نجح التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في القضاء على “دولة الخلافة” وحشر التنظيم في منطقة حدودية بين سوريا والعراق تشكل نقطة التقاء مصالح لقوى إقليمية ودولية.
وفيما يتوارى تنظيم داعش عاد إلى الواجهة الأميركية حديث كان سائدا قبل ظهور “دولة الخلافة”، وهو الخطاب المتعلق بتنحي الأسد كشرط رئيسي لحل الأزمة في سوريا والدخول في مرحلة إعادة الإعمار.
جاءت هذه النقلة على لسان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، خلال مؤتمر صحافي في جنيف، آخر محطة من جولة له استمرت أسبوعا، حيث قال “الولايات المتحدة تريد سوريا كاملة وموحدة، لا دور لبشار الأسد في حكمها”.
وتزامنت تصريحات تيلرسون مع صدور تقرير للأمم المتحدة، الخميس 26 أكتوبر 2017، يؤكد مسؤولية النظام السوري في الهجوم القاتل بغاز السارين في أبريل 2017.
وكان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قال إن استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية “خط أحمر” سيدفع واشنطن للتدخل عسكريا في سوريا.
لكن، ورغم أن النظام السوري استعمل بعد ذلك التصريح بوقت قصير السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية (سنة 2013) لم تتدخل الولايات المتحدة كما توعد أوباما الذي كان منهمكا في إنهاء الاتفاق النووي مع إيران بأي ثمن، ثم جاءت أولوية الحرب ضدّ تنظيم داعش.
حروب جديدة
مع تراجع دور داعش في سوريا تبرز جولة جديدة من الصراع وعدم الاستقرار في البلاد. فالجهاديون الفارون يتجمعون ويعيدون التسلح بمساعدة المهربين في الصحراء. وفي الأثناء تشكل محافظة دير الزور، الغنية بحقول النفط والغاز، مسرحا لعمليتين عسكريتين: الأولى يقودها النظام السوري بدعم روسي على الضفة الغربية لنهر الفرات والثانية تنفذها قوات سوريا الديمقراطية بدعم أميركي على الضفة الشرقية.
ويقول كريستوفر ميسيرول، الباحث في مركز الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز، “تعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية الجزء الأسهل. أما الأصعب فهو توفير السلام عبر ضمان ألا تبدأ الأطراف في دير الزور بالقتال في ما بينها”.
ويضيف “لا يمكن للرهان على دير الزور أن يصل إلى أبعد مما هو عليه الآن”، موضحا “يريد نظام الأسد أن يسيطر على المنطقة الغنية بالنفط حول مدينة دير الزور، ويريد الإيرانيون طريقا بريا إلى البحر المتوسط، ويريد الأكراد حاجزا يفصل بين أراضيهم في الشمال وقوات الأسد”.
وانعكس التنافس بشكل واضح حين سيطرت قوات سوريا الديمقراطية على حقل العمر النفطي الذي كان يشكل هدفا للجيش السوري وحليفته روسيا.
وتصر دمشق وحليفتها طهران على منع الأميركيين من الوقوف عائقا أمام طهران التي تريد ضمان طرق برية لها إلى سوريا ولبنان مرورا بالعراق. لذلك تفضل إيران، التي وصفها تيلرسون بأنها “مجرد متطفل” و”لا فضل لها في هزيمة داعش”، أن تسيطر قوات الحشد الشعبي على تلك المنطقة بدلا من القوات العراقية التي تحظى بدعم أميركي.
أما الولايات المتحدة، فتريد السيطرة على الحدود السورية-العراقية عبر “إنشاء قوى عربية قادرة على إدارة المنطقة، ما يتيح لها إمكانية قطع الممر الإيراني قيد الإنشاء”، وفق ما يقوله الخبير في الشؤون السورية بجامعة ستانفورد فابريس بالانش.
ويتوقع الكاتب نيكولاس غفوسديف، في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنترست اندلاع مواجهات حامية الوطيس بين موسكو وواشنطن عقب هزيمة داعش واستعادة جميع الأراضي التي سبق له أن استولى عليها.
ويقول غفوسديف “بمجرد دحر داعش، التهديد المشترك لكل من روسيا والولايات المتحدة، فإن احتمالات المواجهة بينهما تتصاعد”.
ويضيف أنه “بعد هزيمة داعش في كل من سوريا والعراق لا يزال يتم تأجيل المناقشات المهمة حول ما بعد داعش التي ينبغي أن تكون بدأت بين جميع أصحاب المصلحة”.
تصر دمشق على منع الأميركيين من الوقوف عائقا أمام طهران التي تريد ضمان طرق برية لها إلى سوريا ولبنان مرورا بالعراق
ويؤكد أن “الأزمة الكردية هي أولى المظاهر الجدية للمشاكل المطروحة حول المستقبل، والأخطر هو احتمال استمرار الاشتباك حول مستقبل سوريا ما بعد داعش بين الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة والائتلاف الآخر بقيادة روسيا”.
وتذكر صحيفة نيويورك تايمز أنه بتراجع التهديد الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية، يتوقع أن تعيد الحكومة السورية تركيز اهتمامها العسكري للمعارضة عن طريق تكثيف ذلك النوع من القصف الذي خلف أعدادا كبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين، دون أن يلوح دليل على وجود حل سياسي في الأفق.
إعادة الإعمار
يدخل على خط الجدل موضوع إعادة إعمار سوريا. وجاء طرح هذا الموضوع من جانب نظام الأسد وحلفائه وكأنه يوحي بأن الحرب الرئيسية الدائرة في البلاد كانت ضد تنظيم الدولة الإسلامية وليست ضد قمع النظام واستنجاده بجهات خارجية لإسكات السوريين الذين خرجوا سلميا مطالبين بحقوقهم قبل أن تتحول ثورتهم إلى حرب دولية بالوكالة.
وكتبت بيتاني ألن إبراهيميان، المحللة في مجلة فورين بوليسي أن إعادة إعمار سوريا تعد بعقود مربحة للشركات الروسية والإيرانية، مشيرة إلى أن المناطق التي شهدت دمارا ومقتل مئات الآلاف من الأشخاص صارت بالنسبة إلى شركات داخل سوريا وخارجها عناوين للربح. فكل جسر وطريق ومصنع وجسر مدمّر سيكون فرصة لعقود مربحة مع الحكومة.
وكانت دمشق نظمت في شهر أغسطس الماضي معرض دمشق الدولي الذي واكبته شركات من نحو عشرين بلدا، منها الصين والبرازيل، إلى جانب الحضور الطاغي للشركات الروسية والإيرانية المرتبطة بالحرس الثوري. ويعد هذا المعرض الأول من نوعه منذ بداية الحرب عام 2011. وأعلن خلاله أن البلاد مفتوحة للعمل مرة أخرى، مع استبعاد شركات من الدول التي قاتلت ضد نظام الأسد.
وخلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، قالت 14 دولة معظمها من الدول الغربية والخليجية المعارضة للأسد، إنها لن تشارك في إعادة إعمار سوريا حتى يتم إجراء “عملية سياسية” تنطوي على خروج الأسد من السلطة.
وأكد مستشار الأمن القومي الأميركي إي إتش ماكماستر هذا الموقف، خلال لقاء عقد يوم 19 أكتوبر 2017 في واشنطن، قائلا “يجب أن نضمن عدم ذهاب دولار واحد على إعادة بناء أي شيء تحت سيطرة هذا النظام”.
يذكر سام هيللر، الباحث المتخصص بالشأن السوري، في دراسة حول إعادة إعمار سوريا، نشرته مجلة فورين افيرز، أن عملية إعادة الإعمار باتت بمثابة المعركة القادمة من أجل إعادة صياغة المشهد السياسي في سوريا.
دمار في كل مكان
وكتب هيللر قائلا “الآن، وبعد أن نجح الرئيس السوري بشار الأسد في هزيمة أو تحييد جزء كبير من التمرد في بلاده، بدأ الاهتمام المحلي والدولي يتحوّل نحو الاستقرار وإعادة الإعمار. ومن الممكن الآن تصور سوريا ما بعد الحرب، على الأقل في أجزاء من هذا البلد”.
ويضيف أنه بالنسبة لداعمي المعارضة السورية، تعد صناديق إعادة الإعمار واحدة من آخر أدواتها المتبقية أو الورقة الأخيرة للضغط على النظام السوري الذي ترفض قطاعات واسعة من المجتمع الدولي، بما في ذلك، البلدان المانحة الرئيسية، استمراره وترى أنه فقد شرعيته كرئيس للدولة السورية التي ستجرى إعادة إعمارها.
وفي مواجهة التعقيدات الراهنة، يقترح الخبراء خططا ملتوية ومعقدة حول كيف يمكن للغرب إعادة بناء سوريا “على الرغم من الأسد وكيف يُمكن أن يكون المال وإعادة الإعمار بابا لحض النظام السوري على تقديم تنازلات سياسية”.
وأُعلن في اجتماع انعقد يوم 21 سبتمبر بين الجهات الفاعلة بما فيها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أن إعادة الإعمار في سوريا تتوقف على عملية سياسية ذات مصداقية تؤدي إلى انتقال سياسي حقيقي يمكن أن يحدث بدعم من الغالبية العظمى من الشعب السوري.
وقال بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني “لقد تبقت لدينا بطاقة واحدة يمكننا اللعب بها، وهي الأموال التي يمكن أن نقدمها لإعادة إعمار سوريا“.
لكن، وأمام الحقائق الملموسة والواقع الميداني، الذي تتحكم فيه أساسا روسيا، ومن ورائها إيران، يفرض وفق هيللر “عدم تمويل إعادة بناء سوريا”.
ويوضح رؤيته بأن الغرب يرى أنه يمكن أن يستخدم التمويل للحصول على تنازلات من دون تغيير النظام، بما في ذلك إدارة لا مركزيّة وإطلاق سراح معتقلين، لكن النظام وضع هيكلة اقتصادية بسورياـ وبنظره، فالدول الغربية التي تقدّم تطبيعا دبلوماسيا أو تمويلا لإعادة الإعمار، تعمل من موقع الضعف.
واقترح عدد من الخبراء فكرة تمويل مشاريع محلية صغيرة في مناطق خارجة عن سيطرة النظام ودون مشاركة النظام أو موافقته.
ولكن هذه المشاريع لن تكون إعادة إعمار بالمعنى المعقول، وفق هيللر، الذي يؤكد أن إعادة الإعمار الاستراتيجي الحقيقي لا تحدث على أطراف سوريا، بل في أكثر المناطق حيوية واكتظاظا بالسكان والتي يسيطر عليها النظام. وتشمل هذه المناطق مدنا مدمرة مثل حلب وحمص.
صحيفة العرب اللندنية