“في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر أعلنت السفارة الأمريكية [في أنقرة] تعليق طلبات التأشيرات التركية إلى الولايات المتحدة، وأشارت إلى أن «الأحداث الأخيرة … أجبرت الحكومة الأمريكية على إعادة تقييم التزام الحكومة التركية بأمن موظفي البعثة الأمريكية، ومنشآتها». ورداً على ذلك، اوقفت الحكومة التركية خدمات التأشيرات الخاصة بها للمواطنين الأمريكيين صباح اليوم التالي. ومع استمرار الأزمة الدبلوماسية، تحدّث فريتز لودج من “ذي سايفر بريف” مع سونر چاغاپتاي، زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، عن التحول السلبي في تصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعلاقة بلاده مع الولايات المتحدة”.
“ذي سايفر بريف”: ما مدى أهمية فرض قيود متبادلة على تأشيرات الدخول بين الولايات المتحدة وتركيا؟
سونر چاغاپتاي: أعتقد أنّها مرحلة مهمة جداً من الأزمة، وهي على الأرجح الأزمة الأكثر أهمية في الذاكرة الحديثة فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية-التركية. إنّ المرة الأخيرة التي شهدت فيها العلاقات الثنائية بين البلدين أزمةً مماثلة كانت في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، في أعقاب الحرب القبرصية، عندما حظرت الولايات المتحدة [تصدير] الأسلحة إلى تركيا وفرضت عقوبات عليها، وكانت هناك مشاعر قوية معادية للولايات المتحدة في تركيا على خلفية ظهور حركات اليسار المتطرف والطبقة العاملة.
ومنذ ذلك الحين، لم نشهد مواءمةً مماثلة للعاصفة المثالية حيث توجد هناك أزمة في العلاقات ومشاعر قوية معادية للولايات المتحدة في تركيا في الوقت نفسه. لذلك، فهذه هي المرة الأولى منذ السبعينيات التي تواجه فيها العلاقة أزمةً حادة كهذه.
“ذي سايفر بريف”: في رأيك، ما الذي أدّى إلى فرض القيود الأمريكية في المقام الأول؟
چاغاپتاي: أعتقد أنّ الردّ الأمريكي كان يتراكم. ففي أعقاب الانقلاب اعترضت واشنطن على اعتقال مواطنين أمريكيين في تركيا، بمن فيهم أولئك ذوي الجنسية المزدوجة. وكانت تركيا تحرم الولايات المتحدة من الوصول القانوني إلى المواطنين الأمريكيين. والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت اعتقال مجموعة من المواطنين العاملين في سلك “الخدمة الخارجية” [السلك الدبلوماسي]، وهم مواطنين أتراك يعملون في بعثة أمريكية. فقد اعتُقل أحدهم مؤخراً في أضنة، وآخر في اسطنبول، ووردت أنباء عن أنّه سيتم اعتقال شخص ثالث. ولذلك تحركت واشنطن.
ويبدو لي أنّه بعد الإعتقال الثاني، قررت واشنطن إبطاء طلبات الحصول على تأشيرة دخول لأهداف رسمية، ثم حذّرت تركيا من أنه إذا ما حصلت أي اعتقالات إضافية، ستعلّق واشنطن جميع طلبات الحصول على تأشيرة دخول من تركيا. وهذا هو بالتحديد ما قامت به واشنطن. فعندما توجهت السلطات التركية إلى منزل المواطن التركي الثالث الذي يعمل في البعثة الأمريكية واستجوبت زوجته وأولاده، ردّت الحكومة الأمريكية. وهذه كانت القشة التي كسرت ظهر الجمل.
“ذي سايفر بريف”: ما هي الدوافع الرئيسية وراء قرار تركيا باتّخاذ هذه الإجراءات لمضايقة هؤلاء المسؤولين أو اعتقالهم؟ وهل تمتد إلى أبعد من قضية غولن؟
چاغاپتاي: هناك مشكلة أكبر في هذا الصدد. ولا يقتصر الأمر على مجرد اعتقال مواطنين أمريكيين في تركيا. إنها تغيير النظرة تجاه أردوغان في الإدارة الأمريكية والمشاعر المتراكمة. فقد أدّى الانقلاب العام الماضي إلى القضاء على أردوغان الذي يتّبع نهجاً متدرجاً واستبداله بأردوغان متسلّط من حيث توطيد السلطة. وكان الرئيس التركي معروفاً بسياسته المكيافيلية الناجحة جداً المتمثلة في تقليص الضوابط والتوازنات الديمقراطية تدريجياً، وإبعاد المعارضة تدريجياً أو إخضاعها لحكمه. أمّا بعد الانقلاب، فظهر أردوغان مستبدّ جداً.
وقد حشد الرئيس التركي قوة أكبر منذ الانقلاب في العام ونصف العام الماضيَين مقارنة بالفترة التي تتراوح ما بين 14 و15 عاماً التى سبقت الانقلاب. وبطبيعة الحال، يعود جزء من ذلك إلى أنه قد صُدم بشدة من الانقلاب. ولكن الجزء الآخر هو أنّ ديمقراطية تركيا التي قلّصها أردوغان تدريجياً أصبحت الآن مقوّضة تماماً من قبله.
كما تغيّر رأي واشنطن في الديمقراطية في تركيا مع الاستبدال التدريجي لأردوغان المعتدل بأردوغان المتسلّط. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الاعتقالات المتعدّدة للمواطنين الأمريكيين الذين حُرّموا من الحصول على مستشار قانوني أو الوصول إلى محاميهم أو موظفي السفارة الأمريكية، والاعتقالات المتكررة للمواطنين العاملين في سلك “الخدمة الخارجية”.
“ذي سايفر بريف”: هل تعتقد أنّ هناك حسابات انتخابية وراء إجراءات الحكومة التركية؟
چاغاپتاي: ليس في الوقت الحالي. فتركيا لا تواجه انتخابات حتى عام 2019. أعتقد أنّ القلق حول الانتخابات لا يساور أردوغان حالياً. ويرى البعض أنّ السبب وراء اعتقال أردوغان لبعض المواطنين العاملين في سلك “الخدمة الخارجية” هو أنّه يريد أن يقايض بهم رجل أعمال تركي معيّن هو رضا زراب الموجود في الولايات المتحدة والذي يُزعم أنه ساعد في كسر عقوبات أمريكية على إيران من خلال اتفاق ينطوي على تجارة الذهب. ووصل زراب مؤخراً إلى الولايات المتحدة وتم اعتقاله، ويظنّ البعض أنه بمثابة الصندوق الأسود لأردوغان ويريد أن يقايض من أجله، ولذلك يَعتقل عدداً من المواطنين الأمريكيين في تركيا ليحصل على مقايضة.
وقد يكون ذلك قد جاء بنتائج عكسية كما يظهر من ردّ فعل واشنطن. فخلال الخمس عشرة سنة الأخيرة كانت الولايات المتحدة تعطي أردوغان المزيد من الحرية، وتبرّئه، وتغضّ النظر عندما يتعلّق الأمر بالانتهاكات الديمقراطية، محاولةً دائماً أن تتذكر أن تركيا أكبر من أردوغان، ولكنها قررت أن تتصرف بشكل مختلف هذه المرة. ومن ثم اتخذت واشنطن عمداً خطوةً كانت تعرف أنها ستُعجّل بحدوث أزمة. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد تغير شيئاً ما من ناحية أردوغان. وهذه ليست المرة الأولى التي يوصف فيها أردوغان بالقائد المستبد، وأعتقد أن هذه هي الصفة التي اكتسبها تدريجياً في السنوات القليلة الماضية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، لماذا اتخذت واشنطن الآن خطوةً تعرف أنها ستُعجّل بحدوث أزمة، في حين أنها كانت تغضّ النظر عن تجاوزات أردوغان منذ ما يقرب من خمس عشرة عاماً وتجنبت أزمة مع تركيا بأي ثمن؟ أظنّ أن ذلك يرتبط بشكلٍ كبير بالاعتقاد أن أردوغان كان على وشك تجاوز خط في العلاقة مع الولايات المتحدة لأنها طلبت منه الامتناع عن اعتقال المواطنين العاملين في سلك “الخدمة الخارجية” الذين يعملون في البعثات الأمريكية وفي تركيا.
“ذي سايفر بريف”: يكثر الكلام عن ابتعاد تركيا عن “حلف شمال الأطلسي” وميلها ربما نحو روسيا، ولاسيّما مع الاتفاق بشأن شراء أنظمة صواريخ أرض–جو من طراز “إس-400” من روسيا. فهل ترى أنّ ذلك يضطلع بدورٍ هنا أم أنّها مبالغة؟
چاغاپتاي: هذا جزء من تغيّر النظرة تجاه أردوغان. ففي الواقع هناك جزءان، الجزء الأول هو التعليق المتزايد للحقوق والحريات بعد الانقلاب، ونهاية أردوغان [الذي يتبع النهج] التدريجي وظهور أردوغان المستبد، الذي أعتقد أنه أساء وجهات النظر الأمريكية لتركيا كحليف ديمقراطي. أمّا الجزء الثاني، فهو ثانية أمر تغيّر بعد الانقلاب. فقبل الانقلاب، لعب أردوغان لعبةً ماهرةً تمثلت في موازنة علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين، بمن فيهم “حلف الناتو” والولايات المتحدة، والانغماس في مساعي السياسة الخارجية مع جهات فاعلة غير تقليدية وغير مواتية. واقتنعَ الجميع أن هذه السياسة الخارجية التركية، التي تمثّلت بتواصل تركيا مع إيران ونظام الأسد قبل الحرب السورية ومع روسيا، ولكنها حافظت في الوقت نفسه على التواصل مع حلفاء الولايات المتحدة و”حلف الناتو”. وكانت هذه لعبة التوازن التي لعبها أردوغان قبل الانقلاب.
أمّا بعد الانقلاب، فغابت لعبة موازنة السياسة الخارجية التي كان يلعبها أردوغان بمهارة. وربما يعود جزء من ذلك إلى اعتقاد أردوغان بأنّ غولن يقف وراء الانقلاب، وهو موجود في الولايات المتحدة. وربما لأنّ الولايات المتحدة تأخرت في إصدار إدانتها للانقلاب. أو ربما لأن المسؤولين الأمريكين، [من بينهم] نائب الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن، لم يذهبوا إلى أنقرة إلا بعد مرور أسابيع لكي يتمنوا لها التوفيق. ولم يقتنع الجميع بأنّ الولايات المتحدة كانت تساند تركيا 100 في المائة فيما يتعلق بالانقلاب. وهذا ما سمح لأردوغان بتعديل التوازن، إذ لم يعد يلعب اللعبة الماهرة المتمثلة في تحقيق التوازن بين علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين، وإشراك شركاء بغيضين بصورة أكثر.
سأعطيك مثالَين. المثال الأول هو زيارة رئيس أركان الجيش الإيراني لتركيا مؤخراً، وكانت آخر مرة زار فيها رئيس الأركان الإيراني تركيا قبل الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. والمثال الثاني هو زيارة رئيس فنزويلا نيكولا مادورو لتركيا، وبقدر ما أستطيع أن أتذكر، لم يقُم رئيس فنزويلي بزيارة تركيا في الذاكرة الحديثة. وبالطبع، هناك قلق في واشنطن من أنّ السياسة الخارجية التركية، التي كانت خليطاً من الإشكالية والبراغماتية ، أصبحت الآن أكثر إشكاليةً وفي الواقع ليست براغماتية على الإطلاق. ولعلّ هذا جزء من دينامية أردوغان المتغيرة التي نتحدث عنها.
“ذي سايفر بريف”: ما هو المسار للمضي قدماً في هذه الحالة؟ إلى أي مدى قد تتفاقم هذه الأزمة؟ وكيف يمكن أن تؤثر على المصالح الأمريكية إذا أصبحت أزمةً شاملة؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تهدّئ الوضع؟
چاغاپتاي: إنّ أقلّ ما ينبغي أن يقوم به أردوغان هو إطلاق سراح المواطنين في سلك “الخدمة الخارجية” الذين يعملون في البعثات الأمريكية. وعلى الرغم من أنهم مواطنين أتراك ولا يتمتعون بحصانة دبلوماسية، إلّا أنّ هناك اتفاق ضمني بين البلدان بمنح هؤلاء المواطنين الذين يعملون في البعثات الأجنبية نوعاً من الحماية. أعتقد أنّ الولايات المتحدة ستصرّ على ذلك. وأظنّ أن واشنطن تعلم أنه إذا لم تتم حماية المواطنين العاملين في سلك “الخدمة الخارجية”، فلن تجد مواطنين أتراك للعمل في البعثات الأمريكية. والسؤال المطروح هو ما إذا كانت تركيا ستوافق على الإفراج عن هؤلاء المعتقلين، وتعِد بعدم اعتقال المزيد من المواطنين الأتراك العاملين في البعثات الأمريكية. وقد يقبل أردوغان بهذه الصفقة، ولكن يجب أن يحصل هو أيضاً على شيء في المقابل ليبدو أنه لا يخسر. وعلينا أن نتذكّر، بأن صفة أردوغان على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية تمثّلت بأنه الشخص الذي يفوز دائماً، لذلك يجب أن يخرج من هذه الأزمة فائزاً. وإذا من الممكن التوصل إلى اتفاق من هذا القبيل، فعندها يكون لدينا صفقة.
وأعتقد أنه من المرجح أن نتوصل إلى اتفاق، توافق بموجبه تركيا على إطلاق سراح المواطنين والموظفين العاملين في سلك “الخدمة الخارجية” بطريقة لا تبدو وكأنها الخاسرة. وبطبيعة الحال، سيخرج أردوغان من هذه الأزمة ندوباً لأنّ واشنطن، التي أدارته على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية ودائماً ما تجنبت الصراع وتغاضت عن تجاوزاته الدبلوماسية وغيرها، لم تقم بذلك للمرة الأولى. وهذه ضربة سياسية مهمة لأردوغان. لذلك، حتى إذا توصلنا إلى حلّ لهذه الأزمة، فنظرته إلى الولايات المتحدة لن تكون هي نفسها مرة أخرى [أي سوف تتغير إلى الأبد].
معهد واشنطن