لم تكن التفاهمات الروسية- السعودية يوما بعيدة المنال، فهناك فى الذاكرة رصيد ضخم من الود بين البلدين يضرب بجذوره لنحو قرن من الزمان. فقد كانت روسيا السوفيتية أول دولة اعترفت بالمملكة العربية السعودية، وأقامت العلاقات الدبلوماسية معها عام 1926، وكانت المملكة أول دولة عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع موسكو، وزار ولى العهد آنذاك، الأمير فيصل بن سعود، الاتحاد السوفيتى عام 1932، وكانت الأولى لزعيم عربى، واستمرت 9 أيام. كما كان القنصل الروسى كريم خان حكيموف من المقربين جدا من الملك عبد العزيز، وكان يصلى إلى جواره مباشرة فى المسجد، فقد كان مسلما، ويجيد العربية.
ورغم أن زيارة المللك سلمان لموسكو هى الثانية له، حيث سبق أن زار روسيا عام 2006 وقت أن كان أميرا للرياض، فإن زيارته الأخيرة تعد تاريخية بكل المقاييس، وتمثل انطلاقة مهمة للعلاقات بين البلدين، وإذابة الجليد الذى خيم على العلاقة بينهما لسنوات، فهى الأولى لملك سعودى، ولم يسبق أن زار ملك السعودية، بصفته، روسيا. كما أنها لم تكن من قبيل الزيارات الخاطفة، حيث استمرت 4 أيام، مما أفسح المجال لتفاهمات حول القضايا الشائكة والجدلية بين البلدين.
وقد كان الحصاد الاقتصادى هو الأبرز والأكثر زخماً خلال الزيارة، حيث وقعت روسيا والسعودية حزمة من الاتفاقات، من شأنها أن تحقق نقلة نوعية في التعاون الاقتصادى والتقنى بين البلدين فى مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والنقل والاتصالات، وتقنية المعلومات، والزراعة، وغيرها، إلى جانب عشرات الصفقات التى تمت على هامش المنتدى الروسى- السعودى للاستثمار الذى شارك فيه أكثر من 200 من رجال الأعمال والمستثمرين، فضلا عن بحث التعاون العسكرى، وصفقة “إس-400” للسعودية، فى سابقة تاريخية هى الأخرى.
إلا أن الزيارة حققت ما هو أبعد وأهم من ذلك. فالحفاوة البالغة التى تم استقبال الملك سلمان بها فى روسيا وفرت مناخا ملائما لدفع التفاهمات بين البلدين حول القضايا الإقليمية محل الخلاف، خاصة سوريا. فخلال الزيارة، أكد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، فى مقابلة مع قناة “روسيا – 24” يوم 6 أكتوبر، أن الدولتين تعملان على تقريب موقفيهما من أجل التوصل إلى حل سلمي في سوريا، وأشار إلى الدور المهم الذي تلعبه روسيا في منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو أن السعودية قد أدركت أخيراً أن روسيا فاعل دولى مؤثر فى المنطقة، وأن ترتيبات إقليمية مهمة تقودها موسكو بالتعاون مع إيران، الخصم التقليدى للرياض، وتركيا. هذه الترتيبات قد تهمش من الدور السعودى فى وقت تسعى فيه الرياض إلى أن تصبح فاعلا إقليميا قائدا فى المنطقة، فوجدت نفسها مضطرة للتفاهم مع روسيا، حتى لا تجد نفسها خارج المشهد الإقليمى. وتطمح السعودية إلى أن تنجح التفاهمات مع موسكو فى وضع المصالح السعودية على الطاولة الروسية، وعدم ترك الأخيرة للتأثير الإيرانى المطلق من ناحية، والنفوذ القطرى المتزايد من ناحية أخرى، فى وقت تتوتر فيه علاقات الرياض بكل من طهران والدوحة.
يعكس ذلك الأمر برجماتية غير مسبوقة فى السياسة السعودية، وأن الرياض بدأت فى قراءة صائبة للمشهد الدولى والإقليمى، وأدركت خطورة الرهان الأوحد على الولايات المتحدة، ووضع كل البيض فى “السلة الأمريكية”، وخطورة الاعتماد على الشراكة المطلقة مع واشنطن، خاصة أن هناك ما يشبه التربص بالسعودية داخل الكونجرس الأمريكى، تعكسه جلسات الاستماع المتكررة داخل الكونجرس حول مدى تقدم السياسة السعودية فى مكافحة الإرهاب، وكأن هناك رغبة فى الإيقاع بالرياض والإجهاز عليها، وإحراج ترامب، بعد إعلانه دعمه الصريح والمعلن للمملكة، خلال قمة الرياض.
من ناحية أخرى، تحتاج موسكو إلى تفاهمات مع السعودية، حتى تستطيع دفع مسارى أستانا وجنيف للتسوية فى سوريا. فالرياض لها علاقات قوية وتأثير فى عدد من الجماعات المسلحة داخل سوريا، إلى جانب تأثيرها فى منصة الرياض للمعارض السورية، إحدى منصات ثلاث، إلى جانب منصتى موسكو والقاهرة.
ويعد الملف السوري من أبرز القضايا التي يمكن أن تتأثر بتطوير علاقات أكثر متانة بين السعودية وروسيا. وقد نجحت الزيارة فى تجاوز التوتر بين الجانبين حول سوريا، أو ما أطلق عليه البعض “عبور النهر” بين البلدين. وكان دعم روسيا للأسد، ثم تدخلها العسكري القوي لمساندته من القضايا الخلافية بين البلدين. فرغم أن روسيا لم تغير موقفها تجاه سوريا، خاصة فيما يتعلق بدعمها لبقاء الرئيس بشار الأسد، فإن السعودية من جانبها لم تعد تتحدث كثيرًا عن ضرورة إزاحته.
وتعول روسيا على السعودية فى توحيد المعارضة السورية، والتقريب بين المنصات الثلاث، خاصة أن منصة الرياض هى التى كانت دوما شاردة بعيداً عن التوافق. ويشير بعض المحللين إلى أن المملكة قد تعقد اجتماعًا للمعارضة السورية في الرياض، منتصف شهر أكتوبر الجاري، لحثها على إعادة هيكلة مطالبها السياسية، وتوحيد صفوفها. وقد تتجه الرياض إلى التخلى عن دعم فصائل مسلحة عدة في سوريا، واستئناف العلاقات التجارية مع دمشق، حتى مع بقاء الأسد في السلطة، وكذلك المشاركة في إعادة إعمار سوريا، لا سيما في المناطق التي تقطن فيها الأغلبية السنية، حتى لا تترك الساحة بالكامل لطهران.
كما أن تفاهمات بشأن الملفين السورى واليمنى تبدو ممكنة أيضاً. وكان وزيرا خارجيتى السعودية وإيران تبادلا المصافحة، على هامش قمة اسطنبول لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، مطلع أغسطس الماضى، الأمر الذى عدّه المحللون بادرة تعبر عن حسن النية لدى كلا الطرفين، بل وتشكل خطوة عملية على طريق تفاهم حقيقي بين الرياض وطهران، قد تلعب فيه موسكو دور الوساطة، على النحو الذى يسهم بفاعلية فى تهدئة العديد من القضايا الساخنة فى المنطقة.
نورهان الشيخ
مجلة السياسة الدولية