تخطت الكثير من دول العالم مرحلة محو الأمية التقليدية، أو الجزء التمهيدي من مراحل محو الأمية – المتمثل في تعلم القراءة والكتابة -ولكن تتبقى مراحل أخرى متقدمة منها، كي يستطيع الفرد أن يكون مشاركاً وفاعلاً في المجتمع، خاصة تلك التي لا تزال في مرحلة النمو الاقتصادي. ذلك أن الجهل يعد سببا رئيسيا من أسباب عدة لبقاء تلك المجتمعات في هذه المرحلة، خاصة الجهل بالظروف الاقتصادية ( الأمية الاقتصادية).
وإذا كانت الدول الاقتصادية الكبرى تدرك أن الحروب تؤخر معدلات تنمية اقتصاداتها، وتكبد ميزانياتها مليارات الدولارات، بما ينعكس ذلك على ظهيرها الشعبي بالغضب ضد حكوماتها التي تأخذ قرارات الحروب، مثلها مثل القرارات والإجراءات الروتينية اليومية- فقد أيقنت تلك الدول حجم الضغط الواقع عليها من قبل شعوبها، ونظرات العالم السلبية لها، وكان عليها أن تراجع سياساتها الاستراتيجية الهجومية على أعدائها، أو على ما تخلقه ليكون عدوا لها، طبقا لرؤيتها للحفاظ على أمنها القومي، وسياساتها الاستباقية في تحقيق الدفاع عن أمنها الداخلي من ناحية، وتعزيز وجودها الإقليمي والدولي، من ناحية أخرى، دون أن تخسر شيئاً.
من هنا، فهذه المعادلة لا تتحقق إلا من خلال خلق وابتكار خاصية الاقتتال الذاتي للشعوب، وذلك من خلال ثلاث مراحل. أولاها: بث المعلومات الخبيثة. ثانيتها: التأثير النفسي جراء تلك المعلومات. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فتتمثل في الصراعات والثورات والفتن بين الشعوب وذاتها، راصدة فئاتها المختلفة الفاقدة للوعي المجتمعي.
وقد كان نتاج تطور تلك السياسات هو ظهور جيل رابع من الحروب، لذا نجد أنفسنا أمام ظاهرتين أخذتا مزيداً من التطور، الأولى: بروز الأمية الاقتصادية، والأخرى: ظهور حروب الجيل الرابع.
وبالفحص والتحليل، نكتشف وجود ارتباط وطيد بين الظاهرتين. فإذا اعتبرنا أن حروب الجيل الرابع فيروس يحتاج إلي بيئة خصبة للتعايش والتكيف داخلها، فلن يجد بيئة تحقق له أقصى درجات الخصوبة والتآلف سوى مع الأمية الاقتصادية داخل المجتمعات النامية.
لكن لماذا الجهل بالظروف الأقتصادية تحديدا هو البيئة الأكثر خصوبة لتكاثر تلك الحروب؟ هنا، وجدنا أن الاقتصاد، ببساطة، هو المعيار الذي تخرج منه الانبعاثات التي تترتب عليها جميع الآثار والتداعيات في مختلف الأصعدة، سواء كانت سياسية، أو اجتماعية، أو غيرها.
إذ إن قوة الاقتصاد توفر للدول السياسة القوية، والكلمة المسموعة والمؤثرة على المستويين الإقليمي والدولي، وكذلك أيضا المال لتحقيق المزيد من برامج الحماية والعدالة الاجتماعية بمفهومهما الشامل. أما حال ضعف الاقتصاد، أو بقائه في بوتقة مراحل النمو، فلن تستطيع أي حكومة من حكومات الدول النامية أن تتخطى تلك البوتقة لتحقق التقدم، إلا إذا كان يوجد إيمان بالتنمية من قبل الشعوب.
ومن ثم، فإن حالة الإيمان بالتنمية لن يتم الوصول إليها إلا عبر محو الأمية الاقتصادية، إذ نجد وقتها رسوخ الثقافة الشعبية للعمل، والإنتاج، والصبر، والتحمل لما تفرضه التنمية من ضريبة قاسية حتى تصل بالشعوب للرخاء.
لكن الأهم أن تكون خطط التنمية صادقة خالية من الغيوم، أو تجميل للواقع المظلم، حتى يكون الإيمان بها أيضا مطلقا، وخاليا من الشوائب النفسية التي قد تعطل استراتيجياتها، وتزيد من غياب الإيمان الشعبي بها.
لذلك، وجب الآن على المجتمعات النامية أن تمحو أميتها الاقتصادية، وتتعرف على حقيقة اقتصاداتها في صورة بسيطة بعيدة عن مصطلحات المتخصصين الاقتصادية المعقدة، حتى يتفهمها المواطن الأمي، قبل المتعلم، فكيف يؤمن الفرد بتنمية دولته، وهو لا يعرف معنى عجز الموازنة العامة، ويجهل بخلل ميزان المدفوعات، بعيدا كل البعد عن تداعيات حجم الدين الداخلي والخارجي، وغيرها من المصطلحات التي تخص قضايا مهمة بمفاصل الظروف الاقتصادية للدول؟
في ضوء ذلك، لم يعد محو الأمية الاقتصادية خيارا، وإنما ضرورة لبقاء مجتمعات تلك الدول على قيد الحياة، لأنه إذا تخللها فيروس حرب المعلومات الخبيثة، أي الجيل الرابع من الحروب، فلن تبقى تلك المجتمعات سوى جثث هامدة تنهش بها الصراعات، والفتن، ويتنامي بها عدم الثقة والمصداقية بحكوماتها.
فذلك الفيروس وحده يستطيع أن يبث للعقول، ويصور، من خلال وسائل تناقل المعلومات، وأبواقها المختلفة التقليدية وغير التقليدية، أن قرارات الإصلاح الاقتصادي السليمة والجادة التي تتخذ من قبل الحكومات ليست سوى استكمال لمزيد من الفشل الإداري للدولة.
كما يستطيع هذا الفيروس أن يهيئ الضريبة القاسية التي تفرض لتحقيق الإصلاح التنموي على أنها تعسف من الحكومات ضد شعوبها، فضلا عن أن حرب المعلومات الخبيثة قد تدفع الشعوب إلى الإضرابات والاعتصامات ضد الحكومات، مستغلة الحقوق المشروعة لأصحابها لتنهار أمامها الموازنات العامة، رضوخاً لما تفرضة تلك الإضرابات من شروط وطلبات لا تتحقق سوى بالاستدانة لتحرز الكثير من العراقيل الاقتصادية التي بالطبع تؤخر تنفيذ خطط التنمية، فتظل الشعوب في حلقة مفرغة من عدم الثقة تجاه حكوماتها، ويغيب التقدير والتفاهم الشعبي الحكومي.
من هنا، تظل المجتمعات في بوتقة مراحل التنمية بشكل أبدي خال من الأمل لما يمكن تحقيقه بعد تلك المراحل. وفى ضوء ذلك، علينا أن ندرك أن الأمية الاقتصادية هي أحد المعطلات الرئيسية لاستراتيجيات التنمية، وأن العمل على محوها يوفر السكون، والترقب الشعبي المطلوب ليتحقق الاستقرار الشعبي الدائم لما يراه من بوادر للتنمية.
بتطبيق تلك الرؤية على وضع الدولة المصرية، بحسبانها قوة ظاهرة ومؤثرة بالشرق الأوسط ، ومستهدفة من قوى خارجية، خاصة أنها لا تزال تشق طريقها للتنمية، فإنها أكثر عرضة وتأثرا بحروب الجيل الرابع، في ظل الأمية الاقتصادية على الصعيد المجتمعي.
ويفرض ذلك علينا حالة تنبئية بضرورة العمل على محو الأمية الاقتصادية، وخلق مسارات اقتصادية، حتى يتم تشكيل وعاء معرفي، ووعي جمعي للمصريين بمفاصل وظروف ومتطلبات الحالة الاقتصادية الراهنة لكل مرحلة من مراحل التنمية.
فإذا كانت شعبية القيادة السياسية المصرية قد استطاعت تخدير ألم الأمية الاقتصادية في الجسد المصري، وتوفير الردع والمقاومة للمعلومات الخبيثة، منذ ثورة الثلاثين من يونيو، وتولي الحكم، وتحمل المواطنين حزمة من الإجراءات والقرارات الإصلاحية الاقتصادية التي تعزز خطوات وخطط التنمية الحقيقية، فإن هذا المخدر (الحب والتأييد الشعبي) قد يفسد مفعوله في ظل توالي الفترات الرئاسية القادمة، والمسار الديمقراطي الذي يقبل عليه الواقع المصري.
فما الذي يضمن أن القيادات السياسية القادمة تستطيع أن تملك مخدراً لهذا الألم المخيف الذي يمكن في ظل حرب المعلومات أن يكون وقتها جرحاً أكثر عمقا.
لذا، علينا أن ننتبه ونأخذ الحيطة والحذر من هذه الإشكالية المتوارثة في المجتمع المصري، ألا وهي الأمية الاقتصادية. وأخيرا، لا نستطيع سوى قول إن الثورات وحروب الجيل الرابع كلتيهما لهما هدف مشترك، وانعكاسات مختلفة. فالهدف هو إسقاط الأنظمة السياسية، فتكون انعكاسات الثورة وقتها اجتهادا وبحثا عن واقع منير. أما المعلومات الخبيثة للجيل الرابع من الحروب، فتقود هذا الواقع إلى الهاوية.
محمود الشوربجي
مجلة السياسة الدولية