طرحت الأحداث المتعاقبة في اليمن، بعد انطلاق عاصفة الحزم، فجر يوم 26 مارس 2015، والتي بدأها تحالف عربي مكون من عشر دول بزعامة المملكة العربية السعودية، التساؤلات عن ماهية الأسباب والضرورات التي دفعت هذه الأطراف للمشاركة في هذا التحالف، بغض النظر عن طبيعة المخاطر والتداعيات التي قد تنجم عنها، وهل تنحصر هذه الأسباب والضرورات فقط في الجانب الأيديولوجي والطائفي فقط، أما أن هناك أبعاد جيواستراتيجية بالغة الأهمية تتعلق بالمكانة الاستراتيجية لليمن في المنطقة والعالم، وبالتحديد بسبب سيطرته على مضيق باب المندب المدخل الجنوبي الوحيد للبحر الأحمر نحو خليج عدن والمحيط الهندي، والمخاوف التي راودت الكثيرين بشأن إمكانية تحكم إيران من خلال حلفائها الحوثيين بهذا المضيق الهام إقليمياً ودولياً.
أهمية اليمن الاستراتيجية
يبلغ طول الساحل اليمني 2500 كيلومتر، ويُعدّ من أهم السواحل في المنطقة العربية والشرق الأوسط، حيث يُطل اليمن على البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي. ويملك اليمن أكثر من عشرة موانئ محورية، وجزر مهمة حاولت العديد من الدول، ولاتزال، السيطرة عليها، مثل جزر سقطرى وحنيش الصغرى والكبرى وكمران، وعشرات الجزر الأخرى بما فيها جزيرة “ميون”، التي تقع في قلب مضيق باب المندب، الذي يتحكم فيه اليمن، والذي تتسابق الأقطاب الدولية والإقليمية لبسط نفوذها عليه.
ويقدر عدد السفن وناقلات النفط العابرة من مضيق باب المندب بالاتجاهين 21000 سفينة، حيث تعبر فيه يومياً بين 50 و60 ناقلة من مختلف الأحجام، تساوي 30% من حمولات النفط عالمياً، وتمثل 7% من الملاحة العالمية.
الوجود العسكري في المنطقة
يعود الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة إلى القرن المنصرم، عندما حصلت الولايات المتحدة من إثيوبيا على محطة اتصالات “كاجينو” في أسمرة، ثم عززت وجودها في الصومال وكينيا عام 1980، بعد الإطاحة بالإمبراطور الأثيوبي هيلاسلاسي.
وقد أدت تجربة التدخل العسكري الفاشل في الصومال عام 1993 إلى ابتعاد الولايات المتحدة عن التدخل العسكري المباشر في المنطقة، إلا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 غيرت من الاستراتيجية الأمريكية، التي تبنت عملية إعادة انتشار واسعة للقواعد العسكرية حول العالم؛ فتأسست “قوة المهام المشتركة في القرن الأفريقي” في 19 أكتوبر 2002، في إطار “عملية الحرية الدائمة” لمحاربة الإرهاب، وعملت القوة من على متن حاملة الطائرات “يو إس إس ماونت ويتنى” في خليج عدن حتى عام 2003، عندما منحت جيبوتي الولايات المتحدة قاعدة “كامب ليمونيه” كمقر للقوة، وهي تتضمن نحو 4000 جندي أمريكي، وتستخدمها الولايات المتحدة في إطلاق طائرات بدون طيار إلى اليمن ومنطقة القرن الأفريقي، في إطار حربها على الإرهاب.
وإضافة إلى دورها كشرطي للمنطقة وكقوة عسكرية أساسية لمواجهة التطرف والإرهاب في المنطقة، فإن لإثيوبيا ثقل أساسي في استراتيجية البيت الأبيض في التحكم بالطرق الملاحية الدولية. وفي عهد الزعيم الأثيوبي ميليس زيناوي، وصلت قيمة مساعدات واشنطن لأديس أبابا إلى أكثر من 800 مليون دولار سنوياً، حيث تضم قاعدة جوية أمريكية في مدينة “أربامنش”، للطائرات المسلحة بدون طيار، بالإضافة إلى قاعدة “دير عدوة” التي يوجد بها عناصر كوماندوز أمريكيون.
وبحلول عام 2011، اتسع نطاق مسؤولية قوة المهام المشتركة ليشمل دول القرن الأفريقي، والتي تبعت القيادة الأمريكية المركزية، حتى تم تأسيس القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) في فبراير 2007، وتم ضم فوة المهام المشتركة إليها في أكتوبر 2008.
وقد ساهمت مشكلة القرصنة في تعزيز الوجود العسكري في المنطقة بعد قرارات مجلس الأمن التي سمحت بوجود سفن عسكرية للدول الأجنبية في مياه القرن الأفريقي لمواجهة القراصنة، وإطلاق الاتحاد الأوروبي لعملية “أطلانطا” في ديسمبر 2008، ونشر إيران والصين واليابان وروسيا والهند وكوريا سفناً في المنطقة، في إطار التنافس الدولي عليها. وتتمسك فرنسا بعد خروجها من أكثر مستعمراتها الأفريقية، بقاعدتها البحرية في جيبوتي، وبدأت فرنسا أيضاً في عام 2010 بناء قاعدة عسكرية لمكافحة القرصنة، بالتنسيق والشراكة مع الحكومة اليمنية. ويندرج في هذا السياق الاتفاقية العسكرية التي عقدتها الإمارات العربية المتحدة في أواخر عام 2014 مع الصومال، بهدف تعزيز التعاون الثنائي في “الشؤون العسكرية” بين البلدين.
الخليج والكماشة الإيرانية
تسعى إيران، وفقاً لبعض التقارير الغربية، إلى وضع استراتيجية عسكرية تمتد إلى عام 2025، وتهدف إلى نشر قواتها البحرية من مضيق هرمز إلى البحر الأحمر إلى مضيق ملقا. ففي هذه الحالة تكون إيران قادرة على تهديد حركة نقل النفط البحرية من خلال سيطرتها على مضيق هرمز من ناحية، ووجود حلفائها من الحوثيين على مضيق باب المندب بعد سيطرتهم على ميناء الحديدة من ناحية أخرى؛ وهو ما يضيف لها أوراق ضغط في علاقاتها الإقليمية والدولية.
وفي هذا الصدد، فإن ما ذكرته نبوءة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، قبل أشهر، بأن هدف الحوثيين هو الوصول إلى البحر الأحمر، وأن السيطرة على باب المندب (ومضيق هرمز) تغني عن امتلاك قنبلة نووية يبدو صحيحاً؛ إذ تعد اليمن بالنسبة لدول الخليج بمثابة “الخاصرة الرخوة”، التي لا مجال لتجاهل ما يجري فيها، أو السكوت عنه. كما يُعدّ الصومال بالنسبة لإيران من أهم النقاط الاستراتيجية، لإكمال الكماشة على كل من دول الخليج ومصر.
مصر والقلق على قناة السويس
تمثل سيطرة الحوثيين على اليمن تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، خاصة لقناة السويس، عبر التأثير سلباً على معدل مرور السفن بها، وبالتالي التأثير على إيراداتها أو تعطيل التوسعات الجديدة فيها. إذ تدر قناة السويس نحو 5.6 مليار دولار لمصر سنوياً، وبما يعادل نحو 10% من إيرادات النقد الأجنبي للبلاد.
وفي هذا السياق جاءت التصريحات والمواقف واضحة وحازمة، بأن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يجرى في اليمن، ففي أوائل أكتوبر الماضي قال رئيس هيئة قناة السويس، اللواء مهاب مميش: “مصر لن تسمح للحوثيين بالسيطرة على مضيق باب المندب لما له من تأثير على قناة السويس وحركة الملاحة فيها”. وفي فبراير الماضي، قال مميش إن “مصر لن تسمح بتهديد بوابة البحر الأحمر الجنوبية “مضيق باب المندب”، مؤكداً أن أمن المضيق من أمن قناة السويس.
التنافس الإيراني ـ الإسرائيلي في إريتريا
في إطار الاستراتيجية الإيرانية للتوسع في منطقة القرن الأفريقي، فإن لإيران وجوداً في الطرف الآخر للمضيق الواقع في إريتريا، وهو وجود يلفه نوع من الغموض الناتج عن تكتم الطرفين عليه، ففي مايو 2008، قام الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي بزيارة إلى طهران، ووقع الطرفان عدة اتفاقيات لتقوية التعاون بين البلدين في مجالات التجارة والاستثمار.
وفي 2009، وهو العام الذي دعمت فيه إريتريا علناً البرنامج النووي الإيراني، قام بنك تنمية الصادرات الإيراني بتحويل 35 مليون دولاراً أمريكياً لمساعدة الاقتصاد الإريتري.
ويرى العديد من الخبراء أن إيران استفادت من وجودها في المنطقة لتدريب المقاتلين الحوثيين وتأهيلهم عسكرياً بمعسكر دنقللو الإريتري، وتهريب السلاح إلى داخل اليمن، إلى جانب وجود قاعدة عسكرية إيرانية في ميناء عصب الإريتري، مقابل تزويد إريتريا بالنفط الإيراني بسعر مخفض.
وفي المقابل، هناك الكثير من اللغط يدور حول الوجود الإسرائيلي في إريتريا، لاسيما في ضوء العلاقات التي توصف بالمُمَيزة بين البلدين بعد استقلال إريتريا، وتعدد الزيارات المتبادلة، إذ تشير تقارير إلى أن ثمة وجوداً إسرائيلياً عسكرياً واستخباراتياً على مدخل البحر الأحمر في أرخبيل “دهلك” وميناء مصوع، لمراقبة حركة الملاحة في مضيق باب المندب، في ظل ما يلي:
ـ تشير التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية إلى أن البحر الأحمر يعد أحد الممرات الآمنة التي توفر الإمداد اللوجستي لحزب الله في لبنان، ليكون بديلاً في المستقبل عن الممر السوري.
ـ ثمة مخاوف إسرائيلية من انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة في كثير من مناطق أفريقيا، لاسيما في بؤر التوتر والصراعات الكبرى، خاصة في ظل حالات ضعف الدولة أو انهيارها كما هو الحال في الصومال.
ـ مخاوف إسرائيل المتزايدة من تعاظم أنشطة تنظيم القاعدة الذي جعل من اليمن نقطة الارتكاز الأقوى له، ولنشاطاته في شبه الجزيرة العربية، لاسيما بعد أن أخرجت الولايات المتحدة جميع جنودها من القاعدة الجوية في عدن مؤخراً، وأغلقت سفارتها بصنعاء، وعلقت الهجمات على مواقع تنظيم القاعدة.
ـ محاولة إسرائيل إحكام الحصار على نظام الرئيس عمر البشير في السودان، صاحب العلاقة “المثالية” مع إيران، التي طالما اتهمتها إسرائيل بتهريب السلاح المرسل إلى غزة عبر البحر الأحمر إلى السودان، الذي طاله القصف الإسرائيلي أكثر من مرة.
تركيا.. المنافس الثالث
لم تكن تركيا بعيدة عن هذه القوى المتنافسة في المنطقة؛ فإلى بجانب علاقاتها القوية مع السودان، قام داود أغلو بزيارة إلى إريتريا في نوفمبر 2012، وأجرى محادثات مع مسؤوليها، وبعد ذلك بعام افتتحت السفارة التركية في إريتريا، واعتُمدت السفارة الإريترية في الدوحة ممثلاً في أنقرة. وفي أغسطس 2014 بدأت الخطوط الجوية التركية تسيير رحلات منتظمة بين إسطنبول وأسمرا.
كما قادت تركيا عقد مؤتمر لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في اسطنبول، تمخض عنه تخصيص مبلغ 350 مليون دولار لمساعدة الصومال، ونُظّمت بعده حملة لجمع التبرعات بين أوساط الشعب التركي الذي استجاب بسخاء.
وفي إطار جولته في شرق أفريقيا في يناير الماضي، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارته الثانية إلى الصومال، إذ بدأت العلاقات بين البلدين بزيارة أردوغان إلى مقديشيو عام 2011 عندما كان رئيساً للوزراء.
وعلى الرغم من حداثة العلاقات التركية ـ الصومالية؛ فإن تلك الزيارة تعدّ بداية عهد جديد من علاقة شراكة استراتيجية، إذ تجاوزت مساعدات تركيا للصومال البعد الإنساني لتشمل التنمية والبنية التحتية والمؤسسات الخدماتية في قطاعات الصحة والتعليم والنقل، ومنها:
ـ أعمال الترميم والتجديد في مطار وميناء مقديشيو، وتدشين أول خط طيران دولي بين مقديشيو واسطنبول لأول مرة بعد عشرين عاماً منذ إغلاق مطار مقديشيو في وجه الطيران الدولي.
ـ إنشاء مستشفى مقديشيو (بسعة 200 سرير)، وإعادة بناء الطرق والبنية التحتية فيها.
ـ دخلت تركيا حلبة التنافس في تلك المنطقة، لاسيما في الصومال، وقد تمكنت شركة تركية من الفوز في سبتمبر 2014 بعقد لإدارة ميناء مقديشيو لعشرين عاماً، مما يرسخ النفوذ التركي في تلك المنطقة بشكل أكبر.
ووسط هذا التنافس الدولي على الوجود وترسيخه في تلك المنطقة الحيوية، تأتي عاصفة الحزم التي فتحت صفحة جديدة في التعاطي مع واقع هذا التنافس، ولتبقى مآلات هذا التدخل مرهونة بمجموعة من العوامل والتوازنات الإقليمية والدولية في منطقة من أكثر المناطق الاستراتيجية في العالم.