، مارس/آذار، بدأ العاهل السعودي في استقبال مسؤولين عرب ومسلمين آخرين، كان واضحًا أن دافعهم الرئيس لم يكن التعرف على الملك الجديد وتهنئته وحسب، بل والتعرف على توجهات المملكة السياسية تحت قيادته. قام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بزيارة سريعة للرياض في 2 مارس/آذار، صدر عنها بيان منفرد من الجانب المصري، أشار إلى أن الجانبين بحثا العلاقات المشتركة ودعوة السيسي لتشكيل قوة تدخل عسكرية عربية مشتركة. ولكن لا الجانب السعودي أصدر بيانًا مقابلًا حول الزيارة، ولا البيان المصري تكفل بتوضيح ما إن كان مقترح قوة التدخل المشتركة قد وجد تأييدًا من السعوديين.
في اليوم التالي، 3 مارس/آذار، وصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارة رسمية للرياض، بعد أن كان قد قضى اليومين السابقين في تأدية العمرة وزيارة المدينة المنورة. عقد الطرفان: السعودي والتركي جلستي مباحثات مطولة، اقتصرت الثانية منهما على عدد محدود من المسؤولين. وقد شارك في المباحثات، إلى جانب الملك سلمان، كل من محمد بن نايف ومحمد بن سلمان. ما رشح من المباحثات أن اللقاء شهد اتفاقًا كاملًا بين الطرفين حول سوريا واليمن، وحول مخاطر التوسع الإيراني الحثيث على أمن واستقرار المنطقة. كما اتفق الطرفان على استطلاع إمكانية تشكيل مجلس استراتيجي لتطوير العلاقات الثنائية، شبيه بالمجلس الاستراتيجي المشترك بين تركيا وروسيا؛ ولكنهما اختلفا في تقدير الوضع المصري.
في موازاة هذه السلسلة من اللقاءات، نُشرت تقارير حول اتصالات جرت بين قيادة المملكة والسيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، التي هي ربما الأولى منذ سنوات، وحول اقتراب موعد زيارة مشعل للرياض. كما اتخذت الرياض موقفًا حازمًا من تطورات الوضع اليمني، مؤكدة على شرعية الرئيس هادي، وداعية لحوار يمني-يمني في الرياض. وهو الموقف الذي أيده لقاء وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، وصاحبه نقل سفراء دول المجلس من صنعاء إلى عدن، التي أعلنها هادي عاصمة مؤقتة للبلاد. وأفادت تقارير بوجود دعم سعودي ملموس للقبائل اليمنية في محافظة مأرب الاستراتيجية، المعارضة للتوسع الحوثي. ولوَّحت الملكة على لسان وزير خارجيتها سعود الفيصل، في 23 آذار/مارس، إلى استعمال القوة إذا واصل الحوثيون الانقلاب على الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، وسعوا إلى فرض سلطتهم بالقوة على باقي مناطق اليمن.
في 10 مارس/آذار، ألقى الملك سلمان خطابًا شاملًا، رسم فيه الخطوط الرئيسية لسياسة إدارته، وقد لوحظ أن معظم الكلمة خُصِّص للشأن الداخلي؛ حيث حرص الملك على توكيد التزامه بالثوابت التي قامت عليها المملكة، سيما الالتزام بالشريعة الإسلامية. أما في الشأن الخارجي، فقد عاد الملك في خطابه إلى اللغة السعودية التقليدية في التوكيد على الحقوق الفلسطينية والتزام المملكة دعم الشعب الفلسطيني؛ وأكد على ضرورة التضامن العربي والإسلامي.
وفي 13 مارس/آذار، وبالرغم من أن مراقبي الوضع المصري لاحظوا غياب الملك سلمان عن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، الذي كان قد نُظِّم أصلًا باقتراح من الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، فقد مثَّل الأمير مقرن ابن عبد العزيز، ولي العهد، بلاده، معلنًا في كلمته أمام المؤتمر أن السعودية ستدعم الاقتصاد المصري بأربعة مليارات دولار، منها مليار واحد وديعة في البنك المركزي (أي: قرض بلا فوائد). ولكن مقرن لم يوضح في كلمته مدة هذه الوديعة، ولا أعطى أية تفاصيل محددة حول المليارات الثلاثة الأخرى، وما إن كانت ستُقدَّم بصورة مساعدات نفطية، أو منح، أو استثمارات، ولا حول المدة الزمنية التي سيتوفر فيها هذا الدعم. غياب الملك سلمان، والغموض الذي أحاط بطبيعة الدعم الموعود، أشارا بوضوح إلى أن حماس إدارة الملك سلمان لنظام 3 يوليو/تموز في مصر لا يرقى لحماس سلفه.
فإلى أين تتجه السياسة السعودية الخارجية فعلًا؟
محددات عامة لسياسة إدارة الملك سلمان الخارجية
إن كان ثمة حدث قرع أجراس الخطر في السعودية خلال الشهور القليلة الماضية فليس ثمة شك في أنه اليمن، وسيطرة الحوثيين على معظم الشمال اليمني، وفتحهم أبواب البلاد على مصراعيها للنفوذ الإيراني. ولا تغفل إدارة الملك سلمان، بالرغم من الخطوة التي اتخذتها الرياض لإعادة فتح السفارة السعودية في بغداد، أن إيران تكاد تسيطر على القرار العراقي، وأن النفوذ الإيراني تغلغل في مفاصل الدولة العراقية، تمامًا كما أن إيران أصبحت صاحبة اليد الطولى في سوريا ولبنان، سواء بصورة مباشرة أو عبر الحلفاء. ويقول عدد ممن التقوا الملك سلمان: إن الملك لا يتوقف عن الإشارة إلى التهديد الذي يمثله التوسع الإيراني الحثيث في الجوار العربي. وهنا يقع المتغير الرئيس في السياسة السعودية: أن أولوية المملكة باتت تتعلق بمواجهة مخاطر التوسع الإيراني.
تتطلب هذه الأولوية تعزيز العلاقات الخليجية-الخليجية، سيما في ظل غيبة الدول العربية الرئيسة عن ميزان القوى الراهن في المشرق؛ كما تتطلب رفع مستوى العلاقات مع تركيا وباكستان؛ إضافة إلى حشد أوسع للحلفاء الإقليميين، سواء على مستوى الدول أو مستوى القوى السياسية من غير الدول. ولكن من الضروري، ربما، تجنب المبالغة في حجم التغيير الذي سيُحدثه تغيير سُلَّم الأولويات السعودية في السياسات التفصيلية لكل ملف عربي وإقليمي على حدة.
لا توفر دول الخليج غطاءً سياسيًّا ضروريًّا للسياسة السعودية وحسب، بل هي أيضًا مصدر تأثير ونفوذ إضافي، سيما في دول الأزمات المتفجرة، مثل: اليمن وسوريا والعراق. وتلعب باكستان دورًا مهمًّا في منع التوسع الإيراني شرقًا، وربما في تطوير المقدَّرات السعودية النووية، إن وُلِدت الحاجة لمثل هذا التطوير؛ بينما يمكن لتركيا أن تلعب دورًا بالغ الأهمية في احتواء ومحاصرة النفوذ الإيراني في العراق، وفي دفع الأزمة السورية في الاتجاه الذي ترغب به الرياض، كما في توفير تأييد إقليمي وإسلامي للخطوات السعودية في اليمن. وليس ثمة شك في أن السعودية تحتاج تأييدًا شعبيًّا عربيًّا واسعًا لسياساتها في المرحلة المقبلة، وهو التأييد الذي لا يمكن أن يوفره تيار عربي كما يمكن للتيار الإسلامي أن يوفره. في بعض المناطق، كما في اليمن وسوريا والعراق وليبيا، يمكن أن تساعد قوى التيار الإسلامي العام على إحداث تغيير ملموس في ميزان القوى، وفي إضعاف الجماعات الإسلامية المتطرفة ومنعها من التوسع. وهذا ما يعني، على الأرجح، أن الإدارة السعودية الجديدة ستتجاهل ذلك الجزء الخاص بالتيار الإسلامي الرئيس في قائمة الجماعات الإرهابية الذي صدر عن الرياض في 2014، وأنها ستفتح الأبواب لتعاون أوثق مع قوى مثل حماس والإخوان المسلمين في سوريا والإصلاح في اليمن.
من جهة أخرى، فإن الحرص السعودي على تعزيز الصف الخليجي والتقارب السعودي-القطري لا يعني بالضرورة أن العلاقات السعودية مع الإمارات ستنقلب رأسًا على عقب. الأرجح، أن الخصوصية التي اتسمت بها العلاقات السعودية-الإماراتية خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية وصلت إلى نهايتها، ولكن هذه النهاية لن تنقلب إلى خصومة أو توتر، كما أن عودة الدفء لعلاقات السعودية بقوى التيار الإسلامي السياسي السنِّي، سيما الإخوان، لا يعني أن الرياض ستتبنى مقاربة الإطاحة بالنظام المصري. ليس ثمة دوافع أيديولوجية لاستمرار سياسة مطاردة القوى الإسلامية السياسية السنِّية، ولا تنظر إدارة الملك سلمان إلى نظام السيسي في القاهرة باعتباره أولوية عربية، ولكن مثل هذا التغيير لن يتحول إلى موقف معاد للنظام المصري.
بصورة ما، لا يخفى على إدارة الملك سلمان أن الجيش كان دائمًا القوة الرئيسة في نظام حكم مصر، وأن السيسي ليس سوى ممثل للجيش، بمعنى أن شيئًا كبيرًا لم يتغير في مصر، على أية حال، وأن المهم الآن الحفاظ على ما تبقى من أمن مصر واستقرارها. ففي ظل اضطراب أوضاع عدد من الدول العربية وانزلاق بعضها إلى مناخ من الحرب الأهلية، سيجعل انهيار أمن واستقرار مصر من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، محاولة استعادة الاستقرار في المجال العربي. بكلمة أخرى، ما يحدد مقاربة الرياض للمسألة المصرية هو مستقبل مصر وليس مستقبل السيسي. إضافة إلى أن عملية التحول الديمقراطي ليست هدفًا محببًا لأركان الحكم في السعودية.
وبالرغم من أن العلاقات السعودية-الأميركية كانت دائمًا ذات صلة وثيقة بسياسات السعودية الإقليمية والعربية، فإن قدرًا من الغموض يحيط بهذه العلاقات اليوم. فمن ناحية، ثمة توقعات بأن مباحثات الملف النووي الإيراني في طريقها إلى التوصل لاتفاق، وأن مثل هذا الاتفاق سينعكس بالتأكيد على الموقف الأميركي من التوسع الإيراني الإقليمي. والحقيقة، أن أثر المباحثات على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بدأ بالفعل، ويمكن ملاحظته في التحالف غير المكتوب بين واشنطن وطهران في العراق، وحرص إدارة أوباما على عدم إغضاب الإيرانيين في سوريا واليمن. وتلاحظ الرياض، على أية حال، التراجع الكبير في الدور الأميركي في الشرق الأوسط منذ بداية عهد أوباما. تراجع الدور الأميركي، والمخاطر الكامنة في الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، تفرض على السعودية أن تصبح أقل اعتمادًا على الحليف الأميركي، وأن تتجه بصورة أكبر نحو بناء تحالف إقليمي فعَّال ونشِط.
من ناحية أخرى، ليس من السهل، بعد عقود من التحالف الخاص جدًّا أن تدير الرياض ظهرها لوعود العلاقة الخاصة مع واشنطن، كما أن بنية الدولة السعودية، العسكرية والأمنية، لم تقم أصلًا على أساس تعهد دور مستقل عن الحليف الأميركي. وربما تكون هذه واحدة من أكبر المعضلات التي تواجهها إدارة الملك سلمان، وسيلعب حلُّها دور المحدد الأهم لمستقبل العلاقات السعودية الإقليمية الأخرى وطبيعة هذه العلاقات.
في النهاية، وبكلمة أخرى، لا يجب أن يكون ثمة شك في أن سُلَّم الأولويات السعودية أخذ في التغيير، ولكن من الضروري تجنب الذهاب بعيدًا في توقع أثر هذا التغيير على الملفات والسياسات التفصيلية العربية والإقليمية. حتى القلق السعودي المتزايد من التوسع الإيراني لا يعني بالضرورة أن الرياض أسقطت نهائيًّا خيار التفاوض مع طهران. ثمة ملامح انقلاب في الخارطة السياسية الداخلية ونظام الحكم؛ أمَّا على صعيد السياسة الخارجية، فإن المتغيرات ستكون أقل ضجيجًا وأكثر حذرًا، وسيمر بعض الوقت، قبل أن تتضح الملامح الكاملة لهذه المتغيرات.