في 12 تشرين الأول/أكتوبر، توصلت حركتا «فتح» و «حماس» إلى سلسلة جديدة من التفاهمات في القاهرة، وصفها رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس بأنها “الاتفاق النهائي لإنهاء الانقسام”. وفي حين قد يساعد الاتفاق على إرساء الاستقرار وتقديم بعض الإغاثة الإنسانية إلى غزة، إلا أن شروطه ليست نهائية بعد. ففي أفضل الأحوال، اتفق الطرفان مرة أخرى على البدء في التفاوض حول تطبيق اتفاق سابق كانا قد توصلا إليه في عام 2011، وذلك في المقر الرئيسي نفسه لـ”جهاز المخابرات العامة” المصري. وعلى الرغم من أن الكثير قد تغير منذ ذلك الحين، إلا أن المسائل الشائكة نفسها التي حالت دون المصالحة التامة لا تزال قائمة.
القاهرة تفرض نفسها
إن مصر هي المحرك الرئيسي وراء إجراء المحادثات، حيث اغتنمت الفرصة الناتجة عن التحوّلات في صفوف «حماس» والتوترات داخل حركة «فتح». وما يحفز القاهرة هو الرغبة في منع العناصر في غزة من دعم إرهابيي سيناء، الأمر الذي يساهم في استقرار القطاع ويؤكّد من جديد على دور مصر الريادي في الملف الفلسطيني قبل حصول تطورين وشيكين: الاستئناف المحتمل للمحادثات الفلسطينية-الإسرائيلية بقيادة الولايات المتحدة ونقل الحكم إلى خلف عباس الذي لا يزال مجهول الهوية. وتتشارك القاهرة أيضاً هدفاً واحداً على الأقل مع دولة الإمارات ألا وهو تقويض دور قطر وتركيا في غزة.
وبالنسبة إلى «حماس»، أدّت التغييرات الداخلية الأخيرة على مستوى القيادة إلى نقل مركز الثقل إلى مسؤولين أقل انسجاماً مع مصالح الدوحة وأنقرة وأكثر حساسية تجاه مسائل مرتبطة بغزة. وكانت الوساطة القطرية والتركية قد فشلت في التوصل إلى وقف إطلاق نار موات لصالح الحركة بعد حرب «حماس» مع إسرائيل عام 2014، لذلك خلص قادة الحركة المتمركزون في غزة إلى أن العنصر الرئيسي لتحسين الوضع في القطاع يكمن في القاهرة (على الرغم من أن الخلافات بين «حماس» ومصر لا تزال عميقة حول عدد من القضايا). وتعزّزت هذه القناعة في وقت سابق من هذا العام عندما فرض عباس سلسلة من الإجراءات العقابية على القطاع، مما حضّ «حماس» على التوصل إلى تفاهمات بوساطة مصرية مع عدوها السابق – ومنافس عباس الحالي – محمد دحلان.
ونظراً إلى ارتياب عباس من «حماس» ومصر على حد سواء، بدا أنه راضياً عن مواصلة تصعيد الضغوط على «حماس» وغزة إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، فإن إصرار مصر على إرساء الاستقرار في القطاع واستعدادها الواضح والمعلن في بحث الأمر مع دحلان إذا دعت الحاجة لذلك، تركا الرئيس أمام خيارين إما الإنخراط أو مواجهة التهميش.
ما هو محتوى الاتفاق؟
تشبه التفاهمات الجديدة جدول زمني طموح أكثر من اتفاق فعلي. فبحلول 1 كانون الأول/ديسمبر ستتولى “السلطة الفلسطينية” المسؤولية على قطاع غزة؛ وستبدأ المناقشات حول إجراء انتخابات وإعادة تنظيم صفوف “منظمة التحرير الفلسطينية” في 14 تشرين الثاني/نوفمبر؛ وسيُتخذ القرار بشأن معضلة موظفي الخدمة المدنية المنتمين إلى «حماس» بحلول الأول من شباط/فبراير. ولكن لا يوجد حتى تاريخ محدد لمناقشة معظم القضايا الأمنية.
ويتمثل الاستثناء الوحيد المهم المحتمل لهذا الغموض في معبر رفح، الذي أفادت بعض التقارير أن الطرفين وافقا على إعادة فتحه ووضعه تحت سيطرة “الحرس الرئاسي” التابع لـ”السلطة الفلسطينية” في تشرين الثاني/نوفمبر، مع ما يترتب على ذلك من تبعات يحتمل أن تكون مهمة للوضع الإنساني في غزة. وفي ظل اعتراضات «حماس»، أدرجت مصر هذه الفكرة للمرة الأولى في تفاهمات وقف إطلاق النار التي أعقبت حرب عام 2014. بيد، رفض عباس هذا الاقتراح في ذلك الوقت، وطالب بأن تتخلى «حماس» أولاً عن كل السلطة على غزة. لكن هذه المرة، سعت مصر إلى تجنّب مثل هذه الاعتراضات من خلال تولي زمام الأمور بنفسها. وفي أوائل حزيران/يونيو، حين بدأت الترتيبات بين «حماس» ودحلان، أشارت القاهرة إلى أنها ستفتح قريباً المعبر وبدأت بتحسينه، وبذلك زادت الضغوط على عباس.
ما الذي يجب مراقبته عن كثب
أحدث الحماس العام المحيط بمبادرة المصالحة المصرية زخماً أجبر أساساً عباس و «حماس» على الإعلان عن [التوصل إلى] اتفاق. ومع ذلك، أظهرت محاولات الوحدة السابقة أنه بمجرد تحوّل التركيز الخارجي والداخلي إلى مكان آخر، تميل التفاصيل الشائكة إلى إخراج العملية عن مسارها، ليلقي بعدها كل طرف اللوم على الطرف الآخر. ومن أجل إظهار جدية الجهود الأخيرة، لا ينبغي النظر في نص الاتفاق، بل بالطريقة التي تتبلور من خلالها العوامل التالية على أرض الواقع:
نفوذ “السلطة الفلسطينية” على غزة. قد تسمح «حماس» لوزراء السلطة الفلسطينية باستئناف مهامهم في غزة، وربما حتى تجيز تشكيل حكومة “توافق وطني” جديدة. غير أن التحدي الفعلي يكمن في إحداث تغيير على المستويات دون الوزارية. فمنذ استيلاء «حماس» على الحكم عام 2007، وضعت الحركة موالين لها في كافة المناصب القيادية في وزارات غزة. ونتيجةً لذلك، كان دور الوزراء الذين يتخذون من رام الله مقراً لهم صورياً في أحسن الأحوال، حتى خلال حكومة “الوفاق الوطني” التي تشكّلت عام 2014 برئاسة رامي الحمد الله. ومن دون إجراء تغييرات على مستويات وكلاء الوزراء والمدراء العامين، ستبقى السلطة المحلية الفعلية بيد «حماس».
وقد عيّنت «حماس» أيضاً نحو 40 ألف موظف لاستبدال مَنْ أَمَرَتهم رام الله بالبقاء في منازلهم بعد انقلاب عام 2007. وتصرّ الحركة على دمج جميع هؤلاء المعيّنين في لائحة رواتب “السلطة الفلسطينية”. وكانت الحكومة السويسرية قد أعدّت اقتراحاً مفصلاً لمعالجة هذه المسألة التي تتطلب تنازلات من الجانبين. وسيشير مدى انخراط سويسرا في المفاوضات المستقبلية مدى جدية التعامل مع المسألة.
دور دحلان. كانت الرغبة في إبقاء دحلان خارج العملية إحدى دوافع عباس الرئيسية للمشاركة في جهود المصالحة الأخيرة. إلا أن دحلان سبق أن ضمن دوراً له من خلال التوسط في اتفاق لتزويد غزة بالوقود المصري حين قطع عباس الكهرباء عن القطاع. كما وعد دحلان بجلب مشاريع تنمية مموّلة من الإمارات إلى القطاع، وهو يقود حالياً جهود “المصالحة الاجتماعية” – أي دفع تعويضات لأسر القتلى خلال المواجهات بين «حماس» و”السلطة الفلسطينية” عام 2007. ولا يزال بعض قادة «فتح» يحاولون الحد من دوره من خلال الإصرار على مرور كافة المساعدات المخصصة إلى غزة عبر “السلطة الفلسطينية”، لكن من المستبعد أن تذعن مصر – الحليف الوثيق لدولة الإمارات – لهذا المطلب. إن استعداد عباس لقبول دور يلعبه دحلان سيكون مهماً في نجاح المصالحة أو فشلها.
استمرار المشاركة المصرية. تجلت جهود مصر القوية والاستباقية لإبرام الاتفاق الجديد بوضوح في خطابات الدعم التي أدلى بها الرئيس عبد الفتاح السيسي والمشاركة الشخصية لمدير المخابرات خالد فوزي. ومنذ ذلك الحين، أرسلت القاهرة بعثة إلى غزة لمراقبة وتسهيل تطبيق الاتفاق. ومع ذلك، تواجه مصر العديد من التحديات الأمنية الخاصة بها التي قد تحوّل انتباهها بعيداً عن المصالحة الفلسطينية. وسيحدد مدى قدرتها على المحافظة على انخراطها العميق مصير هذه العملية.
قوات أمنية مزدوجة. عندما بسطت «حماس» سيطرتها على غزة، أسست جهازاً أمنياً رسمياً خاصاً بها مكلَفاً بمهام الشرطة و”الأمن الداخلي”. وتتألف هذه القوة عموماً من مؤيدي الحركة، في حين يتمّ اختيار سلك الضباط من أعضاء الحركة حصراً. والآن تريد «حماس» أن يتم دمج هذا الكيان ضمن “قوات أمن السلطة الفلسطينية”، ولكن ذلك يتطلب تبلور أحد هذه السيناريوهات غير الواقعية التالية: سيتعين على «حماس» السماح لقواتها بالعمل تحت إشراف وزير داخلية تعينه «فتح» وضباط أمن يأخذون تعليماتهم منها كما ينص عليه القانون الفلسطيني؛ أو سيتوجب على رام الله السماح لأعضاء «حماس» باستلام هذه المناصب الدقيقة؛ أو سيتعين على “السلطة الفلسطينية” السماح لقوات «حماس» بالعمل خارج سيطرتها. ولا يبدو أن الطرفين يقبلان أياً من هذه السيناريوهات. وعلاوةً على ذلك، يُعتبر إدراج أي عناصر من «حماس» في “قوات أمن السلطة الفلسطينية” خطاً احمر بالنسبة للمجتمع الدولي، الذي من المحتمل أن يُنهي المساعدات الدولية الهامة التي تتلقاها هذه القوات ووزارة الداخلية.
كتائب القسام. تقع “كتائب عز الدين القسام”، وهي ميليشيا «حماس» المستقلة والمتمرسة والمسلحة بشكل جيد والتي تضم حوالى 25 ألف مقاتل حالياً، في صميم الخلاف بين الطرفين. فمصير هذه القوة سيحدّد الجهة التي تتحكم فعلياً بقطاع غزة. وكان عباس قد أعلن بالفعل أنه يريد حلها وأنه لن يقبل بـ “نموذج «حزب الله»” في غزة. ومع ذلك يبدو أن «حماس» تعني ما تقوله حين تصرّح بشكل متكرر وتصرّ على أن “سلاح المقاومة غير قابل للتفاوض”. وفي هذه المرحلة، لا يمكن حلّ هذه المسألة بصورة مجدية؛ وإذا ما تمّت معالجتها يوماً، سيلتزم الطرفان على الأرجح بصيغ فارغة (على سبيل المثال “الشراكة في اتخاذ قرارات الحرب والسلم”) أو تشكيل “قيادة مشتركة” غير فعالة.
المحصلة
لقد أحرزت أساساً هذه الجولة من المصالحة الفلسطينية تقدّماً أكبر من سابقاتها بسبب تزامنها مؤقتاً مع مصالح مصر و «حماس» وانعدام الخيارات الأخرى لعباس. ورغم أن العملية قد بدأت للتو، إلا أنها تواجه العديد من العقبات. وفي ظل الظروف المناسبة والصحيحة، وبضغوط مصرية مستمرة، يمكن تجاوز بعض تلك العقبات، مثل تحديد دور مقبول لدحلان وممارسة قدر من السيطرة من قبل “السلطة الفلسطينية” على البيروقراطية في غزة. ولن تكون هذه الخطوات بمثابة إنجازات صغيرة، لأنها قد تساهم في تخفيف المعاناة الإنسانية في غزة، والحدّ من احتمال تجدد الصراع مع إسرائيل، وتمهّد الطريق أمام تلقي القطاع المزيد من المساعدة الدولية – وهو هدف محدد لإدارة ترامب. وحتى أن سيناريو متفائل للغاية قد يتمثل بحصول مصر و «فتح» على موطئ قدم في غزة، وإذا ما توافرت الإرادة والمهارة اللازمتان – سوف يخفف في النهاية من قبضة «حماس» على القطاع. إلا أنه لا يجب تفسير أي من هذه السيناريوهات على أنه وحدة [بين الحركتين]. فلكي تتحقق هذه، يجب أن تتخلى «حماس» عن قدراتها المسلحة، وهي فكرة غير مطروحة حالياً.
غيث العمري
معهد واشنطن