يلزم أن نتغاضى عن صور لقاء بشار الأسد الأخير ببوتين في مدينة سوتشي، فالصور أُريد منها إيصال رسالة عن الطريقة المتعالية التي يتعاطى بها الروس مع حليفهم، وإفهام الآخرين بأنه تحت السيطرة التامة. يلزم أيضاً ترك التساؤلات عن تشدّق بشار الأسد بالسيادة الوطنية والحجم الذي ظهر به لدى استدعائه للقاء بوتين، فهذه التساؤلات تصلح للتسلية وتزجية الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، بما أن تنظيم الأسد يفهم السيادة على الوجه الذي يعني السيادة على السوريين والقدرة المستمرة على التنكيل بهم.
اللقاء الذي تم قبل قمة سوتشي الثلاثية، بين بوتين وأردوغان وروحاني، جرى إخراجه للقول أن الأسد تعهد «قيل بأنه وقع رسمياً هذا التعهد» بالمضي في العملية السياسية. ذلك التعهد نقله بوتين للعديد من الزعماء، قبل أن يدخل به القمة الثلاثية ليستخرج منها بياناً يؤيد فكرته حول عقد «مؤتمر وطني سوري» قريباً. ومع تأكيد موسكو أن المؤتمر لن يكون بديلاً عن جنيف إلا أنها تراهن على دعم أنقرة وإقناعها قسماً من المعارضة بالانضمام إليه، وربطاً بعملية آستانة تطمح إلى القول أنها استقطبت فعلياً غالبية القوى المسيطرة على الأرض، بما فيها على نحو خاص القوى الإسلامية الذاهبة بتشجيع من أردوغان.
نظرياً، يسهل الاعتقاد بأن الأسد سيَفي بتعهداته لبوتين، فهو قد حصل على صفقة القرن، ويصعب تخيّلُ أن يفوز متهم بجرائم حرب وجرائم الإبادة الجماعية… إلخ بمثل هذه المكافأة. العملية السلمية، بموجب الخطة الروسية التي تعهد بالالتزام بها، تنص على إصلاحات دستورية ومن ثم انتخابات عامة بمراقبة دولية، مع التنويه بأحقية بشار في الترشح للانتخابات المقررة. ذلك يتضمن تلقائياً عدم ملاحقته، وعدم خضوعه لأية مساءلة على الانتهاكات التي ارتكبها منذ آذار (مارس) 2011، وكما هو معلوم لم يُطرح ملف المحاسبة على جرائم الحرب على أجندة أي مؤتمر دولي حتى الآن.
سنتجاوز موقتاً فرضية استعداد موسكو لطي خطتها المعلنة بذريعة أو أخرى، ونفترض على سبيل التمرين الذهني أنها ستحترمها حتى النهاية. يبقى الجزم بنقض بشار تعهداته أمام بوتين، وهذا ليس بالتمرين الذهني مع وجود مبررات كافية للقول أنه لن يكتفي بالمكافأة الأثمن الموعود بها.
أيضاً، لا بأس في تجاوز وعود الإصلاح التي قدمها بشار للسوريين في مستهل عهده، ثم سرعان ما تخلى عنها، وتجاوز واقع تقديمه تلك الوعود للعديد من القوى الدولية من دون شعور بأدنى حرج أثناء التنصل العلني منها في ما بعد. يمكن البدء بما لا يخص السوريين، على اعتبار أنهم مستباحون سابقاً والآن، مثلاً، البدء من وعده الفرنسيين بالتوسط لإطلاق سراح صحافييْن اختطفا في العراق إثر الغزو الأميركي، ويومها ضجت الصحافة الفرنسية بخبر سربته الاستخبارات الفرنسية، مفاده اتصالات من دمشق تطلب من الخاطفين الاحتفاظ بالرهينتين.
قبيل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان بشار شخصياً قد وعد باريس والرياض بتشديد الحراسة المخصصة له ثم أوعز بسحب جزء منها. قبلها كان قد وعد باريس بتسهيل تنفيذ اتفاق باريس2، لكنه عاد فأوعز إلى رجالاته اللبنانيين بعرقلته. وقد يلزم التذكير بأنه بينما كانت أجهزة استخباراته ترسل قوائم بأسماء إســـلاميين إلى CIA، كانت أيضاً تدرب وترسل الإرهابيين إلى العراق. ولقاء مبالغ طائلة استـــضاف تنظيم الأسد سراً مسؤولين عراقيين هاربين من الحكم الجديد، ثم لم يتورع عن تسليمهم، وكان من قبل قد فتح خطاً شــبه رسمي لتهريب النفط العراقي في أواخر أيام صدام للالتفاف على الحظر الدولي.
قد يُقال أن الأسد لا بد أن يكون استفاد من درس الثورة القاسي، لكن إذا استرجعنا كمّ الكذب المستخدم منذ بداية الثورة لن نرى تغيراً يُذكر. مرة أخرى، نستبعد ذلك الكذب على السوريين المستباحين قبل وبعد الثورة. لم يطوِ النسيان بعد الأكاذيب على وفد مراقبي الجامعة العربية، إلى درجة وضع لوحات بأسماء مضلِّلة على مداخل بعض البلدات والمدن لإيهام المراقبين بأنهم موجودون في المكان المطلوب بينما هم في مدينة أخرى. لم يطوِ النسيان بعد موافقته على إدخال مواد إغاثية للمناطق التي يحاصرها، ثم التنصل أو السماح بدخول بعض الشحنات في حالات الضغط الدولي الشديد، بعد إفراغ تلك الشحنات خصوصاً من الأدوية الضرورية ومن أغذية الأطفال.
وأهم ما تذكّر به وقائع قريبة الكذب في إعلانه التخلص من مخزونه الكيماوي، وقد فنّدت لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة قضية القصف بغاز السارين تحديداً، وهذا داخل في صفقة الكيماوي ولا يُعتبر تحايلاً عليها كالاستخدام المتكرر للكلور. في هذه تحديداً نقض بشار تعهداته بموجب الصفقة التي قيل الكثير في أنها تضمنت بقاءه، وإذا قيل حين عقدها أنها صفقة تترك المجرم لقاء تسليم أداة الجريمة فقد ثبت وجود كذب حتى في تسليم تلك الأداة، ويجوز القول أن غاية استخدام السارين مجدداً ليست فقط في قبول العالم وجوده، وإنما أيضاً قبول التنصل من الالتزامات الدولية بلا عقاب، لا فحسب قبول إبادة السوريين بلا عقاب.
إذاً، هل يجرؤ على فعلها ونقض تعهداته لبوتين؟ كانت الجملة الوحيدة ذات المغزى التي نقلها الإعلام الروسي عن بشار الأسد في سوتشي هي: قبوله بعملية سياسية سورية من دون تدخل خارجي. ربما تكفي هذه الجملة التي تنطوي على القبول والنفي في آن، وكما نعلم لم يحدث في العلاقات الدولية أن تفرّغ رئيس دولة لوقف تحايل رئيس آخر على تعهداته. وإذا أبقينا على افتراض نزاهة موسكو في تنفيذ تسوية الحد الأدنى، وهي نزاهة مشكوك فيها أيضاً، فمن الصعب أن تأخذ حتى هذه التسوية طريقها إلى التنفيذ مع وجود بشار في السلطة. رحيله بهذا المعنى ليس شرطاً تضعه المعارضة، ولا تحكمه اعتبارات أخلاقية وجيهة، هو شرط لعدم عرقلة أية تسوية مهما بلغ إجحافها في حق السوريين. لا يصعب على أي سوري الجزم بأن بنية هذه الزمرة تصبح عبئاً حتى على حُماتها، وربما تكون نهايتها على أيديهم، والأكيد أن أحداً باستثناء السوريين لن تكون خسارته فادحة في انتظار كسب الرهان.
عمر قدور
صحيفة الحياة اللندنية