تغيَّر الرئيس وتغيرت الإدارة في الولايات المتحدة. وتبعاً لذلك، تغيرت المقاربات والسياسات، بما في ذلك نحو الشرق الأوسط. أيضاً، تغيرت معطيات وديناميكيات كثيرة في المنطقة، ما بين العام الماضي والعام الجاري، غير أن ثمة ثابتاً لم يتغير فيها، بل ويأبى أن يتغير، وهو ركون القيادة الفلسطينية الرسمية إلى الولايات المتحدة، ووضعها كلَّ بيضها في سلتها. رفْضُ الخارجية الأميركية، يوم الجمعة الماضي، تجديد تصريح عمل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، بذريعة دعوة مسؤولين فلسطينيين المحكمة الجنائية الدولية للنظر في جرائم إسرائيل، يمثل ابتزازاً أميركياً للفلسطينيين لصالح إسرائيل. ولكن هذا الابتزاز ليس جديداً من حيث المبدأ. الجديد فيه أنه نوعٌ متقدمٌ، فكل الإدارات السابقة مارست الابتزاز مع الفلسطينيين، منذ بدأت ما تُسمى عملية السلام.
من الزاوية القانونية الأميركية البحتة، ما فعله وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، برفض تجديد ترخيص عمل البعثة في واشنطن، صحيح (بغض النظر عن موقفنا الرافض له)، فثمة قانون أصدره الكونغرس عام 2015 يلزم وزير الخارجية بأن يصدّق، كل ستة أشهر، على أن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ملتزمتان بشروط معينة، منها أن لا ينخرطوا في أي جهود لرفع دعاوى على إسرائيل أو أي من مسؤوليها أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولما كان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، قد دعا في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، المحكمة للتحقيق في جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين ومحاكمتها، فلم يكن أمام
تيلرسون، تقنياً (لا عملياً)، من خيار إلا أن يُفَعِّلَ هذا البند القانوني الأميركي عندما جاء أوان الترخيص للمكتب من جديد هذا الشهر. هذا من الزاوية القانونية الأميركية الصرفة، لكن القضية أعمق من ذلك بكثير، والدليل أن هذا البند لم يُفَعَّلْ من قبل تحت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، على الرغم من أن مسؤولين فلسطينيين هددوا بمقاضاة إسرائيل أمام “الجنائية الدولية”، كما سبق للسلطة الفلسطينية أن قامت بأمور أخرى يحظرها القانون الأميركي، مثل تقديم دفعات شهرية لعائلات سجناء فلسطينيين متهمين بشن هجمات على إسرائيل. ما يؤكد أن لهذا التحرك أسباباً أبعد من الحَرْفِيَّةِ القانونية أن إدارة الرئيس، دونالد ترامب، لم تتردّد في إعلان الغرض الحقيقي لهذه الخطوة، وهو ضرورة دخول منظمة التحرير في “مفاوضات مباشرة وهادفة من أجل التوصل إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل”. وأمام ترامب تسعون يوماً، حسب القانون الأميركي نفسه، ليقرّر إن كانت المنظمة قد دخلت مفاوضات جادة مع إسرائيل، وبالتالي، يمكنه تعطيل إغلاق مقر البعثة الفلسطينية في واشنطن، إن شاء.
ضمن السياق السابق، يكون الغرض من خطوة إدارة ترامب حشر القيادة الفلسطينية الرسمية في زاوية ضيقة، لإرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، بناء على الشروط الإسرائيلية، أي من دون تجميد الاستيطان، وهو الشرط الذي يضعه المفاوض الفلسطيني منذ سنوات، ثمناً لاستئناف المفاوضات. يتزامن هذا مع إعلان مسؤولين في البيت الأبيض أن صهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر، والمبعوث الأميركي للسلام في المنطقة، جيسون غرينبلات، وكلاهما يهودي أرثوذكسي متعصب لإسرائيل، يعكف مع فريقه على وضع إطار لتسوية سياسية إقليمية كبرى في المنطقة، تكون تسوية “الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي” في قلبها، أو ما يسميه ترامب “الحل النهائي”، على الرغم من أنه لم يعلن إلى اليوم صراحة تمسكه بحل الدولتين. وحسب تسريبات، فإن بعض ملامح هذا “الحل النهائي” تضمن وجوداً عسكرياً لإسرائيل في الضفة الغربية وغور الأردن، اللذين لن تنسحب إسرائيل منهما كليّاً، حسب القرارات الدولية، كما أنها تُصَدِّرُ مشكلة اللاجئين إلى الدول التي تستضيفهم، عبر إلغاء حق العودة، والقيام بتجنيسهم في الدول التي يقيمون فيها، أو في دول أخرى تقبل بهم. أما “القدس الشرقية” التي يطالب بها الفلسطينيون عاصمة لهم، فلا يبدو أنها ستكون كذلك.
في التفاصيل، وحسب تسريباتٍ من داخل الإدارة الأميركية، فإن فريق كوشنر- غرينبلات يعمل على صياغة “خطوات بناء ثقة”، للوصول إلى “الحل النهائي” من دون الالتزام بسقف زمني “وَهمي”، ومن دون فرض أميركي لبنود اتفاق، حسب غرينبلات. من الناحية العملية، تتضمن “خطوات بناء الثقة” بنوداً ستفرض، ولكن على الفلسطينيين، بالدرجة الأولى. من ذلك، الاستمرار بالتعاون الأمني الشامل مع إسرائيل، والتعهد بعدم السعي إلى الانضمام إلى مزيد من المنظمات الدولية، فضلاً عن وقف الدفعات الشهرية لعائلات المعتقلين الفلسطينيين الذين تتهمهم إسرائيل بـ”الإرهاب”. في المقابل، ستطلب إدارة ترامب من إسرائيل الحد من توسعة
المستوطنات القائمة (لا تجميدها)، وعدم بناء مستوطنات جديدة، وربما السماح للسلطة بمد صلاحياتها المدنية لتشمل مساحات محدودة وضيقة في المنطقة المصنفة (ج). أما إقليمياً، فإن دولاً عربية، مثل السعودية والإمارات، سيطلب منها، إجراءات لتعزيز الثقة مع إسرائيل، من ذلك السماح للطائرات الإسرائيلية التحليق في أجوائها، وتعزيز الصلات الاقتصادية مع إسرائيل. الأدهى من ذلك، أن كوشنر نجح في إقناع السعوديين بتبني إطار الحلِّ الذي تتوخاه إدارة ترامب، وينتقص مما تبقى من حقوق الفلسطينيين، فحسب تقارير إسرائيلية وغربية، فإن استدعاء عباس إلى الرياض على عجل، في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، إنما هدف للضغط عليه إما القبول بالإطار الذي تنوي إدارة ترامب تقديمه، أو الاستقالة. وترى إدارة ترامب أن مقاربة محور السعودية- الإمارات لإيران أنها العدو المركزي في المنطقة، وأن إسرائيل حليف في المعركة ضدها، تعزّز فرص وجود موقف عربي ضاغط على الفلسطينيين، للقبول بحلٍّ يراعي الحساسيات والحسابات الإسرائيلية.
إذن، ليس قرار الخارجية الأميركية إلا أداة ابتزاز جديدة للقيادة الرسمية الفلسطينية، لكي تتنازل عمَّا تبقى من حقوق فلسطينية تهشمت وَمُيِّعَت، ولكن بضغط عربي أكثر شراسة مما سبق. ما يجري اليوم إنما هو انعكاس للحقائق الجديدة في المنطقة، حيث لم تعد إسرائيل، بالنسبة لبعض الدول العربية، عدواً، ولا حتى خصماً، بقدر ما أنها حليف وشريك في المعركة مع إيران، ومحورها في المنطقة. وبهذا تكون القضية الفلسطينية عقبة كأداء لابد من تسويتها. ولأن القيادة الفلسطينية الرسمية رَهَنَتْ كل خياراتها لمشروع التسوية السياسية التي تُهَنْدسُها الولايات المتحدة بناءً على المقاسات والمواصفات الإسرائيلية، فإنها لا تملك بدائل كثيرة، اللهم إلا أن تقرر قلب الطاولة على رؤوس الجميع، وإعادة القرار إلى الشعب الفلسطيني، وهو الأمر المستبعد جداً. وحتى يهدأ الغبار ويتضح المشهد، يمكن القول، بكثيرٍ من الثقة، إن الولايات المتحدة لن تقطع علاقاتها واتصالاتها بمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين، حتى لو أغلق مكتب البعثة في واشنطن، كما القيادة الفلسطينية لن تتمكن من الإبقاء على قرار تجميد الاتصالات مع واشنطن، فهذا فوق طاقتها، ولن يقبل به حتى حلفاؤها من الدول العربية. ألم يقل عباس، بعد قرار تجميد الاتصالات مع واشنطن، إنه على استعداد لعقد اتفاق “سلام تاريخي” تحت رعاية ترامب!؟ لا شيء جذرياً قد تغيَّر.
أسامة أبو ارشيد
صحيفة العربي الجديد