يشكل اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة للإسرائيليين ونقل السفارة الأميركية إليها صفعة جديدة توجهها هذه الإدارة الأميركية إلى العالم وقوانينه وقيمه. إنه استخفاف بالقرارات الدولية المتعاقبة التي صوتت عليها الحكومات الأميركية، وتجاهل لالتزامات أميركا في الشرق الأوسط من خلال الأدوار التي لعبتها في التوسط بين اسرائيل والفلسطينيين، ومن بين هذه الالتزامات رعايتها اتفاقات اوسلو التي تعهدت اسرائيل بموجبها بأن اي تسوية لمستقبل القدس يجب أن تتم بالتفاوض مع الفلسطينيين في اطار مفاوضات الحل النهائي.
ويعزل هذا الاعتراف الولايات المتحدة دولياً، ويحوّلها الى دولة لا تقيم وزناً للقانون الدولي ولا لقرارات مجلس الأمن، التي اجمعت على اعتبار القدس الشرقية أرضاً محتلة، ورفضت على مدى عقود الاعتراف بضمّها الى اسرائيل والزعم أن القدس بكاملها هي عاصمة إسرائيل «الأبدية». (دان مجلس الأمن إعلان إسرائيل القدس عاصمتها الموحدة سنة 1980). وظهرت العزلة الأميركية بوضوح خلال الاجتماع الأخير الذي عقده مجلس الأمن لمناقشة الاعتراف الأميركي، حيث كانت المندوبة الأميركية نيكي هايلي وحيدة في موقفها المدافع عن قرار ترامب، وفي حملتها على المنظمة الدولية بتهمة «انحيازها» ضد إسرائيل، فيما أجمع المندوبون الآخرون على إدانة القرار، واعتبروا انه لا يخدم فرص السلام في المنطقة. ودعت خمس دول حليفة للولايات المتحدة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد وإيطاليا) ادارة ترامب الى طرح اقتراحات تفصيلية للتوصل إلى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين.
يعتقد ترامب بأن قوة الولايات المتحدة وقدرتها العسكرية تتيح لها البلطجة حيث تشاء، وفرض القرارات التي تريد، بصرف النظر عن حقوق الشعوب والالتزامات الدولية. وفي ذهنه كتاجر ومقاول أن الغلبة في عقد الصفقات هي دائماً للأقوى ولمن يملك مالاً اكثر ولمن يستطيع نهب حقوق الآخرين. انها شريعة الغاب التي يعتقد ترامب انها لا تزال سائدة في العلاقات بين الدول، مثلما هي سائدة في نوادي القمار والملاهي والفنادق وملاعب الغولف التي يحسن إدارتها.
يفاخر ترامب أن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل هو إقرار بالأمر «الواقع». لكن «الواقع» الذي يبرر به ترامب قراره هو واقع احتلال الأرض الفلسطينية، وتزوير الحق اليهودي «التاريخي» في القدس. هذان الاحتلال والتزوير هما ما دفع الأسرة الدولية الى رفض زعم الإسرائيليين أن القدس هي عاصمتهم «الأبدية». لأن سيطرتهم على الجزء الشرقي من المدينة هي نتيجة الاحتلال والتهويد المستمر وطرد أهل المدينة من بيوتهم. والقانون الدولي لا يجيز السيطرة على أراضي الآخرين عن طريق الاحتلال.
لكن، وبصرف النظر عن الجدل حول الحق القانوني، فالواقع أن مشكلة اسرائيل ليست في اعتراف ترامب او سواه من رؤساء اميركا بها، ولا حتى في اعتراف العالم كله. مشكلتها هي في علاقتها مع الفلسطينيين والعرب، وفي اعترافهم بها، وهذه مشكلة لم تنجح كل المبادرات، تحت الطاولات وفوقها، ولا معاهدات السلام الثنائية، في دفع اصحاب القضية الى التخلي عن حقوقهم والاستسلام، على رغم الدماء التي سالت، والخلل الكبير في موازين القوى، وحالة العجز العربي والانقسامات، والخيانات التي فاحت روائحها، والضغوط التي مورست على الفلسطينيين، كونهم الطرف الأضعف والعاجز.
لا يضيف اعلان ترامب شيئاً الى «مكاسب» إسرائيل. حكومتها تقيم في المدينة المسروقة، وكذلك مجلس نوابها، والضيوف يزورونها من كل حدب وصوب. لكن اسرائيل تشعر دائماً ان ما ينقص، وما سيظل ينقص، هو الاعتراف (او الاستسلام) الفلسطيني والعربي، أمام «شرعية» الاحتلال الإسرائيلي للمدينة، على أمل تحويلها الى عاصمة.
إذا كان اعتراف ترامب قد أكد شيئاً فهو مدى عزلة إسرائيل والولايات المتحدة امام الرأي العام العالمي، عندما يتعلق الأمر باحتلال الأرض الفلسطينية وبمستقبل القدس.
إلياس حرفوش
صحيفة الحياة اللندنية