يوم الأربعاء الماضي، أعلن الرئيس ترامب عن تحول جذري في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط بإعلانه اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد حقق هذا الاعتراف واحداً من وعود حملته الانتخابية، واستجاب لطلب إسرائيلي قائم منذ وقت طويل، في حين أثار غضب الفلسطينيين والعرب ومعظم المجتمع الدولي. وعلى الرغم من أن فتح سفارة أميركية جديدة في القدس قد يستغرق سنوات، وأن ترامب أشار بعناية إلى أن تحديد حدود القدس يجب أن يتم من خلال المفاوضات، فقد كان هناك إحساس قوي بحدوث تحول لا رجعة فيه.
فيما يلي ثلاثة أمور ينبغي فهمها عن السياسات الإقليمية لمقامرة ترامب الخاصة بالقدس.
• لا توجد عملية سلام حقيقية ليتم تعطيلها
تركز جزء كبير من التعليقات التي أثارها الاعتراف على قراءة تأثيره على المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. وربما يكون هذا التقدير مبالغاً فيه.
كان وضع القدس دائماً إحدى القضايا الرئيسية التي تم وضعها جانباً وتأجيلها إلى مفاوضات الوضع النهائي. وقد نُظر دائماً إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل تقليدياً على أنه تنازل كبير يمكن تقديمه لإسرائيل في مقابل التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا الأخرى، مثل الحدود أو المستوطنات أو عودة اللاجئين الفلسطينيين. لكن ترامب منح إسرائيل هذه الجائزة مجاناً ومقابل لا شيء، بينما لم يعرض على الفلسطينيين أي شيء مهم في المقابل. وبينما يبدو التخلي عن عنصر أساسي من عناصر المفاوضات بشكل استباقي تكتيكاً تفاوضياً غريباً، فإن عدداً من المعلقين والدبلوماسيين السابقين قالوا إن نقل السفارة الأميركية إلى القدس يمكن أن يساعد مفاوضات السلام فعلاً.
على الأرجح، لن تكون للاعتراف بالقدس أي من المزايا الموعودة في المفاوضات، وستكون له القليل نسبياً من التكاليف الخطيرة. وليس ذلك لأن القدس لا تهم، وإنما لأنها ليست هناك عملية سلام حقيقية لتتم عرقلتها من الأساس، أو إمكانية حقيقية ذات مغزى لحل الدولتين ليتم تبديدها، أو القليل من الإيمان بحياد الولايات المتحدة ليتم نسفه.
على الرغم من الدبلوماسية المتقطعة، لم تكن هناك أي عملية سلام إسرائيلية-فلسطينية يعتد بها منذ فشل قمة كامب ديفيد التي رعتها إدارة كلينتون في العام 2000. فقد بدأت إدارة جورج دبليو بوش محادثات السلام في وقت متأخر فقط، ولم يكن لها تأثير يذكر. وسرعان ما تراجعت إدارة أوباما عن محاولة أكثر جدية لإجراء محادثات سلام في مواجهة رد الفعل السياسي، وجمود المفاوضات، والحاجة إلى التركيز على أولويات حاسمة أخرى مثل الاتفاق النووي الإيراني. وفي العقود الماضية، تغيرت الحقائق على أرض الواقع بصورة هائلة، وربما بطريقة لا رجعة فيها، بطرق جعلت من تحقيق حل دولتين أمراً لا يمكن الدفاع عنه.
• الاعتراف مهم للاستراتيجية الإقليمية للولايات المتحدة
لكن من المهم، مع ذلك، إدراك أن مقامرة ترامب قد تخرج مسار مفاوضات السلام، التي لعبت دوراً مهماً في تسهيل الأهداف الأميركية الإقليمية الأخرى، على مسارها. وكان السعي المرئي إلى تحقيق السلام، إذا لم يكن تحقيقه فعلياً، قد شكل منذ زمن طويل الآلية التي تقوم الولايات المتحدة من خلالها بالتوفيق بين تحالفاتها مع إسرائيل ومع الدول العربية المناهضة لإسرائيل ظاهرياً. ويبدو أن لمقامرة ترامب الأخيرة علاقة أقل بالسلام من علاقتها بما إذا كان هذا الغطاء ما يزال مطلوباً في هذا الوقت.
مع كل تشوشها التكتيكي وتناقض الرسائل التي ترسلها، كانت إدارة ترامب تتبع استراتيجية واضحة إلى حد ما في الشرق الأوسط، والتي تقع إلى حد ضمن الحدود الطبيعية. في الإطار الأوسع، يسعى ترامب إلى جمع الدول العربية الرئيسية وإسرائيل معاً في تحالف استراتيجي ضد إيران والتطرف الإسلامي. وليس هناك شيء جديد في مثل هذا الطموح. فقد سعت كل إدارة أميركية إلى التوفيق بين المتناقضات في تحالف متزامن مع إسرائيل ومع الدول العربية الرئيسية في الوقت نفسه. وقد خلصت كل إدارة سابقة، إما في البداية أو بعد تجربة شاقة، إلى أن السعي إلى تحقيق السلام الإسرائيلي-الفلسطيني هو أمر ضروري للحفاظ على هذا الهيكل الإقليمي. ومع انضمام مصر والأردن إلى معاهدات السلام التي توسطت فيها الولايات المتحدة، أصبح موضع تركيز هذه الجهود منذ فترة طويلة هو المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
وبذلك، لا تتعلق مقامرة ترامب في موضوع القدس بآفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني بقدر ما تتعلق باحتمال تشكيل التحالف العربي الإسرائيلي ضد إيران في غياب هذا السلام. وكان تعاون إسرائيل الضمني مع دول الخليج ضد إيران، الذي ظل طويلاً في الظلال، قد بدأ يزداد انفتاحاً على الرغم من غياب السلام الإسرائيلي-الفلسطيني. ويحتمل كثيراً أن تفرض مقامرة القدس إصدار حكم علني على هذا التحالف شبه السري.
• السياسات الإقليمية ستحدد ما إذا كانت مقامرة ترامب ستنجح
يُحتمل كثيراً أن تجعل الاتجاهات الرئيسية في السياسة الإقليمية هذه المقامرة تنجح. فقد أوضحت المملكة العربية السعودية وشركاؤها الرئيسيون أنهم يعتبرون المواجهة الإقليمية مع إيران أهم أولوياتهم الاستراتيجية. وتبدو السياسة الإقليمية العربية مستقطبة ومجزأة بشكل عميق، فيما يرجع في جزء منه إلى الحملة السعودية-الإماراتية المستمرة منذ ستة أشهر ضد قطر. وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد عكف على تحطيم المعايير في مسار توطيده السريع للسلطة. وبعد اعتقاله المذهل لمئات الأمراء، وطريقه معاملة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والتجاهل العنيد للتكاليف الإنسانية للحصار على اليمن، مَن يستطيع أن يستبعد تجاوزاً آخر للقواعد القديمة للسياسة العربية؟
ما تزال المشكلة الفلسطينية مستمرة في أن تكون من القضايا القليلة التي توحد بين هذه الجماهير العربية المنقسمة بشدة. ولا شك في أن العرب ما يزالون يهتمون بعمق بالأراضي الفلسطينية، أو في أن للقدس صدى عاطفيا وسياسيا غامرا. وقد يكون هذا الاهتمام كامناً غير ظاهر، ولكن البحوث المسحية وبيانات وسائل الاعلام الاجتماعية على حد سواء تبين أنه حقيقي وكثيف. والسؤال الرئيسي هنا هو ما إذا كان يمكن أن يكون لهذا الرأي العام أي تأثير يعتد به على سياسات الدول العربية. وقد تركز اهتمام الرأي العام العربي في السنوات الأخيرة على الحروب في سورية واليمن، وعلى الاضطرابات السياسية المحلية. وتواجه جهود التعبئة الجماهيرية في معظم البلدان العربية عقبات حادة في أعقاب العودة إلى أشكال وحشية من الاستبداد.
حتى الآن، اتحدت الأنظمة العربية مع غضب الجمهور على القدس، مما يوحي بأنها تفهم الحاجة إلى الخطو بحذر بالغ. وسيكون من شأن نشوء ترکیز إقلیمي علی الأراضي الفلسطینیة أن یحول الميزان السیاسي بعيداً عن الکتلة السعودیة والإماراتیة، وأن یقدم لخصومھا القطریین شريان حیاة سیاسياً. وقد انتقدت، حتى الأنظمة العربية المتناغمة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة، علناً خطوة الاعتراف بالقدس، وسمحت لوجهات النظر المنتقدة بالظهور حتى في وسائل الإعلام التي عادة ما تكون خاضعة للسيطرة الشديدة في الفضاء العام. وربما تخشى هذه الأنظمة فقدان الأرض السياسية لقطر، وكذلك إيران، والحركات الشعبية، أو للمنابر الإعلامية مثل قناة الجزيرة التي تتبنى التعبئة حول مسألة القدس. كما لا يسعها سوى أن تخشى أي شيء قد يجلب الاحتجاجات مرة أخرى إلى الشوارع، ويعيد الآمال في التغيير السياسي من الأسفل الذي ظلت هذه الأنظمة تسعى إلى إخماده بشكل منهجي على مدى السنوات الخمس الماضية.
تتشابه الديناميات الراهنة مع التداعيات السياسية لحروب إسرائيل ضد حماس في غزة. والسؤال الرئيسي الآن هو ما إذا كانت الأنظمة العربية ستفعل أي شيء أكثر من الاحتجاج على الاعتراف، أم أنها ستعود إلى التعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران بمجرد أن تخفُت العواطف. وربما تكون إدارة ترامب على حق في أنها ستفعل ذلك بسرعة، إلا إذا ظهرت تعبئة فلسطينية جدية ومستدامة، والتي يمكن أن تدفعها نحو موقف أكثر صرامة.
مارك لينش
صحيفة الغد